أفتح قنينة لأرتشف بعض الجرعات. يتحرر ما بداخلها وما بداخلي وينسكب ما بداخلها داخل الكأس، وما بداخلي خارج الزمن. ينفلت بصري مما بقربي ليرى الأفق وما بَعده وما وراء بُعده وبُعدي. أنظر إلى البحر الهادئ ثم إلى جسدي المرتعش متأملا السنين الكثيرة التي خلفتها ورائي وما وراء ورائي، ومعها تلك السنة، وذلك الصيف، وتلك اللحظة التي كان فيها البحر يتماوج هائجا بينما جسدي فيه يسبح هادئا واثقا من مهاراته. أنظر جهة الأفق فأرى السفن وقوارب الصيد وجمال الشفق الأحمر. أستنشق الهواء الرطب وأتذوق الرذاذ المالح المنعش، ثم ألتفت جهة الشاطئ فأرى حشدا من الناس متجمعين على الرمل. أفكر في أنهم ربما ظنوا أني أغرق فألوح لهم بإشارة النفي بأصبعي مطمئنا إياهم. ثم أتمدد على سطح الماء الناعم ككائن مائي، على سطح بحر يجري في عروقي كدمائي. على سطح بحر أعرفه وأعرف كائناته المائية في تناقض عجيب مع جهلي بالكائنات البرية إلى درجة أن صحت وأنا طفل ذات زيارة للبادية: حوتة حوتة حوتة، عندما رأيت ثعبانا تحت السرير.
أسبح باتجاه رمال الشاطئ، باتجاه شاطئ البحر وأحلامي. تلامس أقدامي الرمال المبتلة المنغمسة في المياه فأسحب جسدي المثقل نحو الحشد. أمشي فوق الرمال المبتلة ثم الجافة متجها صوب الحشد مخلفا على المبتلة آثارا مطبوعة تمحيها المياه وعلى الجافة آثارا مبتلة تبخرها الشمس، بينما تمحي الريح والشمس آثار البحر من على جسدي. أبحث لنفسي عن موضع وسط الحشد المتجمهر فيقع بصري على جسد منبطح فوق الرمال بالكاد يتنفس. أتساءل في نفسي إن كان المغمى عليه غريقا؟ فتجيبني نفسي بألا أحد يغرق بثياب جافة! أتساءل مستفسرا عن الأمر، فيتطوع صوت ويجيب بأن الرجل المسكين أصيب بدوار البحر على الرمل، لأنه لم ير بحرا من قبل. أتأسف، وأغادر تاركا المغمى عليه ممددًا على الرمل وأنا ادعو له بالشفاء.
أرتشف جرعة أخرى ثم ألتفت جهة الجبال فأرى واديَا بين جبلين. يجذبني جمال الوادي الجاف الملتوي كأفعى أسفل هذا الجبل الأغبر الذي أقيم في فندق على قمته. يُطوحّ بي جمال الوادي كموجة من قمة هذا الجبل الأغبر الذي يعلو هذا الوادي الجاف، ويرمي بي في واد آخر، واد مترع بالمياه. أتسلق المسافة الفاصلة بينه وبين قمة الجبل المشجر الذي يعلوه، ومن قمته ينطلق بصري مستمتعا بالأشجار التي تحيط بالجبل. أملأ رئتيّ بالهواء النقي ثم آخذ بالركض نزولًا مراوغًا الحشائش والصخور والأشجار منحدِرًا باتجاه الوادي الذي يعبره نهر متعرج ملتو كأفعى المياه، مثلما أنحدر دائمًا من أعلى هذا الجبل الأغبر إلى أسفل أول امرأة ساقتها أقدامها أو أقدارها إلى الوادي الجاف لتمد رجليها إلى السماء بعد أن أعياها مد الأيادي، وتفتح فخذيها لأول منحدِر من الجبل، ولمن بَعده ولمن بَعد بَعدِه إلى آخر منحدِر. تباعد ما بين فخذيها لتقرب ما بين أهلها وتجمعهم في بيت واحد تحت سقف واحد ببعض الأموال القذرة التي تمر فوق جسدها مقابل ما تبعيه من تحت هذا الجسد، ثم تبيّض تلك الأموال في جيوب أمها وأبيها وإخوتها. بينما أنا لا يهمني إلا أن أغمد رأسي فيما بين نهدين غير عابئ بالقرب والبعاد، مهتما فقط بالإدخال والإخراج كمستغور يحب اكتشاف المغارات، أو متوحش يهوى الكهوف. وكثيرًا ما أغمد رأسي بين نهدين مثلما أغمدته ذات انحدار من الجبل الأغبر ولم أفتح عيني إلا بعد أن استيقظت من الغيبوبة في مستشفى وأخذت أتحسس رأسي المشجوج بينما ترمقني الممرضة مبتسمة مهنئة إياي على نجاتي وهي تقترب مني لتخزني بإبرة معدنية. تلك الممرضة التي كادت تودي بحياة صديق جاء لزيارتي، ولم يكن هذا الصديق قد رأى نهود النساء من قبل، ولما انحنت الممرضة ورأى هو وادي صدرها وجبليه هوى بصره إلى الوادي من أعلى القمتين ودخل في غيبوبة.
