***********
? قال الكاتب الاسكتلندي «تُوماس كارليل» (1795- 1881م)، في حديثه عن «وليم شكسبير»: «لو خُيِّرت إنجلترا التَّخلِّي عن أقطار الهند أو مُؤلَّفات شكسبير، لو أكرهتها الأحداث عن هذا التَّخيُّر، لماَّ تردَّدت في أن تستبقي آثار شكسبير وتتخلَّى عن الهند».
كما وضعه الكاتب الإنجليزي «بن جونسُون» (1572- 1637م) في المُقدَّمة، بل رفعه فوق كُلّ الكُتَّاب المسرحيِّين قديمهُم وحديثهُم، وقرَّر أنَّه ليس فريدًا في عصرٍ بعينه بل في كُلِّ العصور. وقد وصّفه المُؤرِّخ الإنجليزي «تُوماس فُولر» (1608-1661م) في كتابه المُعنون: «تاريخ مشاهير الرِّجال في إنجلترا»، بأنَّه: «يستطيع أن يتَّجه إلى حيث يتَّجه الموج ويُغيِّر اتجاهُهُ حيث يشاء، ويستفيد من كُلِّ ريح بفضل سُرْعة بديهته وابتكاره ». وأيضًا وصفه الكاتب الألماني «فريدريش شليجل» (1772- 1829م)، بأنَّه: «المارد المسرحي الذي يقتحم السَّماء».
ولد «وليم شكسبير » William Shakespeare في 23 أبريل عام 1564م في بلدة «ستراتفورد أبون آفون»، كان والدُه «جون ريتشارد شكسبير» يعمل في تجارة الأصواف وصناعة القُفَّازات، كما كان يعمل بالزِّراعة أيضًا، أمَّا والدته «ماري روبرت أردن»، فهي تنحدر من عائلةٍ عريقةٍ، ينتهي نسبُها إلى الملك «ألفريد العظيم» (849- 899م).
التحق «شكسبير» بمدرسة «ستراتفورد» حين بلغ السَّابعة من عُمْره، واستمر فيها حتَّى سن الرَّابعة عشرة. درس فيها بعض اللَّاتينيَّة، واليُونانيَّة، وعلم البيان، والمنطق، والتَّاريخ، ويُعتقد أنّه حصل على معلُوماتٍ واسعةٍ في علم الأحياء، والتِّجارة، وهواية الصَّيد والقنص، وفُنُون القصّ، والموسيقا، كما درس الكيمياء، والطِّب، والفلك، والقانوُن فأصبحت له ثقافة واسعة مُستفيضة سواء من قراءاته الحُرَّة أو مُلاحظاته الثَّاقبة للعالم المُحيط به.
تزوَّج «شكسبير» من «آن هاثاواي »، عام1582م، وفي مايو 1583م، وُلدت طفلة سمياها «سوزان»، وفي يناير عام 1585م أنجبا توأم عُمدا تحت اسم « هامنت »، و«جوديث »، توفَّي ابنه «هامنت» في عام 1596م، عندما كان في الحادية عشرة من عُمْره لأسبابٍ غير معرُوفة، هذا.. ويقُول بعض النُقَّاد أنَّ اسم المسرحيَّة الشَّهيرة «هاملت» اشتق من اسم ابنُه «هامنت».
ترك «شكسبير» بلدته الصَّغيرة «ستراتفورد» مُتوجِّهًا إلى لندن في عام1587م، وعُمْره (24) عامًا، حيث عاش وحيدًا غريبًا، وفي أواخر عام1594م أصبح مُساهمًا في الفرقة المسرحيَّة التي تُدعى «رجال اللُّورد تشامبرلين»، التي كتب لها مُعظم مسرحياته وحقق نجاحًا فنيًّا حقيقيًا.
ازدهرت أحوالُه الماليَّة فتمكَّن من المُشاركة في ملكيَّة مسرح «جالوب» في لندن الذي كانت مسرحياته تُقدَّم على خشبته وذلك مُنذ عام1598م. ثُمَّ اشترى منزلًا مُستقلًا لأسرته في مسقط رأسه، كما اشترى (127) فدَّانًا من الأرض.
