دراسة تطبيقية من خلال قصائده (كمال الأماني )
Pictures of Al-Badi styles in the poetry of the scholar Muhammad Qani Al-Ghusawi: An practical study through his poems (Fulfilment of Hopes)
Abstract
A study that reveals the extent of the efforts of Nigerian scholars to preserve the country’s inherited Arab heritage. It is known that Islam and the Arabic language arrived in the country at an early time, so the country’s scholars devoted themselves to examining and mastering it and its sciences, which has reached the point where they are trying to write down their poems and literary productions, both literary and non-literary, in imitation of the impudent Arabs. The article stops at the scholar Muhammad Qani through his poem tagged above in order to highlight and extract its exquisite aesthetics, aesthetics that indicate his breadth of pleasure and artistic splendor. The article aims to reveal the secrets of his wonderful images, uncover the secrets in the images, and point out that Nigerian poetry written in Arabic is no less creative than the poetry produced in Arab countries today. The study followed the descriptive analytical method. I concluded that the poet’s exquisite images indicate his flexibility in preserving the traditions of rhetoricians and grammarians, and that they appear smoothly, far from affectation, and that Sufi poetry is no less creative and loaded with aesthetic and creative images, and that Nigerian poetry may be promised and considered in modern colleges and universities, both international and international. The study recommends conducting further research on the poet’s poem, his poetic and prose productions, and other scholars of the country who have shipped the country’s literature to safety so that it can be seen how long they have excelled in the art of speech and poetry.
الملخص
دراسة تقوم بالكشف عن مدى جهود علماء نيجيريا في الحفاظ على التراث العربي الموروث في البلاد. مما هو معروف أن الإسلام واللغة العربية قد وصلا إلى البلاد منذ وقت مبكر، فعكف علماء البلاد في التدقق والتفنن فيها وعلومها، الأمر الذي وصل إلى درجة أنهم يحاولون تدوين أشعارهم وإنتاجاتهم الأدبية منها وغيرالأدبية محاكاة من العرب الأقحاح. يقف المقال عند العالم محمد قَنِي من خلال قصيدته الموسومة أعلاه بغية إبراز واستخراج جمالياتها البديعية، جماليات تشير على سعة باعه في المتعة والروعة الفنية. يهدف المقال بالكشف عن أسرار صوره البديعبة ، وكشف الغطاء عما في الصور من الأسرار، والتنويه إلى أن الشعر النيجيري المكتوب بالعربية لا يقل إبداعا عن الشعر المنتج في الدول العربية اليوم. اتبعت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي. وتوصلت إلى أن صور الشاعر البديعية تدل على مرونته في الحفاظ على سنن البلاغيين والنحويين، وأنها تتجلى بسلاسة بعيدة عن التكلف، وأن الشعر الصوفي لا يقل إبداعا وشحنا بالصور الجمالية والإبداعية، وأن الشعر النيجيري قد يعد به ويعتبر في الكليات والجامعات الحديثة الدولية منها والدولية. وتوصي الدراسة بإجراء مزيد من البحوث حول قصيدة الشاعر وإنتاجاته الشعرية منها والنثرية، وغيره من علماء البلاد الذين شحَّنوا أدب البلاد إلى شاطئ الأمان حتى يظهر مدى طول باعهم في فن القول والنُظُم.
مقدمة
من بين أيدينا إنتاج عالم من علماء شمالي نيجيريا، الذي لم يتوقف صيته وشهرته في شمالها فحسب، بل شمل البر والبحر، ومن الذين زادوا في المكتبة العربية ، ومن العلماء العاملين الذين تخرج على أيديهم علماء فطاحلة عمالقة جاءوا من بلدان وأماكن مختلفة فاتبعوا هذا النور فأصبحوا نجوما نيِّرة في بلدانهم وأماكنهم في العلم والمعرفة، هذا العالم ما هو إلا محمد قَنِي الغُسَوِي بقصائده “كمال الأماني” وهو ما زال من بين مؤلفاته الأدبية. ولما كان للشاعر اليد الطولى في تخلف التراث العربي الإسلامي القيم، جعل كثيرا من الدارسين يختلفون إليها لإجراء البحوث فيها ولإبراز قِيَمِها وجمالياتها الفنية، الأمر الذي جعل الباحث يضع يديه في هذا القريض لنزح غموضه ونفض غباره وتقديمه بين يدي القارئ في شكل دراسة صوره البديعية.
سبب اختيار الموضوع
فمن الأسباب التي دعت الباحث إلى اختيار هذا الموضوع ما يلي:
- رغبة الباحث الشديدة في البحث عن إنتاجات الآباء والأجداد، وبعبارة أدق عن تراثنا النيجيري القيم الأصيل ، الذي ما زال ولن يزال يشار إلى بعضه بالبنان، لجودته ونصاعته.
- حاجة الباحث في استزادة الفهم في علوم البلاغة العربية.
- ميل الباحث في تذوق طعم الشعر العربي، سيما الجانب الصوري منه.
- يؤدي إلى التعرف عن نيجيريا وأدبائها وثقلها في فن القول.
أهمية البحث
تكمن أهمية هذا البحث في النقاط التالية:
- ينوّر الطريق للطلبة في تذوق طعم الموسيقى الشعرية.
- يتيح للطالب الفرصة لمعرفة البنية البديعية للقصائد العربية.
- يجعل الرغبة للطلبة في البحث عما يمس جانب موسيقى الشعر العربي.
الدراسات السابقة
سبق أن تناول بعض الباحثين شخصية هذا الشيخ، وبعض إنتاجاته الأدبية بحثا ودراسة، وسوف يقف الباحث على البحوث المقدمة حول هذه الشخصية لدراسة ما حولها.
بحث علمي، قدمه الأستاذ سَرْكِي إبراهيم، إلى قسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم بالسودان، بعنوان “فن الرثاء عند شعراء مدينة كنو في القرن العشرين الميلادي” تكملة للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية، عام 1980م، وقد أورد الباحث الحديث عن هذه الشخصية، كما أتى ببعض نماذج من شعره في الرثاء، وحللها تحليلا أدبيا، ثم قومها تقويما أدبيا شكلا ومضمونا، ولم يقع اختياره على القصيدة التي يدرسها هذا الباحث.
بحث علمي، قدمه غَرْبَ أحمد سُودَاوَا، إلى قسم اللغة العربية جامعة بَايَرُو كَنُو، بعنوان: “دراسة تحليلية للنصوص المختارة من إنتاجات علماء كنو الأدبية” عام 1988م، تكملة للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها. وفي بحثه تحدث عن شخصية الشيخ محمد قن الغسوي، وأتى ببعض نماذج في إنتاجاته العلمية والأدبية. وهو كذلك لم يتناول قصيدة كمال الأماني، ولم يتطرق بالحديث عن صوره البديعية.
بحث علمي قدمه الأستاذ أحمد ثالث، إلى قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو، بعنوان: “صور من التشبيه في أشعار بعض علماء كنو” عام 2002م، تكملة للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية، تناول الباحث الحديث عن شخصية الشيخ محمد قن بالإفاضة، كما أورد الحديث عن غيره من الشيوخ، ثم تحدث عن صور التشبيه في بعض أشعاره وأشعار غيره من الشيوخ، وقوم الباحث هذه الصور التشبيهية الواردة في أشعارهم تقويما فنيا. ويظهر الفرق جليا بين بحثه وبين هذا البحث في أنه تناول صور التشبيه، وهذا البحث يتناول صور البديع، ولم يقع اختيار الأستاذ أحمد ثالث على قصيدة كمال الأماني.
بحث علمي قدمه أبوبكر تجاني عبد الرحمن، إلى قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو، بعنوان: “مساهمة الأستاذ محمد قن الغسوي في الأدب العربي النيجيري دراسة وتحليل” عام 1992م، تكملة لنيل شهادة الليسانس في اللغة العربية. تنفس فيه الباحث كثيرا عن شخصية الشيخ مولدا ونشأة وإنتاجا، وعرض مؤلفاته وإنتاجاته الأدبية، كما بين الأغراض الشعرية التي تناولها، ودرس أشعاره دراسة نقدية، وأظهر قيمها الفنية. كما درس إنتاجاته النثرية وأبرز سماتها ومميزاتها.
بحث علمي قدمه محمود تجاني عبد الرحمن، إلى قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو، بعنوان: “ديوان جوهرة الرثاء وشاشة أهل الصفاء للشيخ محمد قن بن علي: دراسة أدبية تحليلية” عام 2009م، تكملة للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية، حيث اختص هذا الديوان وجعله موضوع الدراسة، وتحدث عن حياة الشيخ، وعن فن الرثاء عبر العصور، ثم قوّم عمله فنيا في آخر المطاف.
بحث علمي قدمه يحيى ثاني شيخ، إلى قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو، بعنوان: “هبة الرحيم في مرثية الشيخ إبراهيم إنياس الكولخي للأستاذ محمد قن دراسة أدبية تحليلية” عام 2013م، تكملة للحصول على شهادة الليسانس في اللغة العربية، قد جال بحثه حول قصيدة واحدة من بين قصائد الشيخ، وهي قصيدة قرضها الشاعر في رثاء الشيخ إبراهيم الكولخي، وتقع في مائة وستين بيتا(160) في حين أن الباحث قام بدراسة ثمانين بيتا منها (80) دراسة أدبية، وأظهر جمالها الأسلوبي والفني والفكري.
