السمراء فتنة وجمال) دراسة حول قصيدة “سمراء” للشاعر الأستاذ الدكتور عبد الباسط عطايا ل د. سعيد محمد المنزلاوي

مدخل


الجمال هو ما تغنى به الشعراء، فللشاعر من الرؤية والبصيرة ما يجعله يرى الجمال وإن خفي، ويتلمس دقائقه وإن دق. والإنسان الذي خلقه الله بيده، هو آية الجمال والكمال، ودليل القدرة الباهرة؛ فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ووزع بين خلقه المواهب والعطايا، فلكل قسط من الجمال وحظ من الكمال ونصيب وافر من العطايا والهبات. وللفتاة السمراء قسط وافر من هذا الجمال، بل إن جمالها قاتل وآسر، يفتك بصاحبه ذاك الذي وقع أسير طرفها، فسُلب جنانه ولبه.


بين يدي العنوان


يثير عنوان القصيدة كوامن النفس وركام الذكريات “سمراء” تغْني بمفردها عنوانًا وحكاية وسردًا، حيث تتعاقب عليها الضمائر، والتي تخبر عنها جميعًا:
أنا سمراء، أنت سمراء، هي سمراء.. ما يجعل للسمراء هيمنة وتسلطًا على النص بدءًا من عتبة العنوان وتكرره بلفظه في النص باللفظ تارة وبالإشارة تارة أخرى.
السمراء هي أنشودة الشعراء، غنى لها “عبد الحليم حافظ”، من كلمات الأمير عبد الله الفيصل:
سمراء يا حلم الطفولة يا منية النفس العليلة
كيف الوصول إلى حماك وليس لي في الأمر حيلة
وبحث عنها “محرم فؤاد” في أغنيته “أبحث عن سمراء” من كلمات “ميشيل طعمة”:
أبحث عن سمراء قامتها هيفاء
وفم من عنبر وبثوب أخضر


مفاتيح النص


1) “سمراء” وهي العنوان، وترددت في النص مرتين: في عروض البيت الأول، وضرب البيت الخامس، وما بين العروض والضرب تقوم بعبقها على جنبات النص من عتبة العنوان وحتى نهايته. فالسمراء لون، حاول الشاعر أن يجعل له مزية على البيضاء والحمراء، والسمراء وصف لتلك الفاتكة بطرفها، فسلبت الفتى لبه وجنانه.
2) التمائم – السبي، إشارة إلى هيمنة السمراء وغلبتها، فلا يطيش لها سهم، ولا يحول دون مرادها شيء.
3) الهوى – فتن، هو ذلك الشرك الذي أوقعت فيه السمراء ذالكم الفتى، فأمسى أسير الطرف، رهين الجوى.
لغة القصيدة
حوارية، فهي خطاب يوجهه الشاعر للآخر (الفتي)
مَن الفتى؟ الشاعر أم غيره؟
إن القصيدة أشبه بحديث النفس، حيث جرد الشاعر من نفسه آخر، وراح يخاطبه.
دلالات وإشارات

  • السمراء في مقابل الحسناء والغلبة للسمراء.
    وكأنه سباق محموم بين جمال سافر، وبين در مكنون، بين جمال ملحوظ مكشوف كالشمس، وبين جمال تشف عنه خلال وتبرزه مواهب
    لذلك كان القلب في الجوف، وكان الضمير مكنونًا داخل النفس، وكانت الروح سرًّا خفيًّا رغم إحاطتها بنا إحاطة السوار بالمعصم.
    الخفاء جمال، بهاء، زينة وجلال. لولا أنه ذو قيمة ما توارى، فالدر في القاع مسكنه ومكمنه، وكذا كل غال ونفيس.
    إن المرأة التي تعطيك سر جمالها من أول وهلة، يذوى الإعجاب بها سريعًا. لكنَّ تلك السمراء، والتي تستبيك بلحاظها، بثغرها، بدلها ودلالها، فتكتشف بعد كد وتمعن وتبصر أسرار جمالها، وتعيد الكرة مرات ومرات، فتقع أسير اللون، وتنجذب إلى صاحبته، إلى الفتنة وقد تجسدت في تلكم السمراء.
    إن السمراء هنا تأتي في مقابل الحسناء والتي لم تكن لتملك قلب الفتى كما ملكته تلك السمراء. فماذا وجد فيها حتى أسرت لبه واستولت على جنانه؟
    إن السمرة هي آية الجمال، ليست الجمال الحسي أو ذاك الذي يأخذك من الوهلة الأولى، ثم يفتر ويفقد سحره وجاذبيته، ولكنَّ جمال السمراء على النقيض من ذلك، إنه جمال لكي تلمس دقائقه وتحيط بكنهه يعوزك إلى إعمال الفكر وتأمله في روية، فإذا ما وقعت على دقائق ذلك الجمال، كان له في النفس وقع وأي وقعٍ، وأثرٌ وأي أثرٍ. ويبقى جمالها فريدًا، وحسنها عزيزًا، ودلالها نادرًا.

