نلج إلى عالم النص من البوابة الشرعية، وهي عتبة العنوان، والذي يفتح علينا بابًا من المآسي والأحزان، التي يتعرض لها إخواننا في فلسطين.
عنوان القصة هو “عائدون من الموت”، وهي خبر لمبتدأ محذوف، يتراوح بين الضمائر الثلاثة، إما ضمير الغائب لجمع المذكر “هم”، أو ضمير المخاطب “أنتم، أو ضمير التكلم “نحن”. فالعنوان يخبر عن عودة، ولكن من الموت. والموت هنا لا يعني الموت الحسي الذي لا يصلح معه رجوع البتة إلى الدنيا، ولكنه موت الجسد بما يتعرض له من صنوف العذاب، والتي تفضي به إلى الموت، ولكنه لا يزال يتشبث بالحياة، وهو موت الروح بما تذوقه من أنواع البلايا والمحن، وما تتجرعه النفس من المآسي والفقد والامتهان والقسوة والتعذيب النفسي والبدني.
إن القاص يضعنا أمام حالة من الموت، فإذا كان الموت راحة من المعاناة والألم والسجن والتعذيب، فإن هذه الحال، والتي هي أدنى إلى الموت بما يسيمونهم من صنوف العذاب، لهي أشد وقعًا من الموت نفسه.
والسؤال الآن من هم أولئك العائدون من الموت؟ وإلام يعودون؟
ونتلقف الجواب على التساؤل الأول في جملة الاستهلال: “سمعتُ صوتًا لم يكن غريبًا إنه أحد المعتقلين فيه بحة قوية عندما اقتربَ استرقتُ السمعَ من نافذتي علمتُ بأنه (حسام الدين)”.
(حسام الدين) إذن هو الشخصية المحورية، التي تدور حولها أحداث القصة، وقد وصفه القاص بأنه أحد المعتقلين، وهذه إشارة إلى هويته من المنظور الفلسطيني، فهو يدافع عن وطنه، وتشير أيضًا إلى جريرته، من منظور المحتل؛ حيث “قتل ثلاثة جنود صهاينة”. ولا يخفى ما في الاسم من إشارة قوية إلى هويته، فالحسام هو السيف، وإضافته إلى الدين، تأكيد لمشروعية نضاله ومشروعية قضيته، فالقدس قضية دينية في المقام الأول، وإن حاول المغرضون تجريدها وتمويهها، حتى تفقد ملامحها، وتضيعَ بين الأيدولوجيات المختلفة هويتُها الإسلامية الأصيلة.
إن الوطن هو الملاذ والملجأ، حيث يقول عن علاقته بوطنه وبالأرض “هي أنيس روحي وهي عائلتي وبيتي الأخير”. ولكنه الآن حبيس زنزانة ضيقة لكنها تحاكي قريته، فـ “الحائط الملطخ بالعبارات والشعارات الوطنية. كل من مروا من هنا وضعوا بصماتهم على هذا الجدار؛ كان مليئًا بالرسومات وعَلم فلسطين يرفرف فوق مدرسة الأطفال في زاويته اليسرى وأشجار القرية كلها تحاكي القرية”.
ويتابع القاص وصف (حسام الدين) فـ”جبينه كالرعد، ورأسه يتوهج باللهب”، أما جسده فـ “مرصع من آثار الحقد والانتقام التي رسمت خطوطًا عليه، كأنها عروق النباتات في كل مكان”. ومع ذلك، فهو “يقف كالصنديد في وجه المحتل”، كما أنه “صعب المراس قوي الشكيمة”؛ ما أعجز المحتل أن يأخذوا منه كلمة واحدة؛ إننا إذن أمام شخصية صيغت من فولاذ، شحذتها تلك المآسي التي تعرض لها الوطن، وتعرضت لها الشخصية في نفسها، حتى إنه “يسيل الدمع من عينيه كنهرٍ من الحزن” ومن تلك المآسي التي تعرض لها (حسام الدين):
- قتلَ الاحتلالُ عروسه في يوم الزفاف وخضبوا ثوبها الأبيض بدمائها الزكية.
- كما أنهم قتلوا كل عائلته في إحدى الغارات الصهيونية على مخيمات الضفة التي أرَّقت عيونهم.
إننا إزاء شخصية تذوب فيها مئات وألوف من أولئك الموتورين، والذين فقدوا ذويهم في الاشتباكات والغارات وتعرضوا للتعذيب في سجون المحتل. إن (حسام الدين) عَلم على كل فلسطيني، وليس شخصًا بعينه.
وثمة شخصية رئيسة أخرى، لها دور محوري في تحريك الأحداث وتوجيهها، بالرغم من غيابها عن زاوية الضوء، هي شخصية (ملَك)، زوجة المناضل الفلسطيني (حسام الدين)، “كانت غاية في الجمال حُفرت صورتها في ذاكرته فلم تمحَ”. قتلها الاحتلال الغاشم في يوم زفافها مستبدلين بثوبها الأبيض لون الدماء؛ وكان انتصاره لها بأن انتقم أشد انتقام فقتل ثلاثة جنود صهاينة؛ ليمنح روحه بعض السكينة بعد استشهاد عروسه (ملك) وباقي أهله.
إن (ملك) تتجاوز طبيعتها البشرية؛ لتصبح معادلًا موضوعيًّا للوطن، إن (ملك) هي فلسطين الجريحة، فلسطين المحتلة، “كانت (ملك) بمثابة جذوة أمل، حلم لم يتحقق، أمانٍ بقيت حبيسة الزنازين لطالما حلم بها، لطالما وقفت تفرد شعرها على جدران الزنزانة، ضحكتها لا تغيب صوتها الرقيق يداوي جروحه المقرحة، يداها تمسحان الخوف والرّعب عن عينيه. غابت (ملك) وغاب معها حلم الحياة، ثم أفاق على وطن ينتظر عودة أبنائه”.
ولذلك راح يعد نفسه لتلك المواجهة، “لأنه يعتبرها معركته الخاصة”؛ حيث “يقف شامخًا يؤدي التحية تشعر أنه يقف في رتل عسكري أو في استعراض مهيب ثم ينزل يده كأنه يصفع وجه أحدهم. يستمر بذلك إلى أن يحل الظلام”.
ولأنه بطل وشجاع، خشى الاحتلال أن تسري عدواه إلى رفاقه، فيقبسون من شجاعته وحماسه وصلابته، فلم “يسمحوا لأحد بزيارته ولا التقرب منه”، ولكنهم كانوا يختلسون السمع “لحديثه عن مقارعة الاحتلال ومغامراته وعن كسره ليد أحد الجنود الذي قادوه إلى الزنزانة”
إن المقاومة الفلسطينية تمثل رعبًا حقيقيًّا للمحتلين، حتى وهم مكبلين في زنزاناتهم، فـ”صوته الأجش شكل رعبًا لهم وبنيته القوية التي أرادوا أن يسلبوه إياها حالت بينهم وبينه، إلا أنهم استمروا في تعذيبه بشكل يومي لكسر إرادته وتحطيم شخصيته القوية”.
إن الوطن لا يزال ينتظر عودة أولئك الأبطال، والذين لم يستطع الاختلال أن ينال من عزيمتهم، أو يكسر شوكتهم. ولكن يطول الانتظار في سجن المحتل، “ثم نستيقظ على قعقعة الخطى في آخر الممر”، فعسى أن تكون أوبئة الأسود قريبة!
د. سعيد محمد المنزلاوي