ومجمل القول، إن كل الدراسات التي تعرضت لشعر الشيخ محمد قني الغسوي حسب علم الباحث، لم تخصص القصيدة التي وقع اختياره فيها (كمال الأماني)، ولم يدرسها أحد قط، حتى يقع التشابه بين الدراستين، ولم يقف الباحث على أي بحث دُرس فيه قصيدة من قصائد الشيخ دراسة بديعية بحت.
هيكل البحث :
اقتضت طبيعة الموضوع أن يقسم إلى مبحثين أساسيين تحت كلٍّ منهما مطالب بين مقدمة وخاتمة كالآتي :
المبحث الأول : حياة الشاعر
المطلب الأول : نسبه ومولده
المطلب الثاني : نشأته وتعلمه
المطلب الثالث : آثاره الشعرية
المطلب الرابع : الفنون الشعرية التي طرقها
المطلب الخامس : عرض القصائد.
المبحث الثاني : من صور البديع في القصيدة
المطلب الأول : التكرار اللفظي وأغراضه
المطلب الثاني : الجناس مظاهره ودوره
المطلب الثالث : القافية الداخلية صورها ودورها.
الخاتمة
المصادر والمراجع
المبحث الأول : حياة الشاعر
المطلب الأول : نسبه ومولده
هو الشيخ محمد بن علي بن الحسن الملقب بـ ( قَنِي ) الغُسَويّ مولدا، يتحدر والده من الأسرة المالكة في مدينة ( دَوْرَا ) فقد عاش أجداده ردحا من الزمن هناك، ثم انتقل إلى مدينة (غُسَو) حيث استقر بهم القرار إلى زمن ولادته.3
ولد ببلدة غُسَو التابعة لولاية ( سُكُتُو ) قديما4 التي هي الآن عاصمة ولاية زَمْفَرَا. سنة (1937م)”5 في بيت علم وصلاح. ونشأ في حجر والده الذي رباه تربية حسنة.
المطلب الثاني : نشأته وتعلمه
نشأ في حجر والده الذي رباه تربية حسنة، وتعلم عند أساتذة عديدين، بداية بالسيد مالم موسى مادُغُو، الذي سلمه أبوه إليه وهو في السادسة من عمره أو مادونها. فتعلم منه القراءة والكتابة والقراءة الأولية في القرآن الكريم، حيث وصل إلى سورة الكفرون ولكن لم يلبث طويلا حتى أرسله أبوه إلى قرية ( قَرْمَنْجِي) التي تقع في ولاية كَشِينَا، عند عالم يسمى يعقوب المقرئ، الذي يسكن في كَشِينا وذلك بإذن من أبيه، فكان عنده إلى أن حفظ القرآن الكريم في مدة لاتتجاوز سنتين ونصف، ودرس عنده بعض الكتب الفقهية البسيطة، كمختصر الأخضري وغيره، هكذا نشأ الشيخ طالبا للعلم، عاكفا على باب أصحابه يغترف من بحور علومهم الفياضة.
تعلم عند أساتذة عديدون، وهم كالآتي :
بدأ تعلمه عند السيد مالم موسى مادُغُو، وهو ذلكم الأستاذ الذي سلمه أبوه إليه وهو في السادسة من عمره أو مادونها، فتعلم منه القراءة والكتابة، والقراءة الأولية في القرآن الكريم، وقد أثبتثت البحوث أنه وصل في قراءته القرآنية إلى سورة الكفرون.
وبالتالي أرسله أبوه إلى قرية (قَرْمَنْجِي) التي تقع في ولاية كشينا، عند عالم يسمى مالم يعقوب المقرئ، الذي يسكن في كَشِينا وذلك بإذن من أبيه، فكان عنده إلى أن حفظ القرآن الكريم في مدة لاتتجاوز سنتين ونصف، ودرس عنده بعض الكتب الفقهية البسيطة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وهذا العالم هو الأستاذ الثاني للشيخ قَنِ.
ومن ثَمّ انتقل إلى كَنُو لطلب العلم، لما رأى هو وصديق له يسمى مالم عثمان في ذلك، فنزلا عند العالم المتقن الشيخ مالم ثاني قُوفَر نَائِسَا، ومكث عنده لمدة سنتين، وتعلم عنده الكتب الفقهية المتداولة في ذلك الوقت، مثل كتاب الأخضري، ومنظومة القرطبي، وكتاب مقدمة ابن عاشر، وكتاب مقدمة ابن رشد، وكتاب المقدمة العزية للجماعة الأزهرية. حقيقة لقد اهتم به شيخه غاية الاهتمام لما رأى له من يقظة الضمير والذاكرة الحادة.
ولما رأى مالم ثاني ما لتلميذه من ذلك، ألحقه بمعهد الشيخ العلامة الصوفي المحقق، عثمان القلنسوي ليواصل السير قدما عنده في حياته العلمية، فتم له المراد وحل له القصد، إذ التحق بمعهد كبير مزدحم بالطلاب في كل وقت وحين، صباحَ مساءَ، وليلَ نهارَ في مستويات علمية مختلفة ومتعددة، يتسابقون ويتنافسون في جمع العلوم من ينابيعها العذب، فاتخذ محمد قن الشيخَ القلنسوي أستاذه الكبير، ومربيه الجليل، فتتلمذ عنده لمدة لا تقل عن خمس عشرة سنة.
فعكف مجاهدا ومجتهدا في جمع العلوم جمعا، ودرس فنونا كثيرة عند الشيخ، إذ إن معهده يعد معهد فنون وعلوم مختلفة، فدرس عنده فن الفقه وأصوله، والحديث ومصطلحه، والنحو والصرف، والبلاغة بيانها ومعانيها وبديعها، والتفسير، والتصوف الذي للتحقق والتخلق، والمنطق، كما درس عنده الشعر وما يتصل به من العروض والقافية، وغير ذلك من العلوم والفنون التي درسها عنده. ومجمل القول إن معظم كتب الفنون المتداولة والتي تدرس في دهاليز علماء هذه البلاد قد قرأها عنده . وقد نال قَنِي ذيعان الصيت وعلو الشهرة في مدة وجيزة من بين التلاميذ، وصار من الذين يشار إليهم بالبنان ؛ لعكوفه في تحصيل العلوم وتدقيقها.
مما سبق يتضح الأمر جليا أمام المتلقي أنه قد درس عند أربعٍ من الأساتذة، واغترف من بحور علومهم الفياضة، واقتطف من أثمارهم اليانعة، وأبدى عبقرية فائقة عند كل من أساتذته، وتتضح في تصميمه على تحصيل العلم، والعكوف عليه صباح مساء ليل نهار، حتى شهد بذلك كل منهم، الأمر الذي أدى إلى ذيعان صيته وقوة فنه وذوقه وعلو منزلته.
المطلب الثالث : آثاره الشعرية
لقد خلَّف الشاعر آثارا شعرية كثيرة، من قصار وطوال، بل إن بعضا منها قد طبعت، وبعضها الآخر لم تر نور الطباعة، وبعضها في خزانته، وبعضها الآخر في خزانة غيره من الأقارب، وبعضها الآخر أكلها الدهر وشرب. فمن إنتاجاته الشعرية ما يلي :
1-“جوهرة الرثاء وشاشة أهل الصفاء “ وهو عبارة عن ديوان قرضه رثاء لشيخه الكبير عثمان القلنسوي رحمه الله لما وافته المنية، وجملة أبيات الديوان تبلغ حوالي (1313) بيتا. وهو مطبوع.
2-“هبة الرحيم في مرثية الشيخ إبراهيم “ وهي قصيدة قرضها رثاءً للشيخ إبراهيم إنياس رضي الله عنه حينما وافته المنية، وهي قصيدة رائية في (160) بيتا، مطبوعة.
3-” الزهرة المنضرة في مدح المدينة المنورة ” وهي قصيدة مخمسة قرضها الشيخ مدحا لمدينة الرسول، المدينة المنورة، وذكر فيها ما فيها من الآثار التاريخية والمواسم الدينية، وهي في (67) بيتا، وهي مطبوعة .
4-” العِقْد الدُّري في نظم رحلة القَلَنسَوِي ” وهو عبارة عن سلسلة لرحلات الشيخ القلنسوي.
5- ” روضة الأنيس ” وهي قصيدة يذكر فيها زيارة الشيخ علي سيسى لمدينة كَنُو، وقد طبعت.
6- قصيدة ” تسلية الأحزان في مرثية الشيخ تجاني بن عثمان “وهي قصيدة قرضها رثاءً لشخصية الشيخ تجاني بن عثمان رضي الله عنه، تقع في (120) بيتا.
7- قصيدة ” الهدية القَلَنسَوِيَّة إلى الحضرة الكَوْلَخِيَّة ” وهي مخطوطة تقع في ( 130) بيتا، قرضها رثاءً للشيخين: الشيخ الحسن دِمْ والشيخ ثاني حسن كَافَنْغَا، رحمهما الله.
