بطلة للكاتب سيد جعيتم

هبط عليه الخبر المشؤوم: تعال ابنتك نزفت من فمها وأنفها؛ وارتفعت درجة حرارتها، تحتاج حضانة مجهزة.
صُدم وعجز برهة عن التحرك أو التفكير، أفاق على صوت زوجته:
ـ ألم يطمئننا الدكتور المسئول عن الحضانة من ساعتين ان البنت أصبحت طبيعية وطلب أن نحضر لاستلامها في الصباح…
انخرطت بشدة في البكاء، رفعت يدها للسماء تدعو ربها:
ـ يا رب.
بدت المسافة بين سكنه والمشفى كأنها دهر، يرجو من سائق التاكسي العجوز أن يسرع، تدور الأحداث في رأسه،-(حلمهم بابنتهم الأولى، ولوعته عليها الآن)- ينتابه ضيق شديد، يأخذ نفسًا عميقًا ليتمكن الهواء من دخول صدره .
يمر بخاطره بسمة زوجته وهي تجادله في سعادة:
ـ سعيدة بأن الأشعة أثبتت أن في رحمي بنوته، متأكدة أنها ستحمل عيونك .
ـ بل ستكون جميلة مثلك حبيبتي.
ـ تُحدث جلبة شديدة وهي في رحمي، يبدوا أنه ستكون شقية.
ـ أراها بقلبي وهي تحدث ضجيجا جميلاً؛ وتبعثر لعبها في أنحاء غرفتها.
ـ أول ما ستنطق (بابا).
ـ بل أول ما ستنطق ستناديني ( ماما) .
اعاده ضجيج السيارات ونفيرها الذي يتعجل فتح إشارة المرور الحمراء.
يدعو ربه بصوت متهدج:
ـ اللهم اشف ابنتي.
راح في نوبة بكاء
تنبه على صوت السائق يقول:
ـ أمين.

ـ انتظرناها لتعوضنا، تلقت زوجتي علاج مكثف حتى حملت، البنت مولودة من ثلاثة أيام، مروا علينا كثلاثة أعوام، من لحظة ولادتها وضعت بالحضانة لأن تنفسها غير منتظم…
عاد للبكاء، وجه حديثه للسائق:
ـ أكاد أجن، قبل الولادة بيوم كنا سعداء أثبتت الأشعات والتحاليل أن البنت بحالة صحية ممتازة، وفجأة أبلغونا بأنها ستوضع بالحضانة، عدنا وحدنا، زوجتي تعاني من آثار الولادة القيصرية، وأنا أزور ابنتي أكثر من مره في اليوم، كما اتابع حالتها مع المستشفى،
من ساعتين طمئننا الطبيب على حالتها، وأن نحضر لاستلامها غدا.
عاود البكاء وراح ينتحب، ناوله السائق منديلًا ليجفف دموعه.
عند باب المشفى فتح باب السيارة واندفع للخارج دون أن ينتبه أنه لم يحاسب السائق، الذي تبسم ولم يناد عليه، بل دعا المولودة بالشفاء وهو يتعجب من كمية الحب والحنان التي يضعها الخالق في قلوب الآباء.
قال له الطبيب:

فجأة أصبح تنفس البنت غير منتظم، ومال لونها للأزرق،ثم نزفت من فمها وأنفها، تحتاج حضانة مجهزة.
حار في أمره وأسقط في يده، حضانة أخرى، استنزفتهم الولادة ومصاريف الحضانة، استدانوا لدفع التكاليف…
أفاق على صوت إداري المستشفى:

ـ سيرافقك طبيب بعربة إسعاف مجهزة بالأكسجين، مطلوب ألفين وخمسمائة جنيه.
لحق به صديق وأعطاه مبلغا من المال.
توجه لمشفى حكومي متخصص في علاج الأطفال، أجروا للبنت بعض الإسعافات الأولية ووضعوها على جهاز الأكسجين، ثم اعتذروا لعدم وجود مكان بالحضانات.
بدأت رحلة الشقاء في البحث عن حضانة، يحمل مع ابنته أسطوانة أكسجين صغيرة لتساعدها على التنفس، يرى ابنته تصارع الموت بين يديه ، يعذبه صوت أنينها.

كل حضانات القاهرة كاملة العدد… أخيرا قبلتها حضانة.
دفع عشرة آلاف جنيه، ثم أعادوا له نقوده وأخبروه:
ـ بعد عرض أشعتها وتحليلاتها على الأخصائي أمر بإخراجها، حالتها حرجة ولا علاج لها عندنا.
عاد يدور بها بين المشافي، وهي تقاوم الموت .
أمها تتصل وهي تبكي، يحاول طمأنتها :
ـ هوني على نفسك؛ جرحك ما زال لم يلتئم.
تبكي وتقول:
ـ البنت لم تفتح عينيها حتى الآن، ترفض أن ترى هذا العالم القبيح.

ـ هناك حضانة بها مكان بأحد المستشفيات.
وضع في الحساب عشرة آلاف جنيه… قال الطبيب:
ـ البنت تحتاج لأشعات وتحاليل.
ـ معنا الأشاعات والتحاليل التي أجريت لها -صباح اليوم.
ـ لا نعترف إلا بما يتم بمعاملنا.
رضخ مجبرا فلا مجال للنقاش.
سأله الطبيب:
ـ لماذا أخرجتوها من حضانة المستشفى التي ولدت بها وهي بهذه الحالة.
ـ من بالمشفى طلبوا منا أخذها لحضانة مجهزة.
ظهر التعجب على وجه الطبيب وقال:
ـ كل الحضانات مجهزة .
أصاب الأب بالدهشة:
ـ البنت كانت بخير وكنا سنذهب صباح اليوم التالي لاستلامها، وفجأة قالوا نزفت ودرجة حرارتها ارتفعت، رجحوا أنه عدوى نقلت لها من الأم، طلبوا إخراجها…
ـ هل كانت امها تعاني من أي أعراض مرضية قبل الولادة.

لا.. كانت بصحة جيدة.
تعجب الطبيب وقال:
ـ أكيد حصل شيء ما بالحضانة مثل انقطاع الكهرباء، ولم ينتبهوا لحالة البنت، هم تخلصوا منها ليبعدوا عن أنفسهم المسؤولية.

في الصباح، طلبوا منه عشرة آلاف جنيه أخرى، أعلن لهم إفلاسه، وقال إنه سيذهب بابنته لمكان آخر .
ـ إذا فلتدفع ثمن كيس من الدم وكيسان من البلازما نقلناهم لها.
دفع مرغمًا وهو يتعجب كيف لهذا الجسم الصغير أن يستوعب ما نقلوه لها…
أخيرا مكان بحضانة بسعر أقل في التكلفة.
في الصباح، كان تراب القبر رحيما بها…

الكاتب سيد جعيتم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *