أشرف غشت على الانتهاء. الحركة في المصيف بدأت تخف والشمسيات تغلق. في شاليه عائلة المومني، وسط الضحكات العائلية أحست وحيدة أبويها اليافعة ضياء بالاختناق فخرجت للشرفة تبحت عن الهواء. في تلك اللحظة اخترق شهاب السماء. رأت خالتها رجاء المنظر فطلبت منها تمني أمنية. ابتسمت الصغيرة وامتثلت دون كثير اقتناع:
- حسنا، أتمنى من كل قلبي رجلا يعبر بك إلى ضفة الحب.
تنهدت الخالة الأربعينية بحرقة قبل أن تتهلل أسارير وجهها وتهمس وكأنها رأت ملاكا: - يبدو أن السماء استجابت لك وليس لي.
التفتت ضياء لترى قطعة شكولاتة سقطت لتوها من الفردوس، طالب وسيم بقميص صيفي وجسم متناسق كأنه لوحة دافينشية يساعد أخاه الصغير على ترويض طائرة ورقية. لكن الأحلام الجميلة لا تدوم، قام الوسيم وغادر آخدا معه ضياء الشمس.
انتهت العطلة والتحقت ضياء بكليتها. بداية الأسبوع الثاني تفاجأ الطلبة بسائق الحافلة المدرسية يعدل مساره. بعد بضع تزميرات خرج شاب مسرعا أمام أنظار الجميع. ضياء الخجولة لم تجرؤ على التحديق فيه، لكن أحدهم فاجأها وهمس بجرأة ولباقة:
“عذرا آنسة، أيمكنك مسك حقيبتي حتى أتمكن من لبس الجاكيط؟”
رفعت رأسها فإذا بقشعريرة تثقب أحشاءها حتى كادت تعاودها دوختها، إنه الفتى الذي رأته في آخر ليلة شاطئية.
طالب بذاك الحضور والوسامة ما كان ليسلم من براثن ميساء اللعوبة التي اختطفته من يومه. آه ما أغرب القدر حين تصادف شخصا على مقاس أحلامك وتأخده منك ساقطة.
مرت الأيام ولاحظت ميساء اهتمام الفتى شادي بغريمتها فدفعتها ذات صباح على الآلة الناسخة. المفاجأة الغريبة هي شادي الذي أخبر المدير بالحقيقة أمام استغراب ضياء. تلك الليلة لم تستطع النوم. لماذا شهد ضد صديقته من أجلها؟ هل بسبب ضميره أم أنه حب في الخفاء؟
ذات حصة رياضية رمقت مرح شادي يسرق هاتفا أحمرا من إحدى المحفظات. غاضها ما فعل فأصبحت بين سندان تأنيب الضمير والوفاء لموقفه السابق معها. أتبلغ عنه بعدما ضحى بميساء من أجلها؟ احتارت فقررت مواجهته. أثناء توجهه للحافلة أخدته على جنب وسألته حانقة: - شادي أيعقل أنك مجرد لص وضيع. لا تنكر، لقد رأيتك تسرق الهاتف. لا تظن لحظة واحدة أني سأقف صامتة لأنك شهدت مرة لصالحي ضد ميساء.
شادي كان ينظر لها بنظرات المصعوق. بانكسار وصمت أخرج الهاتف من جيبه ومده لها. لحظتها صاحت وكأنها المحققة الآنسة ماربل: - أجل هو ذاك. والآن أرجعه لصاحبته وإلا فلا تلمني إن بلغت عنك أيها اللص.
لكن شادي همس لها في تحد غير مفهوم: - سأرجعه لكن لنلق نظرة عن سبب احتفاظي به. فتحه ودخل لنافذة الصور لتكون المفاجأة؛ أطلعها على صورة لها شبه عارية في الدش.
جن جنون ضياء وهي ترى نفسها قد صورت في غفلة منها. خجلت من نفسها أمام شادي الذي تابع اعترافه: - إنه هاتف ميساء، كانت ستنشر صورتك في صفحة المؤسسة. سرقته لأمحي الصورة ثم أرجعه لكن للأسف أنا في نظرك مجرد سارق رخيص. ثم رمى الهاتف وركض يداري حسراته.
بقيت ضياء مشدوهة أمام نبله وشهامته. ركضت مسرعة وراءه لتعتذر منه لكن الأقدار موجعة بعض مصادفاتها. المسكين تزامن مع دراجة نارية مسرعة فرمته يئن فوق الرصيف ببعض الرضوض.
في الصباح طارت ضياء لزيارته في المصحة. من فرط لهفتها علمت الممرضة أن لشادي مكانة في قلبها. كان تحت تأثير المنوم لكن الممرضة سمحت لها برؤيته. أمسكت يده وهمست له: - ليتك تعلم.. طائرتك الورقية وصلت لأبعد أفق في قلبي. ثم مسحت دمعتها وقبلت خده أمام نظرات الممرضة.
منتصف كل سنة دراسية تنظم المؤسسة رحلة لطلابها. الكل ينتظر اليوم الموعود للاستمتاع بثلوج إفران واللعب وسط أرزه المهيب.
صباح الانطلاقة كانت الابتسامات تعمر مقاعد الحافلة إلا ابتسامة واحدة جعلت شادي يفتش عنها كالأحمق. تبا! ضياء أصابتها وعكة صحية كما أخبرهم مسؤول الرحلة.
انطلقت الرحلة فيم أحدهم كان يضغط على جرس منزل ضياء، إنه شادي. والداها ذهبا للمختبر لاستلام صور الأشعة والتحاليل، أختها الصغيرة في المدرسة ولم يكن معها إلا الخالة التي ابتسمت بعدما رأته عن قرب فقالت له: - أنت حتما شادي، ستفرح حين تراك. لا تخف مجرد دوخة تأتيها من حين لآخر. ثم فتحت له باب غرفتها وذهبت للمطبخ.
كانت ضياء ممددة على السرير تلبس منامة وردية تعلن عن قوام من البهاء المتناسق. جلس العائد على طرف الفراش يتأمل وجهها المتعرق وقد غادرته ألوان العافية بينما شعرها المتموج الجميل يتلألأ مع أشعة الصباح المتسللة من النافذة. فجأة فتحت عينيها وابتسمت بعناء وهي تجر الغطاء على صدرها الفاتن فهمس لها شادي: - سلامتك، ليتني أعرف كيف أخفف عنك.
ذاك الحنين الدافئ المتلألئ في عينيه كان العافية بعينها. حدقت فيه ثم سألته:
- لم لم تذهب إلى إفران؟
ضحك شادي وهمس ممازحا: - إفران لا يتسع لأسدين يا مرح.
فضحكت وفاجأته متسائلة: متى عيد ميلادك؟
بدت على الأسد حمرة خضبت خديه وكأنها سألته عن شيء خاص وهمس مرتجفا: - لم يحن بعد.. أنا لم أر النور حتى رأيتك.
ابتسمت ضياء وهي تتفحصه مليا حتى كادت ملامحها أن تزغرد ثم تسللت دمعة حارقة من عينها. أشاحت بوجهها عنه، ونظرت إلى السماء حيث الشمس تصارع الغيوم الداكنة.
أمام نبضه الرهيب أحس شادي بدافع خفي جعله ينحني على وجهها الدامع ويقبل جبينها. تلك اللحظة وهي على أعتاب حضنه أحست بنبضه يراقص نبضها على إيقاع سرمدية أنفاسهما، لولا أنه تمالك نفسه واعتدل واقفا ليستأذنها بالانصراف.
لم تقو ضياء على الكلام واكتفت بنظرة وداع وانتشاء وبعض الوداع خريف لا يعقبه شتاء.
في الغد والطلبة على مقاعد الدرس، تفاجؤوا بالمدير التربوي يدخل عليهم بعيون دامعة:
“أعزائي، ضياء المومني توقف قلبها هاته الليلة، ادعوا لها بالرحمة”
حين يستقر العشق الكبير في قلب أرهقه المرض وأضنته الوحدة تكون الأبدية أشهى الملاذات. جلس شادي على عتبة الكلية يراقب السماء فتقدمت منه أستاذته وهمست له.. - شادي أعلم حزنك لكن تذكر، حين يتفلت خيط الطائرة الورقية وتفقدها تطير أعلى وأعلى ويحدث أن تصل إلى ملكوت الرب.
نظر إليها شادي وقد غالبه دمعه وهمس لها.. - لم يكن خيطا، إنه حبلي السري الذي انتزع معه كل الأحشاء. ثم ارتمى في حضنها يبكي وينوح.
الكاتب عبد الغني تلمم