وله مجموعة كبيرة من القصائد في أغراض أخرى، من مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ومدح الشيوخ، وفي المناسبات، وغير ذلك، التي ما زال الطلاب في المستويات العلمية المختلفة يجرون بحوثهم فيها، بغية استخراج ما فيها من الأسرار القيمة، التي توحي إلى ما لصاحبها من ذاكرة فذة وفن شعري رفيع .
ومجمل القول إن الشيخ محمد قَنِي قد ساهم إسهاما ملموسا، وقام بدور فعّال في دفع عجلة الثقافة العربية والإسلامية والأدب النيجيري المكتوب بالعربية إلى الأمام، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
المطلب الرابع : الفنون الشعرية التي طرقها
لقد قرض الشيخ قنِي أشعاره في موضوعات شتى، وبعبارة أدق في معظم الموضوعات المتداولة على ألسنة شعراء هذه البلاد، ولم يخرج في أشعاره من الفنون الشعرية المشهورة في الأوساط الصوفية، ويمكن حصر الأغراض الشعرية التي تناولها فيما يلي :
- المدائح النبوية :
وهذا فن الصوفية الذي لا يجارون فيه، ويقصد بالمدائح النبوية تلك االأشعار التي تقال في حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبيراً عن الحب الخالص له صلى الله عليه وسلم وابتغاء للأجر من الله. ولم يخترعه الصوفية، بل يمكن أن تلتمس له جذورا عند الصحابيين الجليلين حسان بن ثابت وكعب بن زهيز رضي الله عنهما، وإن كان بعض النقاد يرون بأن بردة كعب ينقصها صدق النية وابتغاء ما عند الله وإن كان الباحث يرى بأنهم حاشاهم أن يكون عملهم غير مخلص لوجه الله، ألا ترى بأنها لا تصدر إلا من قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص، ومن يجاريهم في ذلك ؟
وله مجموعة كبيرة من المدائح النبوية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قد تجده يمدح الصحابة رضوان الله عليهم، كما يمدح شيوخ طريقته التجانية.
- الرثاء :
وهذا من الأغراض العامة ومن أبرزها؛ لأنه أصدقها وأكثرها تعبيرا عن المشاعر الإنسانية، لأنه يرتبط بالموت والحزن على من قد ماتوا وفارقوا الحياة، وبكاء الشعراء عليهم بكاء يصدر عن صدق المشاعر والعواطف، ويعني بكاء الميت وتعدد محاسنه وحسن الثناء عليه.
وللشيخ مراثي جيدة رائعة، وخير مثال على ذلك ديوانه المستقل الذي قرضه رثاءً لشيخه الكبير، ومربيه الجليل، عثمان القلنسوي، الذي سبقت الإشارة إليه ( أي ديوان جوهرة الرثاء وشاشة أهل الصفاء) وكهبة الرحيم التي رثى بها الشيخ إبراهيم انياس الكولخي، ومراثي أخرى رثى بها شيوخ طريقته التجانية متى وافتهم المنية.
ج- شعر المناسبات :
وهذا من الأغراض العامة، ويمكن تعريف هذا النوع من الشعر بأنه هو ذلكم الشعر الذي قيل لأجل مناسبة ما، التي لولاها لما قيل ذلكم الشعر. وللشاعر قَنِي أشعارا كثيرة جيدة قالها في مناسبات شتى. وشعر المناسبات يأخذ قسطا لابأس به من جملة أشعاره.
د- الوصف :
وهو فن شعري تليد منذ الجاهلية، ويعد من أفضل أغراض الشعر العربي، وأقربها إلى النفوس وهو إظهار أو استحضار شيء أو مكان، أو حيوان، أو إنسان لا يقع تحت نظر القارئ، فيوصف ويصور تصويرا يجعل السامع أو القارئ كأنه يراه أمامه. وللشيخ قَنِي قصائد في هذا الغرض. كما له أشعار كثيرة في التوسل ودعوات الخير والاستغاثة.
هذا، وهذه هي جل الفنون الشعرية التي تعرض لها الشاعر قَنِي، الأمر الذي يدل على ما للشاعر من ثقافة عربية عريقة واسعة، التي ساعدته في قرض هذه الأشعار الجيدة من أغراض مختلفة، التي ما زالت ولن تزال يشار إليها بالبنان، لجودتها ونصاعتها، ولما تحمل عليه من موسيقى جيدة رائعة ممتعة تذكر.
المطلب الخامس : عرض قصائد (كمال الأماني)
اسم القصيدة بالكامل هو ( كمال الأماني في الترحيب والتهاني، بقدوم الفيض التجاني الشيخ إبراهيم الكولخي ) هذا هو ما أسماها صاحبها. وهي عبارة عن قصيدة قالها مدحا وترحيبا بالشيخ إبراهيم انياس لما حضر إلى مدينة كَنُو بعد رجوعه من مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. وهي مجموعة لخمسة قصائد كلها تحت العنوان السالف الذكر، وكلها في المدح والترحيب بهذا الشيخ إبراهيم .
أما القصيدة الأولى فهي أطول هذه القصائد، إذ يبلغ عدد أبياتها إلى مائة وسبع وثلاثين بيتا، وهي رائية استهلها بقوله:
أهلاً بشمسٍ بالمعارفِ ظاهــــــــــــــــــــــــــره | وسْط السّماء سمَا المعالي الْباهِــــــــــــــــرَه |
وأما الثانية فقصيدة قافية استهلها بقوله:
هلْ يا خليلُ تَحيَّتِي مُتلَاحِقَه *** بِجَنَابِ مَن قلْبِي إِليهِ رَامِقَهْ
وأما الثالثة فيائية استهلها بقوله:
مدحٌ لهذا الشَّيخِ رُوحُ فؤاديَه *** أرجُو بهِ التقْريبَ عند إلهِيَهْ
وأما الرابعة فلامية استهلها بقوله:
يا صاحِ سِرْ نحْوَ المَراقِي الْواصلَهْ *** تَنَلِ الوُصولَ إلَى الْمعالِي الْحاصِلَهْ
وأما الخامسة والأخيرة فدالية استهلها بقوله:
طهِّر جميعَ القلْب واتِ مساجده *** فيها المَعارف والقلوب العابدَهْ.
هذه هي القصائد وكلها من بحر خليلي صاف، ألا وهو بحر الكامل، وجملة أبياتها (445) بيتا، نظمها في عام 1381هـ الموافق بـ 1960م.
المبحث الثاني : من صور البديع في القصيدة
المطلب الأول : التكرار اللفظي وأغراضه
عرف التكرار بأنه “عبارة عن تكرير كلمة فأكثر بالمعنى واللفظ لنكتة، إما لتوكيد أو لزيادة التشبيه أو للتهويل أو للتعظيم أو للتلذذ بالمكرر”14أو هو” إعادة ذكر كلمة أو عبارة بلفظها ومعناها في موضع آخر أو مواضيع متعددة”15 والتكرار عنصر أساس في كافة فروع الموسيقى، إذ إنها تكرار في أنماط محدودة. وكذلك الشاعر فهو يكرر أصواتا بعينها، وذلك يحقق لقصيدته النظم والبناء.16
“والشاعر في قريضه يكرر أية وحدة، مهما دقت أو جلت، صغرت أم كبرت، ابتداء من أصغر وحدة صوتية (الفونيم) إلى أكبر وحدة هي الجمل أو التراكيب. وقد يكرر أصواتا صامتة أو حركات بعينها، أو مقاطع بأسرها، أو ألفاظا أو تراكيب، بل فوق ذلك كله قد يكرر شطرا بعينه وذلك لنكت، منها إحداث الأثر الموسيقي الذي تشتاق وتميل الأذن وتسر سماعه”17
من ذلك يظهر بأن كل ما يؤتى به طبقا عن طبق أكثر من مرة فهو تكرار، سواء كبر هذا المكرر أم صغر، دق أو جل، وأنه يكرر لنكت، وأن النفس قد تشتاق وتستحسن المكرر وتميل إليه، ولذلك صار صوت الحمام جميلا ومشتاقا للتكرار والترديد الذي ينشأ فيه، وأن التكرار قد يرفع من قيمة النص موسيقيا إن أتى على غير تكليف من عند صاحبه.
وقد رصد النقد الأدبي الحديث أنواعا عدة للتكرار، كتكرار الحرف18وتكرار الكلمة19 والتكرار الاستهلالي20 والبياني21 والتكرار النغمي22 والصوري23 والخطابي24 وغير ما هنالك من أنواعه.25 وقد يكون لفظيا أو معنويا.
التكرار اللفظي أغراضه ودوره
أما التكرار اللفظي فهو “نوع من البديع اللفظي وثيق الصلة بموسيقى الألفاظ فهو ليس في الحقيقه إلا تفننا في طرق ترديد الأصوات في الكلام حتى يكون له نغم وموسيقى، وحتى يسترعي الآذان بألفاظه كما يسترعي القلوب والعقول بمعانيه”26 ويلاحظ بأن كل تكرار مهما يكن نوعه، تستفاد منه زيادة النغم، وتقوية الجرس، وإذا قوي فقد قويت الموسيقى الداخلية. وأن التكرار اللفظي قد يعطي النص أو القصيدة تنسيقا داخليا لعناصره الصوتية والكلامية، لأن اللفظة تتكرر فيه بأصواتها ومعانيها دون زيادة حرف أو معان، بحيث يتكرر اللفظ ومعناه تماما.