بين يدي النص


(فتنتْ وجودك في الهوى سمراء وعلى عيونك حارسٌ ومَضَاءُ)
الكلمة الأولى في النص هي “فتنت”، وهي فعل ماض، جاء فاعلها نكرة، متوجة عروض البيت الأول “سمراء”، والتي تتفق وزنًا وقافية مع الضرب.
إن الفكرة التي يدور حولها النص هي الإقرار بالفتنة والجمال للسمراء، والتي لا نعلم من معالم جمالها إلا تلك السمرةُ الآسرة، والتي وقع في هواها ذالكم الفتى.
الفتنة ابتلاء واختبار وامتحان. والفتنة هنا للوجود، والوجود يأتي في مقابل العدم. الوجود حضور يقابل الغيبة. الوجود بقاء، دوام. إن الفتنة لذاته، لكينونته. والفتنة للوجود تهدد هذا الوجود المتعلق بالهوى، وكأنه أمسى مسيرًا له ماضٍ إليه. هو إذن كلٌّ مفتون، وفتنة السمراء لم تمنعها عنه ما تذرع به، ولم يُجدِ معه ما على عينه من حارس أو سيف بتار.
ويبدأ البيت الثاني بتساؤل محموم:
(فبأي سيف تستبيك ولم تكن ترديك في بحر الهوى حسناءُ)

كأنما يستنكر أن تسبِيَه تلك السمراء. فهل – وقد عجزت جميع الحسناوت عن الإيقاع به ـ تستطيع تلك السمراء أن توقع به وتسبيه؟
ونلمح في البيت الثالث تلك القوة التي تنماز بها السمراء:
(عوذت نفسك بالتمائم يا فتى ما للتمائم في هواك هباءُ)
إن الفتى كان محصنًا عن الهوى والدخول إلى عالمه. تحصن بالتمائم فلم تجدِ نفعًا، وإنما هي محض هراء وهباء، إن تيار هواها كان عنيفًا وجارفًا.
ثم يتساءل في البيت الرابع:
(نفذت إليك بطرف عين فاتر أم في فؤادك بالحنين رجاء)
ترى هل استطاعت غزو قلبك بطرف عين منكسر النظر، أم كانت لديك رغبة ومنك استسلام؟
إن أسره والنفاذ لقلبه كان بطرف عين فاتر، لا هو حار ولا هو بارد، وإنما هو بين بين، ومع ذلك أيقظ في الفتي كوامن الحنين في فؤاده.
والبيت يتناص ويتحاور النابغة الشيباني في قوله
(لَهُنَّ عيونُ العِين في صُوَرِ الدُّمى وطرْفٌ ضعيفٌ يَسْتبي العَقْلَ فاتِرُ)
ومع قيس لبنى في قوله:
(خُذُوا بِدَمِي ـ إنْ مُتُّ ـ كُلَّ خَرِيدة ٍ مَرِيضَة ِ جَفْنِ العَيْنِ والطَّرْفُ فاتِرُ)
ويتناص مع ابن القيسراني في قوله:
(ويقطع في الطرف والطرف فاتر فقل في مضاء السيف والسيف مغمود)
ومع الشاعر الأبيوردي في قوله:
(تَرْنو بِطرفِ غَزالِ فاترٍ دَعجٍ نَفْسي الفِداءُ لِطرفِ فاترٍ دَعجِ)
ومع ابن نباتة المصري في قوله:
(واطولَ أشجاني بطرفٍ فاترٍ ترك الفؤادَ بناره متوقدا)
إن حضور الطرف الفاتر في الشعر قديمه وحديثه ليمثل تيمة أثيرة لدى الشعراء لا تزال تتردد في أشعارهم، وقد سلك شاعرنا الدرب ذاته وغامر مع ذات الوصف، ولكن مع السمراء، وهذا ما ميز تجربته، وجعل لها الفرادة حين كسا من طرفها حسنًا وفتنة وسحرًا.
ويجيء دور الفعل والاستجابة للأسر في البيت الخامس:
(ورسمتَ من عين الطفولة عينَها حتى تميلك في الهوى سمراءُ)
إنه يحكي الخضوع التام والوقوع في الأسر حيث استدعى لها الهوى الغض الطفولي. فهو كالطفل الغر سرعان ما أمالته إليها بطرف عينها.
ويتكرر ذكر الطرف في البيت السادس:
(سحرتك بالطرف الجميل بديعةٌ فعليك من حكم الغرام قضاءُ)
إن الطرف ـ هنا ـ هو الكلمة المفتاحية للولوج إلى عالم النص، وهو الذي يضفي على تلك السمراء فتنتها وسحرها. ويضفي على الطرف قوته من السحر، والتي فعلت في الفتي الأفاعيل وجعلته منقادًا إليها.
ويتآزر البيت السادس مع البيت السابع في قوله:
(ستظل عمرك يا فتى تقضي لها حكم الهوى إن القضاء وفاءُ)
ثمة حكمان في البيتين السادس والسابع: الأول حكم الغرام، والثاني حكم الهوى. والغرام قوة الحب والهيام وعذاب القلب من أجل الحبيب، والهوى هو العشق والميل.
إن الهوى سقوط، وها هو الفتي قد مال لتلك السمراء، وبلغه من عذاب القلب ما بلغه. فعليه القضاء والأداء والوفاء لحكم الغرام والهوى. واختيار الشاعر للفظة قضاء وتكرارها في عجز البيتين الأخيرين، في قوله:

