أن تحتفل بالحب، فهذا شيء رائع، أن تحتفل بمناسبة وطنية، فهذا ينمي الولاء لثرى الوطن، أن تحتفل بشعائر دينك، فهذا يعزز تدينك. من حقك أن تحتفل بعيد ميلادك، ويكون مناسبة خاصة بك وحدك، مثلما تحتفل بعيد زواجك. مثل هذه الاحتفالات مدعاة لتذكرها؛ كي لا تُنسى في زحام الانشغالات والهموم اليومية.
إننا نحتفل بالشيء، كي نستعيد ذكريات مست شغاف القلب، وخالطت النفس، وشكلت جزءًا أصيلًا من حياتنا وذواتنا، فهي جديرة أن نتذكرها ولا ننساها.
ولكنَّ الأديبة “سوسن حمدي محفوظ” في قصتها المعنونة “عيد النسيان“، تدعونا إلى أن نخترع عيدًا للنسيان، فأي جدوى تعود علينا عندما نحتفل بذكرى الفراق، الوداع، الانفصال، الموت، …؟
إن احتفالنا بها، هو إحياء لها، وتمديد في أجلها، حيث نستحضرها بكل جزئياتها ودقائقها، بعبقها ورائحتها ونكهتها. إننا حين نحتفل بالنسيان، فإننا نلح عليه أن يبقى بيننا، إننا نمد له في أجله، ونفرد له مساحة في ذاكرتنا تسمح له أن يحضر بحروفه ولبناته وجرسه ووقعه ونفَسه وعبقه.
إن العنوان يحمل في أحشائه بنية متناقضة؛ بين العيد والذي هو مدعاة للتذكر، وبين النسيان، والذي يمحو أي ذكرى. وكأنها كانت تمتثل حال صياغتها العنوان، قول أبي نواس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
وكأنها تريد أن يحمل هذا العنوان دلالة مغايرة، فنحتفل بالنسيان كما نحتفل بأية مناسبة سعيدة ومبهجة؛ ليكون هذا الاحتفال مدعاة لنا كي ننساه.
وتتسع دلالة العنوان لتستغرق كل فجيعة وكراهية وخيبة وفراق. وتدعو في هذا العيد أن “تتوقف فيه الخطوط الهاتفية، وتُمنع فيه الإذاعات من بث الأغاني العاطفية، ونكف فيه عن كتابة شعر الحب وقصص الغرام”. إنه عيد له طقوسه، والتي لابد له منها.
والقاصة تعرض لواحد من أولئك الذين تعرضوا لخيبة في حبهم، فيقرر أن يخرج في إجازة قصيرة كما اعتاد كل عام، ومعه “قميص وبلوفر خفيف وكتب وقلمي المفضل وهاتف مغلق وبعض أغنيات لفيروز ونجاة، وتذكرة ذهاب وعودة”. إنه لا يأتي “كل عام في نفس الموعد إلا للذكرى واسترجاع دقات القلب الأولى وخفقانه”.
وفي هذا اليوم كانت الطبيعة في أبهى حللها، بما يناسب طلاوة المناسبة، فـ “الجو مشرق، أشعة شمس فبراير الهادئة الحالمة تداعب الشعيرات الفضية في فودي؛ لتزيدها بريقًا وتوهجًا”. والمكان “نقطة متناهية الصغر على شاطئ البحر الأحمر أراها من زاوية مقعدي في الطائرة… فندق صغير تطل جميع نوافذه على البحر”.
لقد تآزر كل من الزمان والمكان في رسم خلفية الحدث، والتي تفترش على رقعة واسعة من “البحر بكل عمقه واتساعه وحيويته، بكل هذه الحرية التي تجعلك تغلق عينيك وتتخيل ما تشاء”.
وتأتي هيمنة ضمير المتكلم على طول القصة، ويصف شخصًا التقاه في هذا الفندق بأنه “تائه مثلي على أوتار اللحن ينشد حروفًا من قصيدة محرمة”، ويشعر بتشابه حالهما، فيتساءل بينه وبين نفسه” “هل هو مثلي ضاعت حبيبته فأخذ يبحث عنها في عتمة الليل وارتعاشات المساء”.
إنَّ التاريخ الذي يستغرق الحدث هو عيد الحب، ولكن حبه قد ضاع “يوم اخترتِ الهجر وأعلنتِ الرحيل”. ويتأمل حاله “أنا وحدي هنا أتجرع الذكرى بينما أنتِ هناك مع ذاك الأحمق الذي أقنعك بالزواج منه والسفر معه بعيدًا”.
إن كل ما في المكان يشعل أتون الحزن المقعد الخالي، غيابها عن هذا العشاء، صوت الكمان، وهو يتهادى حزينًا خافتًا موجعًا في القلب كيوم فراقها.
ويتفجر في متن القصة تساؤل محموم: “للحب إذن عيد يحتفل به المحبون والعشاق ويتبادلون فيه الورود والبطاقات والأشواق، فأين عيد النسيان سيدتي؟”.
إن القاصة تثير بهذا السؤال قضية مهمة، وهي الاحتفاء بالمشاعر جميعها بتناقضاتها، لا فرق بين مشاعر الحب ومشاعر الكره، ولا فرق بين الذكريات السعيدة والذكريات المؤلمة، كما أنه لا فرق بين “عشاء على أضواء الشموع الخافتة.. قمر مكتمل تمامًا يطل من النوافذ”، و”هذا المقعد الخالي في هذه الليلة المقمرة”. سيان أن أكون “أنا وحدي هنا أتجرع الذكرى”، وبين أن تكوني “قريبة كوشم في الصدر”.
وقد أجادت القاصة في ربط الأحداث وتسلسلها، في محاولة منها لإقناعنا بجدوى أن نقيم عيدًا للنسيان، فـ “ما دام الفراق هو الوجه الآخر للحب، والخيبة هي الوجه الآخر للعشق، فلماذا لا يكون هناك عيد للنسيان”. كلها أحداث شغلت حيزًا من القلب والفكر، ولأننا لا نستطيع أن “نحتفظ بما نرغب للوقت الذي نتمنى”، فليس أقل من عيد للنسيان “علني أشفى بعد سقم وأبرأ من علتك الأبدية في قلبي”.
إن فحوى الرسالة التي تحملها تلك القصة: تذكر حزنك، أفرغ شحناته خارج ذاتك، تذكره كي تنساه.
د. سعيد محمد المنزلاوي