وهذا النوع من التكرار قد يأتي لأغراض بلاغية كثيرة، وسوف يورد الباحث من هذه الأغراض كما يبحث عن محل تمركزها في القصيدة كالتالي:
التعظيم
وهذا نوع من أنواع التكرار الذي تتكرر فيه الكلمة بعينها ومعناها لأجل تعظيم من يقال فيه هذا الشعر أو المدح، ومن ذلك قوله في قصيدته الأولى:
أَكْرِمْ بِرَوْض المصطفَى خَيْــــــــــــــــــــــرُ الْوَرَى | رَوْضٌ بهِ كلُّ المرَامِي حَـــــــــــــــــــــــــــــاضِرَهْ |
رَوْضٌ بهِ كلُّ المعَالِي تَجْتَلِــــــــــــــــــــــــــــــــي | رَوْضٌ بهِ كُلُّ الْفَوَاضِلِ بَــــــــــــــــــــــــــــــاهِرَهْ |
رَوْضٌ بهَ كلُّ الأَيَادَي بَادِيَــــــــــــــــــــــــــــــــــهْ | رَوْضٌ بهِ كلُّ الْقُلُوبِ طَوَاهِــــــــــــــــــــــــــــــرَهْ |
رَوْضٌ بِه كلُّ الموَاهِبِ تَجْتَلِــــــــــــــــــــــــــــــي | رَوْضٌ بهِ الأنْوَارُ صارَتْ ظَاهِـــــــــــــــــــــرَهْ 27 |
الشاعر في هذه الأبيات أخذ يعظم ويتعجب على ما لروض النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو خير الورى، من نيل كل ما يرمي العبد فيه، وأن المعالي والفواضل جلية فيه، وبشهوده تصير القلوب طاهرة نقية صافية، وذلك للأنوار والمواهب التي صارت ظاهرة وواضحة فيه.
فكرر كلمة (روض) ثماني مرات، من أربع أبيات متتالية، وفي استهلال كل شطر مسبوقة بأكرم في الأولى، حيث أنه يعظم على ما لروضة النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة من خيرات وبركات دنيوية وأخروية، وما لصاحبها. وكذلك استخدام الشاعر الألفاظ الدرجات العاليات، مثل: المعالي، خير الورى، المرامي، الفواضل، الأيادي التي هي النعم، والمواهب وغيرها، مما يشير إلى التعظيم. وهذا التفنن المعجب في ترتيب هذه الأصوات من الأبيات يحقق نغما وموسيقى جاذبة للانتباه ومواصلة المتابعة.
وكذلك قوله في قصيدته الرابعة:
بَرْهامَ مَن بَهَرَتْ حقَائِقَ أَمْــــــــــــــــــــــرِهِ | بَحْرُ الْهِدَايَةِ والعلومِ الْــــــــــــــــــــــــــــــــــــمَاثِلَهْ |
برهَامَ مَن أَجْلَى الْمَعَارفَ فِي الْـــــــــــوَرَى | خَيْرُ اجْتِلاَءٍ والْمَوَاهِبِ سَــــــــــــــــــــــــــــــــائِلَهْ |
بَرْهَام مَن هامَ الْورَى بكَمَالِـــــــــــــــــــــــه | بضِيائِه الْوَضَّاحِ زالَ مَحَافِلَـــــــــــــــــــــــــــــــــهْ |
بَرْهَامَ من تِذْكَارُه وهَــــــــــــــــــــــــــوَاهُ قدْ | صارَ ارْتِقَاءً لِلْقُلُوبِ الْعَاقِــــــــــــــــــــــــــــــــــــلَهْ |
بَرْهَام منْ هَمَلَتْ هَوَاطِلَ جُــــــــــــــــــــودِه | تَهْمِي كَوَكْفِ سَحَابةٍ مُتَتَامِـــــــــــــــــــــــــــــــــلَهْ |
برهام منْ هَزمتْ بهِ جمْع الْـــــــــــــــــعِدَى | وبِجَاهِه النَّكْبَاتُ صَارَتْ زَائِلَــــــــــــــــــــــــــهْ 28 |
يذكر الشاعر بأن حقائق شيخه برهام ظاهرة وباهرة، فوصفه ببحر الهداية والعلوم الذي لا ساحل له، وهو الذي طوى وسهل الطريق إلى الحق لكل مريد الوصل، وهو ذلكم الذي هام الورى بكماله، وأن تذكاره وهواه يصير ارتقاء لكل قلب عاقلة ذات بصر وبصيرة، وأنه جواد كريم باسط الكف، وهو صارم للعدى ومهزمهم، وأن المصائب تزيل وتصير بمثابة هباء منثورا بجاهه وبركته.
انظر إلى الشاعر كيف أخذ في تبجيل وتعظيم شخصية شيخه، بتكرار اسمه في مثل هذه المرات، وبالتحديد ست مرات، وأن استخدام الشاعر لألفاظ الدرجات العاليات مما يشير إلى التعظيم لا محالة. وهذه الظاهرة، أي التكرار لغرض التعظيم كثيرة جدا في القصيدة،نكتفي بهذا القدر من الشواهد والأمثلة.
الإشارة بالذكر
وهذا غرض آخر من أغراض التكرار، وهو يعني إشارة الشاعر إلى شيء بالذكر، فيذكر ما له أو عليه، وأن ما يذكره يكون خاص به فقط لا غيره. ومن ذلك قوله قي القصيدة الرابعة:
أَمَّا الْهدايَةُ فَهْيَ أَمْنــــــــــــــــــــــــــــــعُ مَأْخذٍ | إِلاَّ بترْك قَوَاطِعٍ وشَــــــــــــــــــــــــــــــــــــوَاغِلَهْ |
أَمَّا الصَّفاءُ فَنَيْلُه مُسْتَـــــــــــــــــــــــــــــصْعِبٌ | إِلاَّ بِرَفْضِ الْغَــــــــــــــــــــــــــــــــــــانيَاتِ الْغَازِلَهْ |
أمَّا التَّرقِّي فَالْقُطُوبُ مَــــــــــــــــــــــــــــوَانِعٌ | عنْه وكَمْ رُضْتُ رُءُوس قَنَابِلَـــــــــــــــــــــــــــــه |
أمَّا الْمزايَا فالْوصولُ لِبــــــــــــــــــــــــــــابها | أَمْرٌ يفُوتُ يَدَ الْقلوب الثَّاقِلَـــــــــــــــــــــــــــــــــه 29 |
يذكر الشاعر طائفة وجملة من هذه الأشياء، يشير إلى كل واحد منها بالذكر، ثم يذكر ما يختص به دون غيره، فالهداية لن يوصل إليها إلا بترك جميع القواطع والشواغل التي تقطع العبد عن الرب، وتشغله عنه، وأما الصفاء فصعب نيله إلا بنبذ وترك الغانيات اللواتي تغنين بجمالهن عن الزينة والميل إليهن، وأما الترقي فالقطوب30 موانع عنه إلا أنه حازه، وأما المزايا فالوصول لبابها أمر مجانب للقلوب الثاقلة، التي صارت محجوبة عن الرب، والتي تعبده كأنه – أي الرب – لايراها.
انظر هنا إلى الشاعر كيف أشار إلى هذه المصطلحات، وذكر لكل مصطلح ما له، وكيفية الوصول إليه، فبدأ بالهداية، الصفاء، الترقي، المزايا، على الترتيب، فما للهداية إنما هو لها لا لغيرها وهكذا، وأن مجيء (أما) وتكرارها في كل بيت قبل هذه الكلمات، مما يشير كذلك إلى أنه يقصد الإشارة إليها بالذكر، وغير ذلك مما أشار إليه بالذكر في القصيدة.
