1/ التّقديم :
ضمن الحراك الأدبي والفكري في بعلبك : مدينة الشّمس من أرض لبنان الأبيّة ، لفتَ انتباهي هذا الحضور المتميّز للطّالبة الباحثة فُضَّة شَمَص وهي تنثر قصائدها كحبّات الدّرر بين عشّاق القوافي وأحبّاء القصيد ، فكان أنْ تفسّحنا في أروقة صفحتها الفايسبوكيّة وقرأنا ما تيسّر من نصوصها الشعريّة وهي تقدّمها في واجهة صفحتها قائلة :” أنا قصائد الحبّ التي تتلوها الملائكة بين النّجوم ” وهو تصدير جميل ومثير ومخضّب بالإيحاء والإبهار في نبضٍ شعري (قصائد) و عاطفي(الحبّ) وقرآني(تتلوها) وروحاني(الملائكة) ورومانسي(النّجوم) وكأنّها تقدّم هويّتها بكلّ هذه المعاني التي تغلب عليها القداسة والإحساس في أسمى معانيها فتتفرّد بها وتخصّ بها ذاتَها حيث ابتدأتْ الدّيباجةُ بضمير المفرد المتكلّم :(أنا) ولا غيره ، ومن هنا تأكّدنا من باب الأمانة أنّنا في حضرة شاعرة تكتبُ مسيرةَ التألّق والامتياز وتجمع بين الهوْس والغرام من جهة ، والمعرفة الأكاديميّة من جهة أخرى .
2/ التّحليل :
وأنتَ تقرأُ قصيدَ :”أنشودة المطر” للشّاعر الفذ : بدر شاكر السيّاب وتقف في تأنّ عند مقدّمتها التي تقول :
“عيناك غابتا نخيل ساعة السّحر/ و شرفتان راح عنهما القمر/عيناك حين تبسمان تورق الكروم/ وترقص الأضواء كالأقمار في نهر” ، ثم تقرأ صدفة نصّا شعريّا مختصرا لضيفتنا وهي تقول : “وتدنو من النّهرعين السّفر/كشمس تمدّ المدى للبصر/وقد وشوش الغيم سمعَ الهوى/فغنّى لقلبي حفيد المطر” ، حتما ستحسّ منذ الصّدمة الأولى للقراءة بهذا التّشابه والتّناغم والتّقارب شكلا ومضمونا بين المقطعيْن ولو أنّ المقارنة ـ صِدْقًا ـ قد لا تجوز بين التّلميذ وأستاذه بآعتبار أنّ السيّاب يعتبر لوحده مدرسة شعريّة كاملة الأوصاف بينما ضيفتنا شاعرة تسير في ثبات لتؤسس مسيرة شعريّة متميّزة ، والتّشابه يرتسم للقارىء منذ البداية ويتولّد لديْه رأيٌ انطباعيٌّ يؤشّر وكأنّ المقطع الثّاني قد وُلد من رحم المقطع الأوّل ،وضيفتنا قدرها أن تقتفي أثر أستاذها و معلّمها حيث التقاء القافية هنا وهناك:(الرّاء السّاكنة) وتعدّد الإيقاع ( بحر الرّجز في قصيد السيّاب) وتناغم الموسيقى الدّاخليّة والخارجيّة وتعدّد الصّور الشّعريّة بما فيها من رمز وتشبيه وتجسيد يضفي طابعا واقعيّا مع استعارات بليغة سَمَتْ بمعاني النصّيْن الشّعريّيْن ، كما أنّ القارىء سيتفطّن بين هذا وذاك إلى الاستعمال المكثّف للأثر الرّومانسي ( المدرسة اللبنانيّة الرّومانسيّة ورائدها جبران خليل جبران) أين برزتْ عناصر الطبيعة الخلاّبة في المقطع الشعري للسيّاب:(غابتا نخيل،ساعة السّحر،القمر،تورق الكروم ، ترقص الأضواء، كالأقمار في نهر) وهو نفس الشّأن بالنسبة للمقطع الشعري لضيفتنا :(النّهر،كشمس،الغيم،المطر) ، ولا تنقطع الزّخارف البديعيّة بين النصّيْن حيث استعمل السيّاب التجسيد لمّا يقول:”وترقص الأضواء” فتتجاوب معه شاعرتنا لمّا تقول :”وقد وشوش الغيم” كما استعمل السيّاب التّشبيه قائلا:”عيناك غابتا نخيل” ويضيف :”كالأقمار” بينما تقول ضيفتنا في هذا :” كشمس” ، كما تناوبا الشّاعران ( الأستاذ والتّلميذ) على زمنيْ الماضي والمضارع ولكلّ دلالاته ومعانيه :(راح ،وشوش ، غنّى / تبسمان ، تورق،ترقص،تدنو ، تمدّ) ، كما يمكن للقارىء أن يستجلي الإطار المكاني لكل مقطع شعريّ فيتصوّره مكانا واحدا يتشكّل بين الطبيعة الجميلة والحقول الغنّاء والسّواقي الجاري في عبق رومانسي ساحر حسب ما تؤشّر إليه معاني الأبيات في كلّ مقطع شعريّ ، وأمّا الإطار الزّماني فقد لاح من شروق الشّمس إلى حدّ وقت السّحر مرورا بالأصيل والمساء كما تؤشّر إليه معاني المفردات :(الشمس ، القمر ، السّحر) ، ومع هذا المسار الزّمني للمشهد الطبيعي تتوالد الألوان وتتفاعل من اللّون النّابض وهو يشعّ من الشّمس والقمر إلى اللون الدّاكن بسبب المطر والغيم ممّا يجعلنا ليس أمام نصّيْن شعرييْن فحسب وإنمّا نشاهد في إعجاب لوحة تشكيليّة بديعة معلّقة على أحد جدران كنيسة أو متحف شهيرتفوح بعطر رومانسي جميل ، وهنا أيضا نقرّ أنّ نصّ شاعرتنا فُضَّة شَمَص قد ساير نصّ السيّاب في رومانسيّته ،وهذا يحسب لها ممّا جعلنا نُعَنْوِنُ قراءَتنا هذه بما يعني أنّ شاعرتنا تلميذة تتبع أثرأستاذها باعتباره قدوتها ومثالا لها ، وحتما ستتمرّس شاعرتنا وستنضج تجربتُها لتسمو عاليا وهي ابنة المدرسة الشّعريّة اللبنانيّة وروّادُها جهابذةُ الشّعر العربي : جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي والقائمة تطول ، فآحفظوا اسم :” فُضّة شَمَص ” فهي شاعرة الغد والأيّام القادمة والأيّام بيننا .
أ. الناصر السعيدي