الواقعية السحرية..الأثر والدلالة قراءة للأديب محمد البنا لنص * زفاف *للأديبة اللبنانية رائدة علي أحمد


زفاف

لم أكن مدعوا في ذلك اليوم الذي حلمتُ به، منذ كانت تتخذ من صدري ملعبا لطفولتها، ووسادة للحب والدلال. وجدتني أشتمّ رائحةَ طفولتِها، رائحةَ الأيام الطويلة التي عبرتْها من دوني، تاركةً ندباتٍ خفيفة حول العينين والفم، كأنني طيفٌ وسط حضور راقٍ، وهي تدلفُ الصالةً، وفي يدها يدٌ لرجل غريب أخاله أنا، بدلة أنيقة، حذاء لامع، عطر يترنّح في المكان، بريق الليل يعبث في ضفائره الحرير، أنوار تتلألأ في عينيه، خلف غابة من نخيل، ثم ضبطتني أتراجع خطوة إلى الوراء، فأحمل ذيل فستانها الأبيض المترامي، وأسير كالظل خلفها، رنوتُ إليّ فاعتقدتُني العريس، حينها شعرت بانفراج دامع في قلبي، يبدو أن الشعور تسلّل إليها، عروسي المتألقة، لن أصف جمالها فهي فوق الوصف، شمس وقمر اجتمعا في آن، منحوتة متناسقة ، كيف لا، والليلة ليلتها، فرمتني بنظرة مجانبة، ثم اعتدلت، وتابعت. كدتُ أقع تحت سهام عينيها فتعرفُني، فأربكُها، غير أن الصدفة تدخّلت، ورمت عليها الدخان الأبيض، فسترت فضيحتي.
تتابعت خطواتنا وسط تصفيق حاد، وزغردة نسوة، وهتافات شبابية، وموسيقى صاخبة، وأجساد تتمايل، مترنحة، حتى اعتلت منصّتها الملائكية، وما هي إلا دقائق حتى هدأ الموج البشريّ، وأخذ المدعوون أماكنهم. بينما أنا ظللت ملتصقا بها، أنظر إلى الحضور مرحّبا، مبتسما لهم، ها هم الأهل والأصحاب والأقارب وغرباء يهيمنون على المنصّة، ينشرون الفرح في كلّ زاوية من زوايا الصالة، تتفجّر ينابيع الحبّ من عيونهم، فتعلق حبيبات ماء على أهداب زوجي والأهل، يتمتمون، يتمنّون حضوري، وهم لا يعرفون أنّني بينهم.
كنت أضمّها إلى صدري، أراقصها، أعدها بمستقبل زاهر، وبحياة مديدة، بينما هي تراقص عريسها، تقبّله، فتقع القبلة على وجنتيّ، فأشتعل، يسير بها إلى المنصّة، أرفع يدها إلى قلبي، تتسلّل روحها إلى جسدي، فتحييني. أمعن النظر بها، بوجهها الساحر، الذي استعارته منّي، برشاقة جسدها الحرير الحنيف الميّاس، الذي أخذته من والدتها، وأميل بنظري إلى الأهل والأخوة، أفكر كيف عبرتهم الأيام والسنين، وتركت ثقلها على أجسادهم، وبين العيون، كيف غيّرت ملامحهم، متى أشاح الليل عتمته عن رؤوسهم فاستحال سواده نهارات بيضاء. ألقيت عليهم التحية، رشقتهم بباقات حبّ وشوق، ضممتهم إلى روحي، شممت عمري من أكمامهم ، كلّهم تغيّروا، تبدّلت أحوالهم، تزايدت أعدادهم، وعلى الرغم من ذلك عرفتهم فردا فردا.. أنا وحدي من بقي على حاله، ولم يعرفوني، أو يبالوا لي.. لم يكترثوا لحضوري.
وحين كان لا بدّ من الفراق، جمعتُ عزلتي، ولملمت غيابي الطويل، وطويت غربتي في جيب بدلتي الأنيقة، وهممت بالخروج، على أصوات الموسيقى والرصاص والألعاب النارية، وإذا بصوت جنائزيّ يدبّ في قاعة الاحتفالات التفتُّ إلى مصدر الصوت، فإذا بوحيدتي ملقاة على الأرض، ودمها يجري نحوي، والكلّ يصرخ، ويولول، يحاول إنقاظها، غير أنّني عرفت من صوت داخليّ، أنّ ما يحاولونه عبثا، وأنّ الموعد حان، ولن أعود وحيدا إلى دياري.
رائدة علي أحمد
^