التأكيد
قد يكرر الشاعر لفظة لغرض التأكيد، وليثبت للقارئ أن ما يتحدث عنه قد وقع لا محالة حتما لازما، ومثل ذلك كثير في قصيدة كمال الأماني، ومن ذلك تكراره للفظ (زار) من ثلاثة أبيات متتالية في مستهلها، ثم تكرارها من بيتين متتاليين، والفاصل بين الثلاثة والاثنين إنما هو بيت واحد، ثم كررها مرتين كذلك بعد بيت واحد، يقول:
زَارَ الْبَقِيع بِقَاع أهْلُ سعَـــــــــــــــــــــــــــــادَةٍ | نَفْسي فَدًى منْهمْ وكانتْ قَــــــــــــــــــــــــــــــاصِرَهْ |
زارَ الحَبيبَ حَبيبَنا أُحُد الَّـــــــــــــــــــــــــــذي | قلْبي غدَتْ شوْقًا إلَيْه سَــــــــــــــــــــــــــــــــــــائرَهْ |
زارَ الْقُبَاء فَبَاءَ بالْخَيْر الْجَلِـــــــــــــــــــــــــــي | وحظَى بِمُنْيةِ زائِرٍ أوْ زَائِـــــــــــــــــــــــــــــــــــره |
ثم عاد إلى التكرار بعد بيت واحد:
زارِ المسَاجِدَ وهْي كانتْ خمـــــــــــــــــــسَةً | فحَظَى بأَحْسنَ كلّ حَدْوًى وَافِــــــــــــــــــــره |
قدْ زارَ قبْرَ المصْطَفى رَوْضَ الْعُلَــــــــــــــى | لَحْدُ المئَاثِرِ والمعَالِي النَّــــــــــــــــــــــــــــاثِرَهْ |
ثم عاد إلى التكرار كذلك بعد بيت واحد:
زارَ النَّبيَّ وكانَ ذاكَ مُــــــــــــــــــــــــــرَادُه | فحَوَى الْفواضلَ والمنَى ومئَاثِــــــــــــــــــــرَهْ |
زارَ الحبيبَ حبِيبَهُ معَ أنَّــــــــــــــــــــــــــــه | لا حُجْبَ بيْنهما تكلّ نَواظِــــــــــــــــــــــــــره |
يذكر الشاعر بأن شيخه إبراهيم زار مقبرة البقيع، التي دفن فيها الكثير من كبار الصحابة، وأمهات المؤمنين، وأهل البيت، وجملة القول إنها بقاع أهل سعادة، الذين فداهم بنفسه وإن كانت قاصرة عن ذلك، وأنه زار جبل أحُدٍ حبيبه، الذي أصبحت قلبه وامقة وشيقة إليه وسائرة نحوه، كما زار مسجد قباء، فحظى بمنية الزائرين التي هي محو العثرات، ورفع الدرجات الدنيوية والأخروية. كما زار خمسة مساجد التي يرجع تاريخها إلى غزوة خندق، وأنه قد زار النبي المصطفى، وذلك هو مراده وهدفه الأسمى، الذي هي من أعظم القربات، ومن الأمور المرغوبة فيها، وأن جميع الأماكن المذكورة قد نالت مجدا ورفعة شأنٍ به صلى الله عليه وسلم.
انظر إلى الشاعر كيف كرر لفظ (زار) الذي هو فعل، وأن الفعل يدل على التجدد والثبوت، الأمر الذي يدل على أنه حقا صدقا قد زار هذه الأماكن المطهرة، ومجيء (قد) قبل زار في البيت الخامس مما يشير كذلك إلى التأكيد، وهي في حد ذاتها تفيد التوكيد، وأن أمثال هذه التكرارات قد تعطي الموسيقى متعة صوتية واضحة، التي تطرب آذان الموسيقيين.
ومن التأكيد أيضا قوله:
قدْ صامَ عَن كلّ الشَّوَاغلِ والْهَــــــــــــــــــوَى | فَهَفَا إلى تلْك المعَالي الْمَاجِــــــــــــــــــــــــــــــــــــده |
قدْ حجَّ بيْت السِّرِّ والنّورِ الَّـــــــــــــــــــــــــذي | يقظَتْ به تلْك الْقلُوب الرَّاقِـــــــــــــــــــــــــــــــــده 31 |
ومجيء (قد) في مستهل كل بيت، يشير ويفيد التأكيد. وفي الحقيقةً إن أمثال هذه الانسجامات اللفظية قد تعطي للموسيقى نوعا من التنويع والتنغيم داخل القصيدة.
التشويق
وهذا غرض آخر من أغراض التكرار، بحيث يكرر الشاعر لفظا ما، لاستعذابه وتشويقه لذلكم اللفظ المكرر، ولو أراد الباحث أن يتتبع القصيدة بغية الاطلاع على هذه الظاهرة، لوضع يديه على أمثلة كثيرة، ومن ذلك قوله:
هيَ بَلْدةٌ كِدْنا نَطيرُ تشَوُّقًــــــــــــــــــــــــــــا | لجَنَابها لوْلا صُرُوفُ عَوَائِقَــــــــــــــــــــــــــــــهْ |
هيَ رُقْعَةٌ رَاقتْ برَوْنقِ حُسْنـــــــــــــــــــها | سَاحَاتُها للرَّحْب ليْستْ ضَائِقَــــــــــــــــــــــــــــه 32 |
يذكر الشاعر مدى شوقه وتحنانه نحو مدينة كولخ، التي تقع في جمهورية السنغال،33 التي كاد أن يطير إليها تشوقا لها، لولا الظروف والصوارف التي تمنعه من ذلك، ويشتاق كذلك إلى ما لساحاتها من رونق ورحب وسعة. فتكراره ل (هي) دليل واضح على أنه يؤكد أن ما يذكره من التشويق ثابت. والبيت الذي ورد فيه ذكر المدينة الجائي قبل البيتين هو :
يَا نِعْم بَلْدتُه مدينةُ كــــــــــــــــــــــــــولخٍ | قلبي فمازالتْ إليهـــــــــــــــــــا رَامِقَـهْ 34 |
وكقوله في قصيدته الرابعة:
فَيْضُ35 الْمَرامي والمعَالي الشَّامِلَهْ
فيضُ الرَّسُولِ وفيض كلُّ سعَـــــــــــــادَةٍ | وتنَعُّمٍ عمَّ الدُّنا وقنَابِلَـــــــــــــــــــــــــــــــــــهْ |
فيضُ الْوَليِّ الختْم مُرْوِي الْأَوْلِيَــــــــــــا | الشَّيْخ أحمدَ ذِي الْعطايَا الْوابِلَـــــــــــــــــــــه |
فيضُ النَّبي وفيض خيْر الأَوْليـــــــــــــا | فيض به تجْلِى الْكرُوب الْعاقِلَـــــــــــــــــــهْ |
فيضٌ بهِ نِيل المطَالب والعُلـــــــــــــــى | سَارَ إليْه عاقِل أوْ عاقِلَــــــــــــــــــــــــــــه |
فيضٌ به فَاضَ الْفضَائل كلّهَــــــــــــــــا | فغَدتْ إليْه كلُّ قلْبٍ راقِلَــــــــــــــــــــــــــه |
فيضٌ به كُسر المصَائــــــــــب والرَّدَى | وشوَائب كانتْ جِهارًا نادِلَــــــــــــــــــــه |
فيضٌ بهِ سُكِبتْ سوَاكب أنْعُــــــــــــــم | سكبُ الشَّئابيبِ الْقوَادي الْهَاطِلَـــــــــــــه |
فيضٌ به الخَيراتُ سالَتْ في الْـــــورى | ما زالَ يَقْتُل فِي الزَّمَان دجَاجِلَــــــــــــه |
فيضٌ به هدّ الدّوائِر أجْمَعــــــــــــــــا | فيضٌ به خصبَ الْمنُون الْمَاحِلَــــــــــــه |
يذكر الشاعر بأن فيض شيخه إبراهيم شامل لجميع المعالي والمرامي، وهو فيض الرسول والشيخ التجاني، وتجلى به الكروب كما تنال به المطالب، وقد سارت القلوب العاقلة إليه، وبه سالت الخيرات في الورى، وهدت المصائب والفتن.
انظر كيف كرر الشاعر لفظ (فيض) 14 مرة، تسعة منها في استهلالات الأبيات، وثلاثة منها في بدايات الأشطر الثانية، واثنتين معطوفة. وأن هذا التكرار لم يحدث سدى، بل! استعذابا وتشويقا، حيث أخذ يشتاق إلى الفيضة لفظا ومعنى، لأنه حينئذ ( أي الشاعر ) حديث العهد بها (أي الفيضة). ومثل هذا النوع من التكرار قد يقوي النغم نفسه، ومما تجدر الإشارة إليه هو أن مثل هذا النوع من التكرار لا يأتي عند أمثال هؤلاء الشعراء على إكراه، بل! إنما يأتي عن طبيعة وسجية تلقائيا من غير تكلف، مضمنا إلى إعادة النغمة الموسيقية إلى الأذن، الأمر الذي يزيد من جمال الموسيقى وبنائها وأداء دورها المطلوب.
إلى هنا ينهي الباحث حديثه حول الأغراض البلاغية للتكرار اللفظي، ويوجه إلى النوع الثاني من نوعي التكرار في منظارية اللفظ والمعنى.
المطلب الثاني : الجناس مظاهره ودوره
يقال له: التجنيس، والتجانس، والمجانسة،44 ومن تحديده “الجناس بين اللفظين هو تشابههما في النطق”45 وهو لفظ بديعي يضيف إلى شكل البيت الشعري ومضمونه أبعادا فنية كثيرة، وهو في الوقت نفسه عنصر موسيقي مهم يفجر في الألفاظ طاقات جديدة للعطاء في أنغام مختلفة، 46 وفيه استدعاء لميل السامع والإصغاء إليه لأن النفس تشتاق وتستحسن المكرر مع اختلاف معناه، ويأخذها نوع من الاشتياق مع الاستعذاب في نفس الوقت.
وقد ظفر الجناس بعناية القدماء الذين أخذوا يقسمون أشكاله ويعددون أنواعه التي أربت على عشرين نوعا، كالمستوفى والمحرف وجناس التصحيف وجناس القلب وجناس الاشتقاق وشبه الاشتقاق والمركب والمضارع إلى غير ما هنالك من الأنواع.