عاد «شكسبير» إلى « ستراتفورد » في عام1610م بعد مرض قصير، ثُمَّ توفَّي في الثَّالث والعشرين من شهر أبريل عام1616م، عن أثنين وخمسين عامًا. وقد دُفن في «كنيسة الثَّالوث المُقدَّس» بمسقط رأسه.
ويُمكنُنا تتبع مراحل التَّطوُّر الإبداعي لشاعرنا العظيم، من خلال أربع مراحل رئيسة: ففي خلال المرحلة الأوَّلى (1590- 1594م) كان «شكسبير» كاتبًا مُبتدئًا بالمُقارنة مع مُعاصريه من الكُتَّاب، فلم تتسَّم أعمالُه في هذه المرحلة بالنُّضج الأدبي والفنَّي، بل جاءت بنية نُصُوصَّه سطحيَّة وغير مُتقنة، وتركيباته الشِّعريَّة مُتكلَّفة وخطابيَّة. ومن أهم أعماله في هذه المرحلة: (هنري السَّادس- تيتوس أندرونيكوس – ريتشارد الثَّالث – كُوميديَّا الأخطاء – ترويض النَّمرة – رُوميو وجوليت – سيِّدان من فيرونا).
أمَّا المرحلة الثَّانية (1595- 1600م)، فكتب أهم مسرحياتُه التَّاريخيَّة، كما كتب نُصُوصَّه الكوميديَّة الأكثر مرحًا، ويظهر في هذه المرحلة تطُور ملحُوظ في أسلوبه الذي صار يميل إلى الخُصُوصيَّة والتَّميُّز. ومن أهم أعمال هذه المرحلة: (الحُبّ مجهُود ضائع – الملك ريتشارد الثَّاني – حُلم ليلة في مُنتصف الصَّيف – تاجر البُندقيَّة – الملك هنري الرَّابع بجزأيها الأوَّل والثَّاني – الملك هنري الخامس – جعجعة بلا طحن – يوليوس قيصر – كما تُحبّ).
وقد تميَّزت أعمال المرحلة الثَّالثة (1601- 1608م)، بأفضل ما كُتُب «شكسبير»، ولذا سمَّاها بعض النُقَّاد بمرحلة النُّضج الأدبي، إذ كتب أعظم نُصُوصه التَّراجيديَّة، وتلك التي تقترب من الكُوميديا السَّوداء. وتُظِهر مآسي هذه المرحلة عُمق الرُّؤيا عنده وبراعة الصَّنعة الدِّراميَّة، فقد وظَّف في هذه المسرحيَّات أدواته الشِّعريَّة بما يُناسب النَّصّ والعرض المسرحيِّين فوصل إلى حدِّ الإتقان في الدمج بين العواطف البشريَّة والفكر الإنساني مع الشِّعر والمواقف المُؤثِّرة، ومن أشهر أعمال هذه المرحلة: (هاملت – ترويلوس وكريسيدا – الصَّاع بالصَّاع – ماكبث ـ عطيل – الملك لير – أنطونيو وكليوباترا – تيمُون الأثيني).
وكتب «شكسبير» في المرحلة الرَّابعة (1609- 1611م) أهم نُصُوصه الرُّومانسيَّة، وبدا في أواخر حياته وكأنَّه يُقدِّم رُؤى جديدة مُتفائلة باستخدامه أدواتٍ ومفاهيم عِدَّة، من الفنِّ والعاطفة وعالم الجن والسَّحر والخيال، إضافة إلى استخدامه الشِّعر الغنائي أكثر من أي وقت مضى، ممَّا جعل مسرحياتُه الأخيرة تختلف كثيرًا عن سابقاتها. لذا اتَّجه بعض النُقَّاد إلى القول بأنَّ المسرحيات الأخيرة تُلخِّص رُؤية «شكسبير» النَّاضجة للحياة. ومن أهُم أعماُله في هذه المرحلة ) :مأساة كريولانس – العاصفة ).