  • فعليك من حكم الغرام قضاء.
  • إن القضاء وفاء.
    وذلك الجناس التام بين اللفظتين مع تغاير المعنى، يزيد من الجرس الموسيقي؛ فكلتا اللفظتين من المصطلحات الفقهية، فلفظة “قضاء” في البيت السادس، تعني ما ثبت بالقدر إلى الوجود، ولفظة “قضاء” في البيت السابع، بمعنى أداء فعل ما بعد فوات وقته.
    إن الغرام قضاء وقدر وعليه أن يقضي عمره كله عشقًا وحبًّا وهيامًا لصاحبة الطرف الجميل ولتلك السمراء التي فتنته وسبته ونفذت إليه بطرف عين فاتر فسحرته واستمالته إليها.
    إن الذي حكم عليه هو الهوى، وسيبقى الفتي عمره كله يوفي للسمراء حق الحب والهوى.
    الصور الشعرية
    إن القصيدة دارت حول معنى واحد هو ذلك الطرف الآسر الذي أوقع في شباكه الفتى رغم ما يتحصن به من رقى وتمائم لكنها لم تغن عنه شيئًا.
    واستعان في إثبات ذلك المعنى بالعديد من الصور البلاغية؛ فنرى التجسيد في قوله “عين الطفولة” والذي تشوبه الاستعارة؛ ليرسم صورة تعدو بالزمن من الحاضر إلى الماضي ومنه إلى الحاضر مرة أخرى، مستجمعًا ملامح تلك العين الآسرة، والتي عبر عنها بقوله “سحرتك بالطرف الجميل”؛ ليبرر لنا ذلك الميل والانجذاب لتلكم السمراء.
    الموسيقا الشعرية:
    القصيدة من بحر الكامل، وهو أكثر بحور الشعر جلجلة وحركات، والتي تحكي ذلك الصراع الذي قاد الفتى إلى الوقوع في الشرك المنصوب له، ولذا جاء الشاعر بالضرب مخبونًا؛ ليزيد من عدد السكنات، فالفتى أمسى مقيدًا أسير الطرف عاجزًا عن الحراك، كما يحكي روي الهمزة المضمومة حال الفتى المسبي في قيده.
    إن الموسيقا الخارجية تتآزر في التأكيد على تلك القوة الساحرة في طرف السمراء، والتي نفذت إلى لبه، دون أن تعوقها التمائم أو التعاويذ.

وقد نوع الشاعر بين الخبر والإنشاء في إطار حواري جمع بينه وبين الفتى، وإن كانت الغلبة للجمل الخبرية؛ فالشاعر إنما يسرد واقعًا، ويصف حالًا، ويقرر حكمًا.
إن القصيدة تخفي أكثر مما تبوح، إن السمراء وردت نكرة وكذلك الفتى. وفي تنكير الأولى إضفاء للهالة والجمال والقوة والسحر، وفي تنكير الثانية إفادة للشيوع، وللتأكيد على أن تأثير السمراء فاعل في كل فتى مهما تأبى أو تحصن.
الأسلوب
وقد آنس الشاعر النص بجملة من الألفاظ الموحية، فلفظة “فتنت”، والتي يستهل بها النص، إنما ترمي بظلالها على القصيدة كلها، فما تعرض له الفتى بسبب طرف تلك السمراء، واستمالته لها دون مقاومة تذكر، إنما هو من آثار تلك الفتى، والتي نزلت عليه نزول القضاء. كما استخدم الألفاظ التي تؤكد على الفتنة والتأثير، نحو:

  • فبأي سيف تستبيك
  • نفذت إليك بطرف عين فاتر
  • سحرتك بالطرف الجميل
    كما يسوق الدلائل على الهيمنة الواقعة على الذات، فقد أمسى أسيرًا لها:
  • ما للتمائم في هواك هباء
  • فعليك من حكم الغرام قضاء
    الحكم على القصيدة
    إن الجمال سمراء وإن الفتنة سمراء، وهكذا برهن الشاعر وساق الأدلة والشواهد التي تؤكد ما وصل إليه. فلم يكن للفتى أمام سحرها وفتنتها حيلة، فوقع أسير هواها.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *