ميلاد قاص تتدفق المعاني على أسنة قلمه وتهدر كنهر جارٍ لا يتوقف. تتداعى الصور ويأخذ بعضها بحجز بعض، تتشابك العبارات، عابرة النهر بين ضفتيه؛ لتحكي لقطة واحدة لفراق حبيبين، جمعهما النهر أيامًا، وشاهد فراقهما ذات يوم، ولا يزال النهر يجري، ولا يزال قلب القاص ينبض بالحب، يبحث عن التي التي يجري الحب في شرايينها كما يجري النهر. وكلما مضت قصة سرد النهر لصاحبنا قصصًا وقصصًا تسري عنه حينًا وتشعل فيه كوامن الحنين من أتون الذكريات أحيانًا. إنه حديث لا ينقطع مع النهر.
(حديث للنهر) قصة قصيرة للقاص عبدالصمد الشويخي ـ معلم مصري.
كلما اقتربنا من شاطئ النهر عاودنا الحنينُ لأحاديثِنا المقتضبةِ مَعَهُ، ولحكايانا وأسرارِنا التي لا يعرفُهَا سِوَاهُ؛ فالنَّهرُ صديقٌ كتومٌ، ومستودعُ أسرارٍ وصندوقٍ لقصصٍ كانت ولقصصٍ لم تروَ بعد… فكم جمعَ بينَ عاشقينِ أمضَّهُمَا الغيابُ، وأثقلَ كاهِلَهُمَا البُعَادُ؟!
وكم سَنَحَتْ لنا فِكَرٌ بينَ رَوَابِيهِ وجالتْ بنا خواطرٌ في لَيَالِيهِ؟!
نسماتٌ عليلةٌ وخريرٌ ناعمٌ وشمسُ مغيبٍ ناعسةٌ كعينيها النَّجْلَاوَينِ.
كم من سابحٍ غَرَقَ في لُجَتَيْهِمَا؟! وكم عروسٍ للنِّيلِ راحت بين طَيَّاتِهِ لكي يَفِيضَ؟! فالنَّهْرُ والْحُبُّ يَتَدَفَقَانِ عطاءً ويَفِيضَانِ عذوبةً وحنانًا…. كلاهما يجري في العروقِ ويخترقُ الشّرايينَ… كلاهما كلما زادَ فَيَضَانُهُ قتَّلَ وبدَّدَ، ودَمَّرَ… النهر لا يكبحُ جِمَاحَهُ أَحَدٌ إذا ثارَ وجاوزَ الْحَدَّ بغى وطغا والحبُّ كذلك عُنْفُوَانُهُ كبيرٌ… حينما لا يقابلْ بنفسِ الْقَدْرِ أو يَزِيدْ… يَفْتِكْ بالقلبِ… يَجْعَلْه يتنفسُ الصُّعَدَاءُ يَرَىَ حَبِيبَهُ في خلجاتِهِ وهَمْهَمَاتِهِ… حينما يُمْسِكُ كوبًا للشَّاي أو للحليبِ أو القهوةِ تترآى لَهُ صورةُ محبوبِهِ على وَجْهِ مشروبِهِ كما تترآى له صورتُهُ ظاهرة على وجهِ النَّهر وفي زَبَدِهِ وَعُبَابِهِ وَطَمْيِهِ ومَائِه… تلك الملامحُ ذاتُ العذوبةِ… تلك الضحكاتُ والبسماتُ تكونُ هناكَ على صفحةِ النَّهرُ… يحدِّقُ النهرُ في وجهِهِ ويَسْكُبُ داخلَ رُوحِهِ قَطَرَاتِ حنينٍ ووجدٍ، وشوقٍ…
تُرَدِّدُ الأمْوَاجُ اسمَ مَعْشُوقَتِهِ وتغني له بكلِّ لغاتِ القارةِ السمراءِ والدولِ التي ينبعُ منها ويمرُّ عَبْرَهَا ويَصُبُّ فيها وتَسْتَحُيلُ البحيراتُ كَمَنْجَاتٍ تَعْزِفُ ألْحَانًا خالدةً لأدريس جمَّاع، ومحمد الفيتوري، ومحمود حسن إسماعيل، وأمل دنقل، والأبنودي.
تروي قصصا، وروايات للطيب صالح في موسم هجرته إلى الشمال، وعبده جبير، ويحيي حقي، ويحيي الطاهر عبدالله…. فالنهر صانع حياة وهو رسام ماهر يجيد الرسم، ويُمْعِنُ في التشكيل تارةً، وفي التنكيل تارة أخرى، ويُضَمِّخُ وُجُوهَ مُحِبِيهِ ويَضُمُّهَا… يكسوهم حلاوةً وَيزِيدُهُمْ جَمَالًا… فحديثُ النهر حديثٌ خالدٌ ممتدٌ لآلاف السنيين يَحْمِلُ فِي طيَّاتِهِ موسى وَلِيدًا، ويغوصُ في أعْمَاقِهِ يوسفُ نَبِيًّا… فشهداءُ غرامِهِ كُثْرُ… أولئك المنتحرون من فوق الكباري الملقون بجثثهم وأحلامهم ليجرفها تياره العاتي … أولئك الذين تتحول أخطاؤهم لخطايا
يا ترى ماذا أخبروه قبل رحيلهم؟! وما الذي استودعوه من أسرارهم في رحلتهم الأخيرة ؟! لماذا غاصوا في باطنه؟! وعن أي شيء كانوا يبحثون؟!
هل كانَ اللقاءُ الأخيرُ لهم معه محضَ فراقٍ أبديٍّ لكلِّ ما يكرهون من زيف الحياة وكذبها أم أنهم أرادوا التطهر من أرجاس الحياة وخطاياها ؟! أم أنهم غاصوا ليجدوا في باطنه ما فقدوه من سعة الصدر وطمأنينة القلب وراحة البال؟!
أعرف أن صدورهم كانت تغلي فلم يجدوا لها برءًا ولا شفاءً إلا بين أحضانه… بحثوا عن الارتواء فلم يجدوه إلا بين شفتيه كانت أرواحهم عطشى أرادوا أن يستخرجوا خبيئته، ويجمعوا آخر ما تبقى من أصدافه… غرقوا في حبه ولاذوا به واستنجدوه فأغرقهم وأشبعهم موتا احتضنوه فخذلهم، وأخرج خنجره وطعنهم في سويداء قلوبهم.
إنه النهر وتلك هي حياته يحابي بعضا من الساكنين على ضفافه ويهبهم جمالا لا يليق إلا بهم، كعصا موسى لهم فيه مآرب آخرى… عالم من السحر والخيال والظلال… عبق الماء والأغصان والأزهار والأطيار… جنة تلك لا ينتهي نعيمها ولا يفنى جمالها… وكلما طال الحديث بيننا يا نهر لمعت بنات الخيال لمع آلٍ فيا ترى هل سيجمعنا النهر ذات مرة أم أنه سيبعثر ما تبقى من أحاديثَ وأسمارٍ؟!
جلس يتذكرُها والكلماتُ تخرجُ من شقوقِ الذاكرةِ حينما قالت: ودَاعًا.
قال لها وَادِعًا: وماذا بعدَ رحيلِكِ أنتُ؟!
فكلُّ النساء لدي سحابةُ صيفٍ، وكل الحقائق عندي أباطيلٌ وزيفٌ… سأكتبُ على وجهِ كلِّ دفترٍ لطالما أحببتكِ أكثر.
القاص عبد الصمد الشويخي