والجناس إما تام وإما ناقص، فأما التام فهو ما اتفق فيه اللفظان من جوانب أربعة: الشكل، والعدد، والنوع، والترتيب مع اختلاف المعنى،47 كما في الآية الكريمة ﴿ويوم تقومُ السَّاعةُ يُقْسمُ الْمجرمون ما لَبِثُوا غَيْرَ سَاعةٍ﴾[سورة الروم الآية 55] وكما في قول الشاعر:
وسمَّيْته يَحْيَى لِيَحيى فلمْ يكُن * إلى ردِّ أمر الله فيهِ سبيلُ
ففي مثل هذا النوع من الجناس تكرار موسيقي واضح، وتماثل منظم هادف. فالمثال الأول من الآية الكريمة يقع الجناس فيها بين (الساعة و ساعة) فهما لفظان متشابهان في النطق إلا أنهما اختلفا في المعنى، واتفقا في هذه الأمور الأربعة المذكورة. وكذلك في هذا المثال الثاني هذا البيت الشعري، حيث يقع الجناس فيه بين (يحيى و يحيى) حيث اتفق اللفظان في تلكم الأمور الأربعة، واختلفا في المعنى، وهذا كله من الجناس التام.
وأما إذا اختلف اللفظان في جانب من هذه الجوانب أو أكثر، كان الجناس ناقصا، كما في الآية الكريمة ﴿فأمَّا اليَتِيمَ فلا تقهرْ، وأمَّا السَّائل فلا تنهَرْ﴾[سورة الضحى الآية9/10] حيث يقع الجناس في (تقهر و تنهر) حيث اختلف اللفظان في النوع فقط.
“وفي كل هذه الأمثلة يلحظ عناية موجهة إلى تردد الأصوات في الكلام وما يتبع هذا من إيقاع موسيقي تطرب له الآذان وتستمتع به الأسماع”.48
مظاهره في القصيدة ودوره
لا شك أن هذه الظاهرة البديعية – التي نالت اهتمام القدماء، والتي ما زالت من بين الدعائم التي ترفع من شأن شعرية النص موسيقيا ونغميا وإيحائيا- متواجدة في هذه القصيدة في أماكن كثيرة بأنواعها المختلفة تستعصي على إحصاء، إلا أن الباحث يقوم بمسح طفيف لأهم الأنواع التي وردت في القصيدة.
قد يقع الجناس بين الاسم والفعل فيسمى المستوفى، لاستيفاء الحروف فيه مع اختلاف الصيغة، فإن كان من صيغة واحدة كاسمين أو فعلين سمي مماثلا. فمن الأول قوله في القصيدة الأولى:
ركِب الصَّفا يَسْعَى كسَعْيِ المصطفى ** فصَفى القُلُوب به فكانَتْ طَاهِرَهْ 49
الجناس هنا واقع بين الاسم والفعل في كلمتي (صفا و صفى) أما الأولى فهو موضع بمكة، قال تعالى: ﴿إن الصَّفا والمرْوَةَ من شعائر الله﴾[سورة البقرة الآية 158] وأما الثانية فهي ضد الكدر، صفا القلوب أي أصبحت صافية نقية ما فيها أي كدر.
ومن الثاني قوله في نفس القصيدة:
والْيُمْنَ في اليَمَن الْعلِيَّةِ حينُها ** فازتْ بفيضٍ والمزايَا الْعَاطِرَهْ 50
الجناس هنا بين (اليُمن و اليَمَن)، فالأولى أراد بها السعة والجدة والسعادة والبركة، وأما الثانية اسم إقليم معروف من بلاد العرب، سمي بذلك لأنه يقع عن يمين الكعبة،51 ويطلق الآن على الجزء الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب.
وأما الجناس التركيب ففيه يكون أحد لفظي الجناس مركبا، وهو على ثلاثة أضرب: المتشابه والمفروق والمرفو، فمن المتشابه قوله:
أَضْواءُها ضاءتْ فضَاءَ فِضَاءُها *** فغَدتْ لكلِّ دُجًى وغبْشٍ ماحِقَهْ
الأول ف(ضاء) وهو بمعنى أنار وأشرق، وأما الثاني (فضاء) ومعناه ما اتسع من الأرض والخالي منها. وأما المفرق والمرفو فلم يقف الباحث عند مادتها في القصائد. ويمكن القول إن هناك عدد كبير من الجناس داخل القصيدة، أي تتمتع بهذه الظاهرة البديعية سيما الجناس الناقص، فمن الأبيات التي ورد فيها ما يلي:
أَهْلاً بشمْسٍ بِالمعارِفِ ظاهِــــــــــــــــــــرَهْ | وسْطَ السَّماءِ ســــــــــــــــــــــما الـمَعَالِي الْبَاهِرَهْ |
أَعْني الهُمامَ إِمَامَ أَهْل معـــــــــــــــــــارِفٍ | بَرْهام من يُعْطِي الْعَطَايَا الضَّافِــــــــــــــــــــــرَهْ |
فَهَوَتْ به موَّارَةً جَوَّابـــــــــــــــــــــــــــــــةً | جَوَّ السَّما جَوْبًا كجَوْبِ مَوَاخِـــــــــــــــــــــــرَهْ |
ما زالَ يُوعِظُنا بكلِّ نَصَـــــــــــــــــــــــائِحٍ | تُنقِي وتُنقِذُ كلّ نــــــــــــــــــــــــــــفسٍ وازِرَهْ |
وسَلِ الْكُوَيْتَ كُفِيتَ شرًّا إذْ غَـــــــــــــــــدَتْ | لِقُدُومه تَجْنِي الْعطايا الْوَافِــــــــــــــــــــــــــــرَه |
أَخْلاقُهُم فاقتْ ورَاقتْ في الْــــــــــــــــــورى | كلّ فتَى الْفِتْيَانِ فاقَ فَوَائِقَـــــــــــــــــــــــــــــهْ |
برهامَ منْ هامَ الْبرايَا جَمَّـــــــــــــــــــــــــةً | مِن حُبِّه طهَ الأَمين مُنَائـــــــــــــــــــــــــــــــيَهْ |
برهامَ من هامَ الْورَى بــــــــــــــــــــــكَمَالِه | بِضيائِه الْوَضَّاحِ زالَ مَحَافِلَــــــــــــــــــــــــهْ52 |
فهذا قل من كل، وغيض من فيض من جملة ما ورد من الجناس الناقص في الأبيات، وهذه الجناسات مما أشار الباحث إليها ومما لم يشر، فإنها تسعى إلى تحقيق الإيقاع الموسيقي داخل القصيدة، الأمر الذي يطرب الآذان وتستحسنه.
هذا، وقد يبخس الباحث للقصيدة حقها إن لم يشر إلى ما عثر عليه من جناس معجب جدا، وهذا الجناس لا يتنبه إليه سوى من أنعم النظر بكل تبصر، وهذا الجناس يقع بين الشطرين الأخيرين وفي كلمة القافية من بيتين متتاليين أو من ثلاثة أبيات متتالية، فمن الثاني قوله:
يا شَيْخنَا برْهامَ شمْسَ الأصْفِيَـــــــــــــــــــا | نِلْتَ الْمُنى بَعْد الْمَراقِي الْبَاهِـــــــــــــرَهْ |
أَكْرِم بِبَرْهامَ الْجَميلَ خِصَالُـــــــــــــــــــــــهُ | أَكْرِمْ بِبَحْرِ فُيُوضِ خَيْرٍ هَـــــــــــــــامِرَهْ |
تَجْوِيدُهُ الْقُرْآنَ أَمرٌ ذَائِـــــــــــــــــــــــــــــعٌ | لَفَدَتْهُ قُرَّاءُ الرِّجَالِ الْمَاهِـــــــــــــــــــرَهْ |
يذكر الشاعر بأن شيخه برهام هو شمس الأصفياء، وقد نال المنى والمراقي الظاهرة الواضحة التي يراها كل مبصر وفاقت كل ما لأقرانه من الشيوخ، ويتعجب بخصال الشيخ الجميلة وبفيوض خيراته وبركاته الفياضة، ويذكر بأن تجويد الشيخ إبراهيم للقرآن الكريم أمر ذائع معروف ومعلوم لدى القراء، ولا يغفل عن أهل كَنُو فتواه التي استفتوه في شأن إذاعة القرآن في راديو، فألف مؤلفا أسماه: (الحجة البالغة في كون إذاعة القرآن في راديو سائغة).
فالجناس يقع بين: باهر، هامر، ماهر. وكلها جاءت في آخر ثلاثة أبيات متتالية، التي هي كلها تكرار للقالب الصوتي، ولا شك أن القارئ يصدق الباحث بأن بين هامر وماهر جناس ناقص اختلف فيه اللفظان في الترتيب فقط، وأن بين باهر و ماهر جناس ناقص كذلك، اختلف فيه اللفظان في النوع. ولا شك أن مثل هذا النوع لا يوجد عند كثير من الشعراء، الأمر الذي يدل على ما للشاعر من ولوع كثير واضح بالنغم والموسيقى.