القراءة
__

فلسفة الموت وما تطرحه من أسئلة، عادة لا نجد لمعظمها إجاباتٍ شافية، فهل حقاً تأنس الروح- الموت – بزائريها من ذوويها الأحياء ؟، وهل تحوم الروح – بعد الموت – حول من أحبت في حياتها المنقضية ؟.. وعلى شاكلة ذلك تتالى الأسئلة وجلها بلا إجابات، اللهم إلا شواهد ما ورائية يحسها البعض ويهتم بها، ويحسها البعض ولا يلقي لها بالا، ولا يحسها كثيرون، وكلها بلا إدلة يقينية، وتتوقف عن كونها أحاسيس.
ومن هذا المدخل – الأحاسيس- انطلق الأدب في فضاء المتخيل، ومن ثم طرح علينا لونًا أدبيًا مستحدثًا، ألا وهو الواقعية السحرية.
والنص الذي بين يدينا الآن أراه ينتمي بجدارة لهذا اللون المستحدث، كما سنرى لاحقًا.
زفاف/ عنوانٌ نكرة يمكن تأويله إلى معانٍ عدة، وكلها تنصهر في بوتقة الانتقال من حالٍ إلى حال، كالعروس، والشهيد، والخبر المفرح مثلا، والسؤال الذي سيطالعنا المتن بإجابةٍ له هو المعنيُ بالزفاف أيهمو؟، أم سيفاجئنا بإجابة أخرى تسوغ تصنيفنا له كواقعية سحرية؟.
القارئ للنص سيجد منذ السطور الأولى أن هناك شخصًا ما يتابع أحداث حفل زفاف لعروسٍ، سرعان ما يدرك- القارئ- أن هذا الشخص من أقاربها المقربين جدا، ربما أخٌ أو خالٌ أو عمٌ أو..أب!، وليتيقن بعد التهامه لأسطرٍ أخرى أنه أبو العروس، ولكن ما بال القوم لا يرونه ولا يشعرون بوجوده، بينما هو يراهم ويتابعهم ويعرف خلجاتهم وتبدل ملامحهم من نضارةٍ إلى تجاعيد ومن سواد شعرٍ إلى شيب!

هو روحٌ إذًا؛ لا جسد يحتويه.
ترك الأب المتوفى سكنه المظلم وانطلق إلى حيث الزينة والزغاريد والأضواء، ولم لا والليلة عرس ابنته، حال الموت بينه وحضوره جسدًا، ولكن لا قوة في مقدورها أن تمنع روحًا محبة من تشاركها فرحة من أحبت، وهل هناك أحب للأب من فلذة كبده!، فأتى راغبًا مشاركتها فرحتها، لكن الأقدار شاءت أن تعود معه إلى سكنه عبر رصاصة طائشة، فتبدل زفافها من زفافٍ لعريسها إلى زفافٍ لقبرها برفقة أبيها!

الحبكة :
__

اعتمدت الكاتبة التعمية والغموض كحبكة سردية تقدم بها فكرتها، كاشفةً الغطاء بتأني وروية إلى أن تكتمل الرؤية الجلية مع آخر فقرة في المتن (وأنّ الموعد حان، ولن أعود وحيدًا إلى دياري.)

المعالجة :


كما ذكرت آنفًا أثناء تقديمي لفكرة النص؛ أن الواقعية السحرية هى ما عالجت بها القاصة فكرتها لتقدمها لنا في هذا الثوب القشيب، ونجحت في ذلك بدرجةٍ ملحوظة.
كما اتكأت أيضًا على ما هو واقعٌ متكرر في حفلات الزفاف بمجتمعاتنا العربية- طلقات الرصاص تحيةً وابتهاجًا بالعرس- من إصابات برصاصة طائشة حلًا لعقدة النص.

اللغة والأسلوب :


لغة سهلة سلسة معبرة بطلاقة ومشهدية مؤثرة، استطاعت القاصة بمهارة اختيار ألفاظها وتوظيفها في مكانها المناسب، لتؤدي دورها المأمول منها (لم أكن مدعوا/ حلمتُ به/ تتخذ من صدري ملعبا لطفولتها،/ووسادة للحب /كأنني طيفٌ/ أخاله أنا،/ رنوتُ إليّ/ فاعتقدتُني العريس/ شعرت بانفراج دامع/…./…/…).
أما الأسلوب فقد اتكأ على المشهدية الوصفية كما نرى في (وسط تصفيق حاد، وزغردة نسوة، وهتافات شبابية، وموسيقى صاخبة، وأجساد تتمايل، مترنحة/ اعتلت منصّتها الملائكية/ هدأ الموج البشريّ، وأخذ المدعوون أماكنهم/ كلّ زاوية من زوايا الصالة/ أهداب زوجي/ أضمّها إلى صدري، أراقصها/ تراقص عريسها/…./…./…).

العاطفة المتبادلة:


من جماليات ألنص التفاتة الكاتبة إلى مشاعر العروس اليتيم وتذكرها والدها المتوفى وأسفها على عجزه القهري عن مشاركته فرحتها، محاكاةً مع واقع مألوف، علاوة على تأصيل الأبوة في نصها بكسر حاجز الموت لتحقيق التواصل العاطفي المتبادل.

الأديب محمد البنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *