“الخطاب” قصة قصيرة ل د. سعيد محمد المنزلاوي

ظاهرة البريد، ظاهرة قديمة متعارف عليها من قديم الآزل، توارثتها الأجيال، حتى أمست حقيقة لا تقبل الجدال وليست تثير الخوف أو الفزع، يستخدمها الناس للاطمئنان على ذويهم، دون أدنى حرج، كما تستخدم لأغراض أخرى، ويلجأ إليها الناس توفيرًا للوقت واقتصادًا في النفقات. ومن ثمَّ باركوا هذا الاختراع.
أما السيد “عليش” فلم يكن قد تعامل مع هذا الاختراع العجيب من قبل. ربما سمع عنه يومًا، ولكنه تغافل عنه حتى تناساه، فليست له به حاجة.


كان رجلًا قمينًا قمحي البشرة، يخفي شعره المجعد بطاقية لا يخلعها صيفًا ولا شتاءً إلا في حالتين اثنتين: الوضوء عندما يمسح على رأسه، والاستحمام كل يوم جمعة، حيث يغمر جسده النحيل بالماء. أخفت الشيخوخة بريق عينيه، وأمست نظرته بلهاء، يدهشه كل تطور، ويفزع من كل أمر جديد. قضى حياته كلها في قريته، لم يغادرها يومًا واحدًا، فصارت هي كل عالمه، وصار أهلها هم العالمين. تتطور الحياة بين يديه، وهو ناعس الطرف لا يوليها أدنى اهتمام.
حدثه بعضهم عن اختراع الإنسان للقمر الصناعي، فأخذته الدهشة، واعتدل في جلسته، ونظر إلى القمر في السماء، ثم صفق كفيه وحوقل وتعوذ بالله وتفل عن يساره ثلاثًا، وقال مشدوهًا:

يخلقون كخلقه.
وكان يقول عن الهاتف الذي يقتنيه أخوه الذي يعيش في البندر، أن شيطانًا يسكنه، إذ كيف يسمع أصواتًا من صندوق بلا حياة.
كان السيد عليش يعجب من كل شيء، ويدهشه كل أمر طارئ وغريب، ولا يتسع عقله لأن يفهم كنه الأشياء من حوله، بل إنه لم يُحمِّل عقله ـ إن كانت بالفعل رأسه الصغير تحوي عقلًا ـ مؤنة التفكير، فما إن يسمع عن شيء جديد لم يألفه، حتى يردد:عجايب، ما هو آخر زمن، والقيامة قربت تقوم
وكذلك كان شأنه مع البريد، فلا يقترن بذاكرته، إلا بالمصائب، فهو يذكر جاره الحاج “حسنين” الذي ما حمل البريد إليه خطابًا إلا ويجد فيه أمرًا بالسداد؛ حيث كان يقترض من البنك كثيرًا. و”حسان” ابن جاره الحاج “عبد الراضي”، والذي توقف عن التعليم إثر خطاب من المدرسة بفصله، بسبب تغيبه كثيرًا بلا عذر. كل ذلك هين مقارنة بما جرى لجارته “أم ربيع”، والتي غاب عنها زوجها دون أن تعلم بمكانه، وظلت أيامًا وشهورًا تبحث عنه، حتى حمل إليها البريد ورقة طلاقها غيابيًّا منه؛ لتحمل بمفردها هم البيت وأولادها الخمسة.


ولم يصادف أبدًا أن سمع عن إنسان حمل إليه البريد أمرًا سارًّا أو جائزة مالية؛ فارتبط البريد عنده بالمصائب، وظل يتوجس منه خوفًا، وإذا صادف أن مر بجانبه ساعي البريد يحوقل ويتعوذ بالله من الشيطان ويتفل عن يساره، حتى يختفي بعيدًا عنه، فيدعو الله ألا يراه مرة أخرى، ولكن يبدو أن الله لم يستجب لدعوته، فقد طرق ساعي البريد بابه، فلما رآه، شحب لونه وصار في بياض الجير، وارتعدت فرائصه، كأنما رأى شبحًا، ومسته رعشة باردة سرت في أوصاله. وعندما مد إليه الساعي يده بالخطاب، شعَر بشعْر رأسه قد وقف، فخلع طاقيته، وراح يتحسس شعره المجعد ويربت عليه.


خاطبه الساعي:جواب لك يا حاج عليش.
عقل لسانه، ولم يستطع أن يمد له يدًا. ألح عليه الساعي أن يتناول منه الخطاب؛ استشاط غضبًا، وحملق فيه بعينين مستعرتين، ود لو أحرقه بنظراته، وأمام إلحاح ساعي البريد، لم يجد مفرًّا من استلام الخطاب، فمد إليه يدًا مرتعشة تتصبب عرقًا. انصرف الساعي؛ فشيعه بنظراته الغاضبة.


طافت الظنون برأسه ، واسترجع صور المآسي التي حملها البريد لكل من يعرفه ومن لا يعرفه، ثم نفاها عنه جميعًا، وعزى ما في الخطاب إلى مصيبة أكبر، وخسارة أفدح، وراح يخمن أي مصيبة تلك التي ينطوي عليها الخطاب. لو كان يستطيع القراءة لفض الخطاب واستراح من كل تلك الوساوس والظنون، وقد أورثه الجهل بلاهة جعلته يندب حظه العاثر، ويبكي على حاله، دون أن يعلم فحوى الخطاب، وراح يبكي ويولول، واجتمع أهل القرية لعويله وراحوا يرثون لحاله، ثم ذهبوا به إلى إمام المسجد، فهو الوحيد بينهم الذي يعرف القراءة، وحاول الشيخ تهدئته وتهيئته لقبول المصيبة، على افتراض أن الخطاب يحمل له أمرًا جللًا، ولكن دون جدوى، فلم يكن بد من فض الخطاب، وقراءة فحوى الرسالة، وتعلقت الأبصار بشفتي الشيخ وأرهفت له الأسماع، فلم يكن يسمع في هذا الجمع الغفير غير خشخشة الخطاب، والشيخ يفضه، ثم ألقى عليه نظرة سريعة، وابتسم، كان خطابًا من أخيه الذي يعيش في البندر، يدعوه فيها لحضور حفل زفاف ابنته، ويعتذر عن عدم مجيئه إليه بنفسه؛ لكثرة انشغالاته.

=
غمرت موجة من الضحك أهل القرية، وانفضوا كلٌّ إلى طريقه. بينما السيد عليش يقف مشدوهًا، فاغرًا فاه. وبعد أن زال عنه الذهول، بسط كفه وسأل إمام المسجد:هذا كل ما في الخطاب؟ فأجابه الشيخ، نعم.
فصفق السيد “عليش” كفيه في عجب، ثم مسح بهما صدره، كأنما ينفض عنه حملًا أثقله.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *