بعيدًا عن غزة التي شغلت العالم منذ 7 أكتوبر، سواء ببراعة المقاومة التي خلقت أنموذجًا جديدًا سيدرس في كافة الجامعات العسكرية، وهو الفرد في مواجهة الآلية، والذي قطعا سيُستخدم في أي حرب قادمة. وستأخذه أي قوة دفاعية مستقبلية كنقطة انطلاق، أو من هول المشاهد القادمة من أم الرزايا والمجازر التي لا يكاد أن يكون فيها موضع لم يُقصف وينكل بأهله.
هنا الضفة الغربية التي تختلف مع شريكة الوطن بكل شيء تقريبًا. ابتداءً بالجغرافية التي تميل إلى الوعورة والتضاريس الصعبة، مرورًا بالتعقيدات الأمنية وواقع الكنتونات والبوابات الأمنية التي تقطع أوصالها وتجعلها منطقة مكشوفة، بل مستباحة للعدو في أغلب الأوقات. والتي حوربت بشدة وضُخّ الكثير من الأموال لتصفية مقاومتها وعزلها عن الصراع مع العدو، واقتصار الأمر على عمليات فردية بدأت تطفو إلى السطح في السنوات الأخيرة.
لكن الوضع شهد تحولًا تدريجيًا مدروسًا جعل الضفة الغربية وكأنها أضحت قنبلة موقوتة ومصدر توتر للقيادات الإسرائيلية التي أبدت عجزها تجاه هذا الكم من العمليات المركبة والتي تنم عن تحضيرات كبيرة وهياكل عسكرية منظمة خارجة عن إطار العمل الفردي والانتقامي.
ودفع غالانت لرفع الحظر عن استخدام سلاح الجو في الضفة الغربية، مما يدل على العجز التام عن مواجهة هذا الجهد التراكمي المتصاعد.
يكفي أن نعرف أن الضفة شهدت 50 عملية منذ أكتوبر، خلفت 30 قتيلاً إسرائيليًا، وشاب التعقيد معظمها، حيث عجزت إسرائيل في معظمها عن فك أحجية العمليات. فهنا ليست غزة بل الضفة الغربية المكشوفة أمنيًا والتي يتواجد الجيش الإسرائيلي فيها بكثرة ويملك كافة مفاتيحها، فماذا حصل لنرى هذه الفيديوهات لعمليات مركبة بطولية كنا نعتقدها في غزة، وها هي تظهر في الضفة.
المقاومة الفلسطينية كسبت زخمًا كبيرًا في الضفة ونجحت في إعادتها إلى الطريق لتعود كما كانت في التسعينيات كابوسًا وصداعًا دائمًا لإسرائيل. فالمقاومة لم تعد في جنين ومخيمها فحسب، بل راحت تتغلغل بجاراتها نابلس وطولكرم وطوباس لتربك العدو أكثر، الذي عجز عن مواجهة مخيم البطولة في جنين، فكيف ببؤر توتر جديدة.
وما زاد الريبة أن هذه العمليات ظهر فيها جانب توثيقي كبير صوّر مراحل العمليات التي سمت بالتعقيد. ويمكن اعتبارها استنساخًا لكمائن الموت في غزة، ولكن بصورة تتلاءم مع جغرافيا الضفة المعقدة والتشرذم الأمني والمناطقي الحاصل جراء إحكام العدو السيطرة على كل معالم الحياة في الضفة.
فإذا أخذنا عملية جنين كنموذج، فسنرى كمينًا معقدًا مركبًا يستهدف قوات إسرائيلية في منطقة بإجراءات مشددة، بل ويجهز على قوة الإنقاذ وينجح المنفذون في الانسحاب، مما يظهر قدرة عالية على الرصد والتتبع والتي بدورها تحتاج لأجهزة وتخطيط عالٍ. وهذا يظهر حجم الخبرة المكتسبة والتطور بالقدرات. والأمر ذاته ينطبق على عملية حرميش ومرج بن عامر، حيث ظهر جهد استخباري مهول وعجز الاحتلال عن فك لغزها لعدة أيام، إلى أن أعلن العدو أن العبوات زُرعت بعمق حتى عجزت الجرافات والكاسحات على تجريفها، مما يظهر فشلًا استخباريًا إضافيًا للعدو في الضفة، حيث يكلف الخطأ مستوطنين.
والشهر الأخير وحده شهد عمليات كثيرة، منها (قلقيلية ورامين وكرمئيل ويتسهار وباب السلسلة). كما أن مناطق أخرى بعيدًا عن جنين ومحيطها، كالقدس والخليل، لم تعد كما كانت قبل الحرب بالنسبة للمستوطنين.
نجحت المقاومة بعدة أمور تكتيكية ولوجستية جعلتها تصبح عصية على الاحتلال، وترتب أوراقها بعد كل عملية عسكرية وتكون مرنة أكثر. من أهمها العمل المشترك والتنسيق الدائم، وتخطي البعد الأيديولوجي والتنظيمي وتبادل الخبرات، مما جعل مهمة اختراقها أصعب.
لكن رغم ما سبق، فالمقاومة في الضفة ترتطم بالكثير من التحديات، أهمها صعوبة الجغرافيا والانكشاف الكامل للضفة والتنسيق الأمني. وهذه العوامل يجب أن تساعد المقاومة على تطوير أساليب تلائم الضفة على غرار غزة.
الكاتب والباحث محمود النادي
فعلاً صدقت بكل حرف.. حمى الله فلسطين و رجالها