يعد الكتاب رؤية متوازنة تطوف حول المصطلح لإزالة اللبس وإيضاح المبهم، يقدم في وثباته الهادئة رؤية متوازنة لتجديد الخطاب الديني منطلقًا من مصرية أصيلة وأزهرية مستنيرة. تركزت بؤرة الدراسة ونقطة انطلاقها من أن الحاجة أم التجديد. وقامت على ثلاثة محاور رئيسة:

المحور الأول: حكم لا واقع له:
أن يكون هناك حكم أو نص ولكن ليس له واقع، وهذا الواقع إما أن يكون منعدمًا تمامًا فليس هناك عمل للحكم أو النص. وإما أن يكون هناك واقع اعتباري، بمعنى أن يكون هناك سارق فعلًا، ولكن لم تتوفر الشروط لإقامة الحكم عليه. كما في قصة الغلام الذي سرق من مال سيده فشكاه السيد إلى سيدنا عمر رضي الله عنه، ولما استقرأ “عمر” القضية بكل أبعادها، وجد أن الغلام مظلوم، وقد منع عنه سيده الطعام والشراب حتى كاد يهلك جوعًا في عام (الرمادة). هناك وجد سيدنا عمر رضي الله عنه أن الحكم لا واقع له ولا مجال للتنفيذ بل إنه عنَّف السيد قائلًا له “لو سرق الغلام مرة أخرى لقطعت يدك أنت”.
المحور الثاني: تمثله قاعدة فقهية “تجد للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فتن” ويتمثل في الواقع الذي لا حكم له، أي أن هناك قضية جدت وواقعًا حل ولكن لا حكم له واضح أو لا نص فيه. ومن ثم وجب الاجتهاد لإيجاد حكم من الشرع يتوخى روح العدل والرحمة والإنصاف، كما حدث فيما يعرف بالوصية الواجبة التي نصت على أن أبناء الابن الذي مات في حياة أبيه يأخذون ما كان سيأخذه أبوهم وهو حي مثل إخوته بشرط ألا تزيد الوصية عن ثلث التركة.
المحور الثالث: التجديد فريضة إنسانية وسنة كونية معًا، فتعدد الرسل بتغير الأزمنة والأمكنة، وفق أطوار البشر؛ فالبشر ينتقلون من طور إلى طور آخر. ولأن الإسلام هو الدين الذي جاء به جميع المرسلين؛ فتعدد الرسل أشبه بتعدد المفهوم لنص واحد. ومن ثم كان الإلحاح على تجديد الخطاب الديني هو إتاحة تعدد المفهوم لنص واحد حسب مقتضيات المكان وطبيعة الزمان، فالثروة الفقهية التي آلت إلينا من حقب تعاقبت وأماكن تنوعت وعقول تعددت هذه الثروة ما كانت لتكون لولا ذلك التجديد الذي واكب مقتضيات العصور وملابسات معايش الناس. بل إن التجديد كان وراء ازدهار التراث الذي نفخر به الآن.

ثم عرج المؤلف إلى فواتح التجديد، والتي تمثلت في:
1- إجازة نبوية في الاجتهاد: عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا “معاذ بن جبل” إلى اليمن، سأله بم تقضي بينهم؟ أجاب معاذ بكتاب الله، فقال الرسول، فإن لم تجد؟ أي لم تجد في القرآن ما يسعفك في القضاء، أجب معاذ فبسنة رسول الله، فقال الرسول فإن لم تجد؟ أجاب معاذ أجتهد ولا آلو. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله.
2- الفقه ركيزة للتجديد: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”. وقوله صلى الله عليه وسلم “من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين” والبون شاسع بين العلم بالدين وبين الفقه في الدين، الأول يقف عند حدود الحفظ والتلقين، والثاني يفتح الباب للفهم والاجتهاد.
3- ديمومة التجديد: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها”. وهذا النهج التجديدي المستمر يواكب المتغيرات التي تجد كل قرن من الزمان. ومن ثم وضع الدكتور عبد الباسط منهجًا مقترحًا يصلح ركيزة مؤسسة على رؤية وعلم تؤسس طالبًا يستوعب فكرة التجديد، تمتد عبر سنوات الكلية الأربعة، ويستمد هذا المقترح في مشروعيته على التراث المصري القديم والتراث العربي، والتراث الإسلامي.