ومن الثاني قوله:
قَلْبي إِلَى بَرْهَامَ حِبُّ نبِيِّنــــــــــــــــــــــــــــا | حامتْ وراحتْ وَهْي فيهِ وَامِقَـــــــــــــهْ |
أَلْقتْ إليْه شئُونُها كلِّيَّـــــــــــــــــــــــــــــــــةً | إذْ عمَّها عَطْشٌ وكانتْ صَامِقَـــــــــهْ 53 |
يذكر الشاعر بأن قلبه حامت وراحت في حبها الوامق للشيخ برهام، وقد ألقت شئونها كلها إليه بعد أن عمها عطش، فكأنه هو رَوَاؤُها تروي بفيضه الذي يفيضه لدى القلوب. والقارئ قد يصدق الباحث إذا ما قال بأن بين (وامق و صامق) جناس. ومنه قوله:
أَشْجارُ أنْوَارِ المعَارِفِ أَغْصَانُهَــــــــــــــــا | أَغْصانُ أسْرَار الْعُلُومِ الْوَارِقَــــــــــــــــــــــــــــهْ |
في حُبِّ ربِّ الْعلمِين فَنَوا وَهُــــــــــــــــــمْ | لَهُمُ قُلُوبٌ في هَــــــــــــــــوَاهُ غَارِقَــــــــــــــــــهْ |
ما يَعْبَئون بلَوْمِ مَن يَلْحَاهُــــــــــــــــــــــــمُ | في حُبِّه أَهلُ المزَايَــــــــــا النَّاسِقَـــــــــــــــــــــهْ |
شيْخُ المشَايِخِ في الْعُلُومِ جميعِهَــــــــــــــــا | قدْ حازَ أسْرارَ المعَــــــــــــــــــالي الْوَاسِقَــــــهْ 54 |
صور الشاعر أنوار المعارف بأشجار، وأن لها أغصان، فأغصانها هي أسرار العلوم، وهي ذات أوراق كثيرة خضراء حسنة، وأن هؤلاء الشيوخ فنوا في حب الله سبحانه وتعالى، وقد غرقت قلوبهم في ذلك ولا يخافون لومة لائم، وأن شيخ المشائخ الذي يقصد به شيخه برهام شيخ جامع وبحر لا ساحل له في جميع العلوم، وقد حاز أسرار المعالي الجامعة.
فهذه الأبيات الأربعة كلها متتالية، وفي ختام كل بيتين جناس في قافيته، لذلك تجد جناسا بين (وارق و غارق) وبين (ناسق و واسق).
والشاهد في هذا كثير وكثير، كي لايطول الباحث من سردها، بيد أنه تجدر الإشارة إلى أن تواجد أمثال هذا التوازن الموسيقي بين الشطرين من البيتين المتتاليين يعرض ويبرز صراحة مدى ولوع الشاعر بالعنصر الموسيقي في شعره. والجناس أينما وجد وكيفما كان نوعه إنه من التكرار لا محالة، وقد سبقت الإشارة إلى أن النفس تشتاق المكرر وتستحسنه.
المطلب الثالث : القافية الداخلية صورها ودورها
مفهوم القافية الداخلية
ومن مظاهر موسيقى الحشو أن تعزز القافية المشروطة التي تمليها موسيقى الإطار بقافية داخلية تختلف مدى وعمقا من مثال إلى آخر، فتتوافر في البيت الواحد في مواطن مختلفة كما تتوافر في البيتين أو أكثر.
وهي أي القافية الداخلية ضرب من ضروب السجع، بل كان عبد الله الطيب يعده السجع داخل الحشو،إذن مما سبق يظهر جليا بأن الترصيع والقافية الداخلية والسجع داخل الحشو، كلها مصطلحات مترادفة، أو متقاربة، وهذا أنيس يتحدث عن الترصيع فسماه (القافية الداخلية) والترصيع هو توازن الألفاظ مع توافق الأعجاز، أو تقاربها، وهذا الترصيع أو القافية الداخلية إن أتقنت لابد أن تجد لها وقعا موسيقيا جميلا وملموسا، لأنها تطرب الآذان الموسيقية، وتستحسنها.
وينبع الدور الذي تقوم به القافية الداخلية في الإبانة عن بعض جوانب الدلالة من حيث قدرتها على إحداث مزيد من التنغيم الموسيقي من ناحية، ومن جدلية علاقتها بالقافية الخارجية، سواء من حيث الصوت أو من حيث الدلالة. وكما أن آخر كل بيت أو آخر كل قافية خارجية هو تمام معنى القول، وإن لم يتم وتعلق بتاليه يكون عيبا، فشبيه الأمر كائن في الداخلية، بحيث تكون كل قافية داخلية حاملة لمعنى مستقلة التي لو أراد واحد شرحها لتوسل في عمله ذا إلى أوراق كثيرة، وآخر إلى تأليف أو مجلدات حسب ذوقه، ولعل البيت التالي يوضح ذلك أكثر، وهو مثال للقافية الداخلية، يقول الشاعر:
نبِيُّ الْهُدى ليْثُ الْعِدَى باذلُ النَّــــــــــــــــــــــــــــــدى | أبانَ لِأَهْلِ الرّشْد كلّ الْمعَــــــــــــــــــــــــــالمِ |
يصدقني القارئ إن قلت بأن موقع القافية الداخلية في البيت يتمثل في (الهدى و العدى و الندى)، وأنها انتهت بحرف واحد، وأن المعنى قد تمت في آخر كل قافية، وأنه لو أراد واحد شرح القوافي وتحليلها لتوسل في ذلك إلى أوراق جمة، وهكذا يكون شأنها في معظم الأمور، حيث تتجادل القافية الخارجية من حيث الدلالة.
من صور القافية الداخلية في القصيدة
لقد سبقت الإشارة إلى أن القافية الداخلية تختلف من مثال لآخر، تتوفر في البيت الواحد في مواطن مختلفة، كما تتوفر في البيتين أو أكثر، من ذلك يظهر بأنها تأتي في صور مختلفة، ولو أن الباحث يتتبع القصيدة ابتغاء مرضات يديه بأن تقق عند هذه الظاهرة سرعان ما تتمركز في أماكن كثيرة، واستقصى الباحث عند الشاعر في قصيدته صورا أربعة للقافية الداخلية، أولاها هي التي تتمثل في قوله:
ركبَ الصَّفا يسْعى كسَعْي المصطفَـــــى | فصَفَا القُلوب به فكـــــــــــــــــــــــــــــــانَتْ طاهره |
يذكر الشاعر بأن الشيخ ركب وصعد الصفا، فأخذ يسعى فيه كسعي النبي المصطفى، فصفت القلوب بالنبي المصطفى، لذلك صارت طاهرة نقية من الشك والشرك والونى.
فالقافية الداخلية إنما تقع في المصراع الأول من البيت فقط، حيث تقع بين (الصفا و المصطفى)، حيث انتهى آخر كل منها بالفاء، وأن كل قافية تحمل في طياتها معنى مستقلا بنفسه، كما أشار إلى ذلك الباحث من قبل. وهذه هي الصورة الأولى من بين الصور المتواجدة. وقد تتواجد في المصراع الثاني كما في المثال التالي:
إنَّ الوُصُول لِمَن تُحِبّ بُعَيْدَ مَــــــــــــــــــــا | جوْبُ الموامِي والمعَامي الضَّائقَـــــــــــــــــــــــــه |
يذكر الشاعر بأن العبد لا يصل إلى المحبوب إلا بعد جوبه الفيافي والمعامي الضائقة، فمجيء الشيخ هو الذي سهل وطوى طريق الوصول إلى الحق.
حيث تقع القافية الداخلية في المصراع الثاني فقط دون الأول، وهي بين (الموامي و المعامي)، حيث انتهت بالميم الموصولة بالياء. وهذه هي الصورة الثانية من بين صورها، ومن هذه الصورة كذلك قوله:
قلْبي إلَى برْهامَ حِبّ نبِيِّنــــــــــــــــــــــــــــا | حامتْ وراحتْ وهْي فيهِ وامِقَــــــــــــــــــــــهْ |
يذكر الشاعر بأن قلبه وامقة في حب برهام وشوقه، وهذا هو راحتها. حيث تقع القافية بين (حامت و راحت)، وذلك في المصراع الثاني دون الأول. وهذه هي الصورة الثانية من صورها.
وهناك صورة أخرى للقافية الداخلية حيث يتم فيها تجزئة الشطر من البيت إلى جمل قصيرة تتشابه في بنيتها التركيبية، وذلك كقوله:
سادتْ وراقَتْ وارْتقَتْ وتـــــــــــــــــــــــــلَأْلَأَتْ | أرْوَاحُ عِتْرَتِه فسرَّ سرَائِـــــــــــــــــــــــــــــــرَهْ |
فترى المصراع الأول كل كلمة منه انتهت بحرف واحد وهو التاء المفتوحة الساكنة، كما كانت القافية تنتهي بحرف واحد آخر الأبيات. وهذه هي الصورة الثالثة من بين صورها في هذه القصيدة.
