ثمة صلة بين صياغة التراث على أساس المفارقة وبين ظاهرة المزج بين المتوقع واللامتوقع والتي شاعت في أسلوب القصيدة الحديثة، كما في قصيدة “مواجهة مع الأعشى”، على وزن بحر البسيط، للشاعر (أحمد شلبي)، والتي يستهلها الشاعر بقوله:
(غَنَّى، وَمَنْ ذَا يُغَنِّي؟ قِيلَ: مُحْتَرِفٌ فِي ثَوْبِهِ الرَّثِّ يَحْكِي ذِكْرَ مَنْ سَلَفُوا)
تتشابك في النص تقنيات السرد من خلال تعاقب الأصوات، والمراوحة بين السرد والسرد الحواري، فتتوالى المشاهد التي يفوح منها الجو التاريخي، الذي يوقظ رائحة الزمن، وتسري بين كلماتها شواهد الصحراء، وآثار أقدام النوق، والتي تهيئ الخيال للنفاذ إلى جوهر القصيدة. فقد حوى البيت الأول ـ وحده ـ ثلاثة أصوات، الصوت الأول: صوت الراوي (غنى)، والصوت الثاني: صوت يسأل (ومن ذا يغني؟)، والصوت الثالث: صوت الجماعة تجيب (قيل: محترفٌ). ثم انتقل الحوار بعد ذلك بين الشاعر وصاحبه حتى نهاية القصيدة، وذلك من خلال تكثيف بنيتي الحوار “قال، وقلت”. وقد نشأ تعدد الأصوات في هذه القصيدة من ذلك الموقف الدرامي، والالتفات بين الضمائر فتعددت الشخصيات، وتعددت بالتالي الأصوات وتداخلت. فالأصوات داخل القصيدة تتحاور وتتداخل مما يعمل على إنضاج الموقف.
وقد استهل الشاعر القصيدة بلفظة “غنى”، وهي فعل ماض، والغناء يكون للمآثر والمفاخر والانتصارات وتأتي رمزية “الغناء” في هذه القصيدة على الضد، فلا شيء يغري بالغناء والشدو، فقد غاب المغني في غاب الصمت والقيد، حاملًا في جعبته كل هموم أمته، وانكسارات وطنه، مما يثير الهول، فهو لا يغني، وإنما يلهب بشدوه المهج.
(مِنْ يَوْم “ذِي قَار” فِي الصَّحْرَاءِ مُرْتَحِلٌ يَحْدُو عَلَى نَاقَةٍ عَجْفَاءَ تَرْتَجِفُ
الصَّنْجُ بَيْنَ يَدَيْهِ لاَ يُفَارِقُهُ وَمِنْ بَقَايَا نَبِيذٍ كَانَ يَرْتَشِفُ
ما بَالُهُ اليومَ لا يلْوي على أحدٍ أثَمَّ سُكْرٌ بهِ؟ أمْ يا ترى صَلَفُ
وقالَ لي صَاحبي: لوْ مرَّ ينْعطفُ فليس يرنُو ولا يدْنو ولا يقفُ
وَقَالَ: سِرْ خَلْفَهُ فِي كُلّ مُدْلَجَةٍ فَرُبَّمَا أَمْرُهُ المَجْهولُ يَنْكَشِفُ
فَقُلْتُ أَمْضِي فَإِنْ نُبِّئْتُ فَالشَّرَفُ وَإِنْ جَهلْتُ فَمَا أَخْطَانِيَ الشَّرَفُ)
تنبني المفارقة بدءًا من العنوان، والذي يمثل مواجهة بين الشاعر المعاصر والشاعر التراثي، فثمة مقابلة وجهًا بوجه وكلامًا بكلام، مما يشي بأن ثمة مواجهة تنم عن صراع من نوع ما بين الشاعر المعاصر والشاعر القديم. وفي الواقع هي مواجهة بين زمنين وعصرين؛ الأول عصر تغنى له الأعشى، والثاني عصر نعاه أحمد شلبي.
وتتولد في نسيج النص علاقة تبادلية، يتجلى فيها العناق بين الزمان والمكان بالرؤية المفارقية لهما من خلال ثنائية المقابلة بين ماضي الأمة الزاهر وحاضرها المخزي، والتي اتخذ فيها الشاعر من علم تراثي عنوانًا لها، مما يعيد إلى ذاكرة القارئ يومًا من أيام العرب المشهورة، وهو يوم “ذي قار”، وهذا الاستدعاء بمثابة استدعاء لواقعة من وقائع العرب المشهورة، والذي ارتبط في الوجدان العربي بالعزة والفخار، وهو لبني شيبان على كسرى. والسبب الذي جر إلى الحرب هو أن النعمان بن المنذر استودع حلقته – وَهِي السلاح والدروع – عند هانىء بن مسعود البكري، قبل أن يذهب إلى كسرى إثر الخلاف الذي نشب بينهما، فقتله كسرى. ثم طالب إِلَى هانِئ بن مسعود الشيباني يأمره بإرسال ما استودعه النعمانُ، فأبى هانئ أَن يسلم ما عنده. فلما أبى هانئ غضب كسرى، فبعث الهرمزان فِي أَلفَيْنِ من الأعاجم وألف من بهرا فبلغ بكر وائل فنزلوا ببطن ذي قار فوصلت الأعاجم واقتتلوا ساعة فانهزمت الأعاجم، وقضت وقعة ذي قار على هيبة فارس في الجزيرة العربية.