ولم يغفل عوائق التجديد، التي تحاول تجميد الفكر وتقديس التراث؛ للسيطرة على الشعوب، والتي تتمثل في:
1- الاستعلائية: فالشعور بالخيرية المطلقة قاد إلى الانغلاق، والاستعلاء بالماضي وخير القرون، جمَّد عقولهم ولو فقهوا لسلكوا مسلكهم في الاجتهاد ومراعاة الزمان وملابسات الأمور كما صنع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إبطال سهم المؤلفة قلوبهم وفي تعطيل حد السرقة عام الرمادة.
2- الوصاية على التراث: وتكمن خطورتها في ادعاء مؤسسة ما بأنها الأحق إذ تكون عبئًا على التراث ذاته وتفرض وصاية حاكمة لها خطورتها على قضية التجديد والتحديث. ذلك أن التراث كان ثمرة اجتهاد مستمر وتجديد يمضي نهره دافقًا لا يوقفه أحد.
3- خلط المفاهيم: فكلمة تجديد ليست ضد القديم، و”خير القرون” إشارة من النبي إلى الاقتداء بهم في الفهم والاجتهاد. لا أن نقلدهم ونلغي أفهامنا ونسلم لفهمهم الذي ناسب زمانهم. ناهيك ما نتج عن تلك النظرة الضيقة من ظهور الجماعات التكفيرية، والتي قادت البلاد إلى ويلات وهزائم نكراء، والتي عملت تلك الجماعات على إشاعة البلبلة بين الناس، ظنًّا منها أن صحوة الأمة العقلية والفكرية لن تمكن تلك الجماعات من السيطرة عليها.
ثم تناول بعض رواد التجديد قديمًا وحديثًا، ممن ساهموا في ثورة تجديدية مؤثرة، ومنهم:
- رفاعة الطهطاوي: ترجم تلك الرؤى إلى مشاريع محددة واضحة.
- الإمام محمد عبده: مهد الطريق أمام كل من تجاسر وخاض غمار ولجج هذا البحر الهائج الذي لا يهدأ أبدًا.
- الشيخ عبد الرازق: كشف في أطروحته “الإسلام وأصول الحكم” أن فكرة الخلافة ليست من أصول الدين الثابتة، وأنها صورة كانت من صور الحكم، وهيكل النظام السياسي، وأنه يمكن التخلي عنها إلى نظام سياسي آخر يتفق مع سياق العصر.
- الإمام المراغي: يعد من الأئمة الأعلام المجتهدين المجددين وقد بذل جهدًا ضمنيًّا ليكون الأزهر الشريف هو مهد التجديد وحصنه.
- كتاب “الإسلام والتجديد في مصر” للمستشرق “تشارلز آدمز” ترجمة “عباس محمود” وهو دراسة تمهيدية لترجمة قدمها بالإنجليزية لكتاب الشيخ علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم”.
- طه حسين: من خلال كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”.
- الخشت، من خلال رؤيته في كتابه “نحو تأسيس عصر ديني جديد”، فيرى أن التجديد لا يتم إلا من خلال منظومة متكاملة من خطابات متعددة إذ يرى توظيف “مجموعة من الآليات لتحقيق حلول قصيرة ومتوسطة المدى تشمل التعليم والإعلام والثقافة والاقتصاد والاجتماع والسياسة وذلك لصناعة عقول مفتوحة على الإنسانية في ضوء العودة إلى المنابع الصافية: القرآن والسنة”. فـ”تجديد الخطاب الديني عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة، ولغة جديدة، ومفردات جديدة.. وفق متغيرات العصر وطبيعة التحديات التي تواجه الأمة”.
- الشيخ عبد المتعال الصعيدي، وهو عالم لغوي من خلال نقده لنظام التعليم في الأزهر وكتابات عن الحرية الدينية في الإسلام وآرائه واجتهاداته.
- الإمام الشيخ محمد متولي الشعراوي من خلال تقديمه لخواطره حول القرآن الكريم بمنهج أسلوبي معاصر يرى النص القرآني كله وحدة متكاملة متساندة.
كانت هذه إطلالة سريعة وموجزة حول كتاب العلامة الأستاذ الدكتور عبد الباسط عطايا العميد السابق لكلية اللغة العربية بالمنوفية.
د. سعيد محمد المنزلاوي