وكما أشار الباحث من قبل بأنها تتوفر في البيتين أو اكثر، حيث تنتهي بحرف واحد آخر المصراع الأول من أبيات متتالية، فمن الثلاثة قوله:
ألقتْ إليه شئُونهَا كلِّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيَّةً | إذْ عمَّها عطْش وكانتْ صـــــــــــــــــــــامِقَهْ |
فلِأَجْل ذَا ورَدَتْ بحورُ ســـــــــــــــــــــــــــــعَادةٍ | برْهامَ مُرْدي ناعقٍ أوْ ناعِقَـــــــــــــــــــــــــهْ |
عمَّ الدُّنا بالصِّيتِ صيتُ ســـــــــــــــــــــــــــعادة | صِيت كنَشْر شذًا كبَاء عابِقَـــــــــــــــــــــــه |
يذكر الشاعر بأن قلبه ألقت شئونها كلها إلى شيخه برهام، والحال قد صارت في عطش شديد، فإذا ببحور سعادة ترد إليها، الأمر الذي أزال عطشها، وأن شيخه برهام عم الدنا بالصيت من مشارق الأرض ومغاربها، جنوبها وشمألها، والصيت صيت سعادة، الذي يدعو به العباد إلى الله والنبي، والتوحيد والإخلاص، والتقرب إلى الله بالقربات.
بالنظر إلى أواخر هذه المصاريع الأُول الثلاثة، المتحدة في القوافي، حيث تنتهي بالتاء المربوطة، وهي القافية عند من يرون القافية هي الحرف الأخير والفرَّاء على رأسهم. وإذا كتبت المصاريع متحدة هكذا في ثلاثة أسطر، يجعل أحدا من القرّاء يتخيل بأنما هي أبيات مشطورة لوحدة رويها.
ومن القافية الداخلية في المصراعين الأوليين من بيتين متتاليين قوله:
جَبْرٌ بُعَيْد الْكَسرِ عوْنٌ بـــــــــــــــــــــــــعْدمَا | هزمٌ به يَجْلي كرُوب عابِقَـــــــــــــــــــــــــــــه |
قدْ زالَ ظلْمٌ معْ ظلاَمٍ أظْــــــــــــــــــــــــــــلمَا | وبهِ انجَلتْ تلْك الْقيُودُ الرَّابِقَـــــــــــــــــــــــــه |
حيث ينتهي المصراعين الأوليين بحرف واحد هو الميم، وبكتابة المصراعين في سطر واحد يكون للبيت معنى تاما يحسن السكوت عليها، كالتالي:
جبر بعيدَ الْكسْرِ عوْن بعْدمَــــــــــــــــــــــــا | قدْ زَالَ ظلْمٌ معْ ظَلامٍ أظْلَمَـــــــــــــــــــــــــــــا |
فيظهر كأنما هو بيت مقفى، فتكون معناه بأن الكسر أصابهم، فإذا بعون يأتي إليهم ويجبر كسرهم، ويزيل الظلم والظلام الذي كانوا فيه. وهذا نوع عجيب من البراءة التي لا توجد عند بعض الشعراء، بحيث تأتي بالقافية من مصراعين، فإذا ضمتا يكوِّن بيتًا ويكون له معنى يحسن السكوت عليها.
إذن صور القافية الداخلية المتواجدة في هذه القصيدة أربعة: أولاها التي تتوفر في المصراع الأول من البيت. وثانيها التي تتوفر في المصراع الثاني، وأما إذا اعتبر هاتين الصورتين صورة واحدة تأتي في المصراع الأول أو الثاني، تكون الصور ثلاثة إذن. وثالثها التي يتم فيها تجزئة الشطر إلى جمل قصيرة متساوية. ورابعها التي تتوفر في أكثر من مصراع من أبيات متتالية.
وهذه هي أبرز الصور التي عثر الباحث عليها في هذه القصيدة، وعموما يمكن القول إن مجيء الترصيع أوالقوافي الداخلية في القصيدة قد يحدث أثرا قويا في زيادة الرنين الموسيقي وتنويعه داخل الأبيات، وأن كل المتعة الصوتية التي تنبع في صعود القافية وهبوطها قد تتمتع فيها، وإن كان قليل وجوده في الأشعار، أي لا يوجد عند بعض الشعراء. ودلاليا إن القافية الداخلية قد يكون لها معاني مستقلة بذاتها، التي لو أردت شرحها لااستعنت بأوراق كثيرة لا قبل لها في ذلك.
الخاتمة
درس المقال صور البديع في شعر واحد من زعماء الأدب النيجيري المكتوب بالعربية، عالم قضى عمره في خدمة العلم عموما، واستطاع أن يزيد في المكتبة العربية بمؤلفات نيرة أصبحت منبرا للباحثين في مستويات علمية مختلفة لكفاءتها وصلاحيتها في التقديم والبحث والتنقيب لإظهار جمالياتها. وقف عند بعض صور البديع في قصيدته المسماة بكمال الأماني، التي هي قصيدة قرضها تهنئة وترحيبا بأحد الشيوخ الوافدين إلى البلاد لغرض الدعوة والإرشاد وسوق الرجال إلى رب العباد، وهي قصيدة تربوا على أربعمائة بيتا. خص التكرار والجناس والقوافي الداخلية بالدراسة حيث أبرز بعض صورها المتواجدة في القصيدة.
ومما أنتجته الدراسة:
- نال الأدب في نيجيريا اعتبارا واهتماما بالغا وملموسا من قِبل علمائها، فأخذوا يحاكون العرب في الإنتاج شعريِّه ونثريِّه.
- يتمتع الأدب النيجيري المكتوب بالعربية بمتانة تذكر، والجدارة بالتقديم في ساحات الدراسات الأكاديمية المختلفة للإبداعات والروعة الفنية المتبلورة فيه.
- لا يقل الأدب الصوفي تشحنا بالصور كما لايقل أهمية وجودة من أي شعر آخر.
- وأن قصيدة كمال الأماني تبلورت فيها صور بديعية يتمثلها التكرار اللفظي بأغراضه ، و الجناس بصوره ودوره الموسيقي، والقافية الداخلية بأشكالها الأربعة وأدوارها . وأن الجماليات والأدوار التي تتضح فيها تنبني على سلامتها وبعدها عن التكلف والصنعة اللفظية.
- وأن ما يمكن قوله في هذا الشعر يمكن قوله أو شبيهه في كثير من إنتاجات علماء البلاد، الأمر الذي يدل على أنهم بلغوا القمة في التثقف بالثقافة العربية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- الغُسوِيّ، محمد قَنِ، (1960) كمال الأماني في الترحيب والتهاني بالفيض التجاني الشيخ إبراهيم الكولخي. مخطوط.
البحوث العلمية :
- إبراهيم، سركي (1980) فن الرثاء عند شعراء مدينة كنو في القرن العشرين الميلادي. بحث علمي تكملة للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية، قسم اللغة العربية جامعة الخرطوم بالسودان.
- أحمد، يهوذا (1989) شخصية الشيخ عثمان القلنسوي ومنظومته الروائح العنبرية في بيان الرحلة القلنسوية. بحث علمي لنيل شهادة الليسانس في اللغة العربية، قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو.
- مقري، إبراهيم (2009) الصورة الشعرية عند الشيخ إبراهيم الكولخي. بحث علمي تكملة للحصول على درجة الدكتوراه في اللغة العربية، قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو.
- عبد الرحمان، محمود تجاني (2009) ديوان جوهرة الرثاء وشاشة أهل الصفاء للشيخ محمد قن بن علي دراسة أدبية تحليلية. بحث علمي تكملة للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية، قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو.
- عبد الرحمان، أبوبكر تجاني (1992) مساهمات الأستاذ محمد قن الغسوي في الأدب العربي النيجيري دراسة وتحليل. بحث علمي تكملة لنيل شهادة الليسانس في اللغة العربية، قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو.
- عثمان، بشير تجاني (1992) الشيخ محمد الثاني حسن كافنغ وديوانه نيل الأماني. بحث علمي تكملة للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية، قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو.
- ثالث، أحمد محمد (2002) صور من التشبيه في أشعار بعض علماء كنو. بحث علمي تكملة للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية، قسم اللغة العربية جامعة بايرو كنو.
الكتب المنشورة
- إبراهيم، إبراهيم أول ، المرشد إلى فهم قصائد المولد ، ط1، 2011م
- أنيس، إبراهيم، “الدكتور” (2007)موسيقى الشعر. ط7، مكتبة الأنجلو المصرية.
- ابن الأثير، ضياء الدين، (1995)المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة العصرية، بيروت.
- أبوبكر، علي “الدكتور” (1972) الثقافة العربية في نيجيريا. ط1؛ بيروت لبنان.
- المجذوب، عبد الله الطيب “الدكتور” (1955) المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها. ط1، مطبعة مصطفى البابلي الحلبي وأولاده بمصر.
- معلوف، لويس، (2003) المنجد في اللغة والأعلام. ط26، دار المشرق، بيروت.
- الهاشمي، أحمد “السيد” (2003) جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع. دار الفكر، بيروت لبنان.
- شلبي، طارق، “الدكتور” (2006)الصوت والصورة في الشعر الجاهلي، دار البراق، القاهرة.
- مبا رك، زكي، – المدائح النبوية – مصطفى البابلي الحلبي وأولاده، القاهرة، 1935م
المواقع الإلكترونية :
www.alfaseeh.com/vb/showtheard.php/t=28162.–
www.bramjnet.com /vb3/showthread.php.-
د. ابراهيم أول ابراهيم