أرتشف جرعة أخرى وأنظر إلى أسفل الجبل الأغبر بيت خالتي العجوز الذي كانت تسكنه منذ شبابها. خالتي التي شاخت وذهب عمرها في محاولات يائسة لإبقاء البيت شابًا بسلسلة من ترميمات أجهزت على كل سلاسلها الذهبية التي قايضت بها سلسلة من الحفر كانت تخترق جدران البيت فاسحة المجال للحشرات وللزواحف كي تدخل وتخرج متى تشاء والتي تآلفت مع سكان البيت إلى درجة أن صاح ابنها حنش حنش حنش عندما رأى سمكة في المطبخ.
أرتشف آخر جرعة من آخر كأس من آخر زجاجة من آخر سقطاتي، وأنا أتأمل الوادي والجبلين، والرمال والبحر، الممرضة والإبر المتنوعة. أتأمل الثعبان والسمكة، أتأمل طفولتي في المدينة وطفولة ابن خالتي في الجبل. أتأمل سقطاتي الكثيرة من أعالي قمم جبال مختلفة ثم أحاول تذكر أي من الجبلين أتواجد الآن، أفي قمة الجبل الأغبر أم في قمة الجبل المشجر. أحاول وأحاول لكني أعجز. وإذ يداهمني النوم أضع رأسي على الطاولة بين قنينتين وأنا أشعر بأني أضع قنينة بين رأسين.
القراءة
**
يا ليت الشباب يعود يومًا
فأخبره بما فعل المشيب
قالها الشاعر العربي المبدع أبو العتاهية..شعرا، وصاغها لنا المبدع العربي سعيد رضواني..نثرا.
- تعد تقنية التدوير من أصعب التقنيات السردية، وأجملها أيضًا، فما بالك وقد أضاف إليها الكاتب تقنية أخرى ألا وهى تقنية التكرار اللفظي والحدثي، وهى تقنية سردية برع فيها المرحوم يحيى الطاهر عبد الله واشتهر بها!
هاتان التقنيتان هما أساس البنية السردية للنص الذي بين يدينا، وهما كافيتان لنجاح أي إبداع سردي إن أحسن المبدع المزج بينهما، وخلق التوليفة السردية المناسبة لكليهما، وقد نجح فعلا المؤلف في ذلك، ولكن هل اكتفى بهما؟… الإجابة بكل بساطة – يراها جلية القارئ حين يطالع المتن – لا…لم يكتف!
إذ عمد بجرأة إلى الاستعانة بتقنية الخطوط المتوازية وبطريقة تختلف عما ألفناه في معظم إبداعات الرائع الروسي / انطون تشيخوف..مثل موت موظف، المغفلة، الرهان؛ حيث كان خطاه المتوازيان ( صاعد / هابط)، بينما الخطان المتوازيان هاهنا في هذه الأقصوصة خطان متوازيان هندسيا، لا يلتقيان إلا في نقطة اللانهاية، وهى هنا في قصتنا…خاتمتها؛ حيث التقى البطل ( الذات الساردة ) ب ابن خالته، والتقت الأم ب أختها، والتقى الجبلان عند السفح، انتهاءً بالجملة الخاتمة الجامعة (وإذ يداهمني النوم أضع رأسي على الطاولة بين قنينتين وأنا أشعر بأني أضع قنينة بين رأسين.).
** حرمان…نصٌ جمع بين الثنائيات المتضادة ( البحر / الصحراء، الماء/ الرمال، الجبل / الوادي، القمة / السفح، الحوت/ الحنش، الأغبر/ المشجر،…..) فهل ترك بابًا للطبيعة ولم يطرقه ؟!
** حرمان…نصٌ قدم لنا الطبيعة في كافة صورها تآلفها وتناقضها، الجماد، الحيوان، حتى البشر في اختلاف ردة أفعالهما تجاه المعضلة، فها هى انثى تبيع جسدها، وأنثى أخرى تبيع ذهبها! والهدف واحد !! وبصرف النظر عن شرعية الفعل فأن الدلالة أو الإشارة السيميائية هنا ذكرها الكاتب تصريحًا ( وتجمعهم في بيت واحد تحت سقف واحد /لإبقاء البيت شابًا)، كناية عن الدور الأنثوي المهم والرئيس لاستمرارية الحياة.
** حرمان ..نصٌ لخص حياة كل شخص منا في رحلته منذ الولادة وحتى ما قبيل الرحيل( الشيخوخة) وما مررنا به من عوائق ( الجبال/ البحار) واجتزناها، وما تعرضنا له من فتن؛ غرق بعضنا في مستنقعها ونجا البعض من أوحالها، لينتهي بنا المطاف مع أمراض شيخوخة، وعلاجات ومسكنات منها بالطبع التأمل فيما مضى من ذكريات، حتى يبدو الأمر لنا كهلاوس بصرية أو هو بالفعل كذلك…لا ندري ؟!
** حرمان…نصٌ يرمي إلى الكشف عن دواخلنا المخفية المتمترسة داخل كهوف معرفتنا؛ نحن نرى الأشياء كما نريد أن نراها وليس كما هي عليه ( وأنا طفل ذات زيارة للبادية: حوتة حوتة حوتة، عندما رأيت ثعبانا تحت السرير./ صاح ابنها حنش حنش حنش عندما رأى سمكة ) ومن ثم نكتشف في نهاية حياتنا أننا لم نكن نعرف شيئا (أضع رأسي على الطاولة بين قنينتين وأنا أشعر بأني أضع قنينة بين رأسين.// أحاول تذكر في أيٍ من الجبلين أتواجد الآن، أفي قمة الجبل الأغبر أم في قمة الجبل المشجر؛ أحاول وأحاول لكني أعجز. ).
الأديب محمد البنا