تعُود أهمِّيَّة «شكسبير» ومن ثمَّ عبقريته في كونه الابن النَّجيب لفكر وفنّ عصر النَّهضة الأورُوبِّيَّة بامتيازٍ؛ فهذا الفكر الذي عالج جوهر الإنسان الفرد وموقعه في الكون ودوَّره في الحياة، على كافَّة الأصعدة انعكس بجلاءٍ في مسرحيَّاته، سيما في المرحلتين الثَّالثة والرَّابعة؛ وما شخصيَّات هذه المسرحيَّات، على تُنوِّعُها وتُباينها إلَّا تعبير عن مُعاناة الفرد في واقعه وتوقه إلى الانعتاق من أي قيد يُعرقل تفتُّحه وطموحه.
وعلى ذلك لا يمكن مُقارنة الشَّهرة التي اكتسبها أي كاتب آخر بشهرة «شكسبير» عالميًّا على كافَّة المستويات، فقد دخل إلى جميع الثَّقافات والمُجتمعات الأدبيَّة والفنِّيَّة والمسرحيَّة في كُلِّ بُلدان العالم. وقد اعتمد في مسرحه وشعره على العواطف والأحاسيس الإنسانيَّة، ممَّا عزَّز من عالميَّته واستمراريَّته. فأبطال مسرحيَّاته المأسوية شخصيات تتميَّز بالنُّبل والعظمة والعواطف الإنسانيَّة، وتُؤثِّر في الجمهور والقُرَّاء أينما كانوا، ولا تزال الشَّخصيَّات الكوميديَّة تُضحك الجُمْهُور لما في تصويرها من ذكاءٍ ودقةٍ وفكاهةٍ.
كما تبدو بعض النِّساء في مسرحيَّات «وليم شكسبير»، وكأنَّهن اقتطعن من نفس العجينة: «بياتريس» (كُوميديَّا الأخطاء)، و«روزاليند » (كما تُحبّ)، و«كورديليا » (الملك لير)، و« ديدمونة » (عطيل)، و«ميراندا» (العاصفة)، و«هيرميون» (حكاية الشِّتاء ). وإنَّهن قد يفقدن الحقيقة والواقع، ثُمَّ في بعض الفترات، تبعثُهُن بضع كلمات قليلة إلى الحياة، من ذلك أنَّ «أوفيليا»، حين يبلُغُها «هاملت» أنَّه لم يكن يُحبَّها في يومٍ من الأيَّام، تجيبُه دُون اتهام مُضاد، ولكن في بساطةٍ حزينةٍ مؤثرةٍ، بقولها: «كنت أنا المخدوعة أكثر».
ويتجلَّى نضج «شكسبير» الفكري والفنَّي في صياغة الصِّراع الذي يخُوضُه الفرد بين نوازعه وغرائزه وطمُوحاته وبين ظُروف الواقع المُحيط والحتميَّة التاريخيَّة. فلا توجد في مسرحيَّاته شخصيَّات مُعلَّقة في الهواء، بل هي دائمًا ابنة واقعها بتجلِّياته الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة.
وعلى الصَّعيد الفنَّي كان «شكسبير» نفسُه ابن واقعه ومعطياته، وقد تجلَّت عبقريَّته الفنِّيَّة في استيعاب الأشكال الفنِّيَّة التُّراثيَّة والمُعاصرة والشَّعبيَّة وإعادة صياغتها استجابة لمتطلِّبات العصر ولشُرُوط المُمارسة المسرحيَّة في دور العرض الفقيرة بالتَّجهيزات المسرحيَّة آنذاك. ومن هُنا كان خُرُوجه على القوانين الكلاسيكيَّة، وتأكيده على الحبكة المُزدوجة، ومزجه المُرهف بين الواقعي والخيالي، وبين العواطف والأهواء المُتضاربة، واستخدامه الشِّعر والنَّثر في العمل المسرحي الواحد وبمُستويات لُغويَّة مختلفة حسب طبيعة الشَّخصيَّة وموقعها الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى التَّأكيد على تعدُّد أمكنة الأحداث وفتح الزَّمن من دُون أيَّة تحديدات تُقيِّد حُرِّيَّته.
للكاتب والباحث وفيق صفوت مختار