والشاعر يستدعي البعد التاريخي للقصة ثم يعكسها على الواقع العربي بكل أبعاده، جاعلًا من يوم “ذي قار” فاصلة تاريخية بين عهدين؛ حيث يتناص البيت السادس مع قصيدة “الأعشى” في وصف معركة “ذي قار”:
(لَوْ أَنَّ كُلّ مَعَدِّ كَانَ شَارَكَنَا فِي يَوْم ذَي قَار مَا أَخْطَاهُمُ الشَّرَفُ)
وتقود المفارقة الزمانية والمكانية الذات إلى العودة مرة أخرى إلى رؤية الذات للحدث بعين المفارقة، فبنى أحمد شلبي تجربته على مفاهيم مناقضة تمامًا لتجربة الأعشى؛ فالشرف عند “الأعشى” مرتبط بالقتال تحت لواء موحد في يوم “ذي قار”، وإحراز النصر، أما عند “أحمد شلبي” فيستوي في تحقيقه العلم والجهل بتاريخ قومه.
ومجيء السرد هنا بصيغة الماضي؛ لحديثه عن الأمجاد التالدة، والتي يشير “يوم ذي قار” إليها، وهو من مفاخر العرب، والتي وقعت في الزمن الماضي.
ثم تنقلنا القصيدة إلى مشهد حواري يحاول فيه الشاعر ـ دون جدوى ـ استنطاق الأعشى، بوضع الماضي المجيد مقابل الحاضر المهزوم:
(يَا سَيِّدِي أَيُّ سِرٍّ قَدْ سَرَيْتَ بِهِ مَاذَا تَرَكْتَ وَمَاذَا ضَيَّعَ الخَلَفُ
وَأَيُّ قَوْمٍ هُنَا يَوْمًا فَخَرْتَ بِهِم وَأَيُّ سَيْفٍ بِهِ الهَامَاتُ تُقْتَطَفُ
وَكُلّ قَرْمٍ جَعَلْتَ الشَّمْسَ مَوْطِنَهُ أَحَازِمٌ أَنِفٌ؟ أَمْ عَاجِزٌ خَرِفُ؟
وَهَلْ يَكُون لَنَا مِنْ صُلْبِهِ نَسَبٌ؟ أَمْ يَا تُرَى أَخْطَأَتْ أَرْحَامَهَا النُّطَفُ؟)
إن تأمل العنوان مليا ثم قراءة القصيدة، تبين ما ينطوي عليه العنوان من تمويه وخداع، وأن القصيدة ليست مواجهة إلا في العنوان وحده، أما محتواها، فبعيد كل البعد عن أية مواجهة حقيقية. فقصيدة “الأعشى” تحكي انتصارات قومه أما قصيدة “أحمد شلبي” فهي رؤية تهكمية لمعركة “ذي قار” أدت فيها صيغ الاستفهام دورًا مؤثرًا في إبراز رؤية الشاعر للواقع السياسي العربي قديمًا وحديثًا، فيلجأ إلى ماض زاهر يجد فيه عزاءً عن الواقع المخزي. ثم مواجهته بقوله:
(فَقَالَ لِي صَاحِبِي:
سَلْ، قُلْتُ: مَعْذِرَةً لَقَدْ بَدَا الحُزْن فِي عَيْنَيْهِ وَالأَسَفُ
ثُمَّ اخْتَفَي وَاكْتَفَي بِالصَّمْتِ حِينَ هَفَا لِظُلْمَةِ الرَّمْسِ وَالأَمْسِ الَّذِي يَصِفُ
لَكِنَّمَا ثَوْبُهُ البَالِي رَمَاهُ لَنَا مَا ضَرَّ يَا صَاحِبِي لَوْ مِنْهُ نَنْتَصِفُ)
ومع أن الفعل “قال” هنا ماض إلا أنه ينفتح على الحاضر والمستقبل بفعل السياق التنبؤي الذي اندرج فيه وكأن الجملة تركيبًا ودلالة تهيئ للانفتاح على المستقبل، فتحل الأفعال والصيغ المستقبلية محل الأفعال والصيغ الماضية.
كما يلفتنا التناص من السنة المطهرة في آخر لفظة من البيت الأخير، إشارة إلى قول النبي محمد ﷺ يوم ذي قار: «هَذَا أَوَّلُ يَوْمٍ انْتَصَفَتْ فِيهِ الْعَرَبُ، مِنَ الْعَجَمِ»؛ حيث يستثمر الشاعر المفارقة الأسيانة في البيت الأخير، ويحولها إلى مفارقة مضحكة، فلم يبق لحاضر الأمة سوي أسمالٍ بالية لا تدفع بردًا ولا تقي حرًا.
وقد نسج الشاعر مواجهته من ذات البحر الذي نسج عليه الأعشى قصيدته في، وصف معركة “ذي قار”، وعلى ذات الروي وذات الحركة. في ثوب مفارِقي تشير إليها تلك المواجهة المبنية على إدراك الفارق بين الحاضر والماضي.
ولا يخفى ما في بحر البسيط من رقة تناسب تحسر الشاعر على الماضي والذي لا حظ فيه للأحفاد سوى التعلق بذكر مجد قديم، ومفاخر سالفة. ومجيء الفاء المضمومة رويًّا يحكي تلك المآثر التي تغنى لها الأعشى وليس لنا منها شيء.
د.سعيد محمد المنزلاوي