*الكرة “رمزية لتقلب العلاقات و المواقف”
“رأيت وجهي في كرة المنضدة البيضاء التي يلعب بها الشباب في زاوية من زوايا ساحة الكلية، تتقاذفها الركتات تتدحرج فوق الأرض بعيدا عن أطرها المحددة لها، الخروج عنها يعني أن هناك خاسرا، فمن الخاسر في تدحرج رأسي خارج إطار أحلامي المعتمة؟).
يقول الكاتب الروسي مكسيم غوركي : (إن الكاتب الذي يتحدث عن الطفولة، لا يتحدث بلغة الأطفال بحجة الصدق، وإنما يجب عليه أن يتحدث بإحساس الطفولة وبالطريقة التي يفكر بها الأطفال)
و لأن يكتب مبدعٌ نصاً يعْبُر فيه من جندر الى جندر هو شيء من الناحية النظرية أمرٌ قائم، لكنّه يُعتبر تحديًا أمام الكاتب قبل المتلقّ. فالاساس في فن السرد ان تكون للمبدع تلك القدرة على تمثُّل الشخصية التي يحكي عنها، بحيث تأتي هذه الشخصية متكاملة وواسعة وتشبه الانسان الذي يعرفه الناس
من هنا انطلق الأديب الروائي ” علي الحديثي” الذي كسر التقليد الأدبي عندما تحدّث بصوت أنثوي عندما تقمّص روح المرأة و جسدها تحدث بصوتها، وعبّر عن مشاعرها وأحاسيسها وهواجسها، لينتج لنا “وجه في كرة”
و حينما يتقمص الكاتب دور المرأة فيكتب بلسانها أدق التفاصيل الأنثوية ينتج عملاً ابداعياً نسائيًا أو بما قد يسمه البعض ب «أدب نسوي»، فقد يكون قد أنجز عملاً مميزاً تخبرنا به تفاصيل الرواية بعد أن نبحر فيها .
و الجدير بالذكر أن علي الحديثي لم يكن أول المغامرين، بل سبقه الكثير..
فالكاتب الكبير يوسف السباعي عُرفت عنه الكتابة بلسان المرأة فمثلاً روايته «إني راحلة»، كانت خطوة فارقة على طريق الأدب النسوي بشكل عام لأنه يتحدث عن مشاعر امرأة حقيقية، وهو نفس الأمر مع ماريو فارغاس يوسا في «شيطانات الطفلة الخبيثة».
في السودان الراحل ابو بكر خالد الذي كتب «القفز فوق حائط قصير» وجلها دار حول المرأة ومعاناتها وخروجها للعمل في فترة الستينيات من القرن الماضي.
كذلك نجد الروائي المصري صنع الله ابراهيم في روايته «ذات» التي حققت نفس الأفق السابق
يقول الأستاذ ابو عاقلة ادريس في حديثه: “الأدب النسائي عندما يبدعه رجل شرقي فإنما يمثل إبرازاً لصوت القهر الاجتماعي والتخلف حينا والتغنج حيناً آخر، وقد تقصد به المعالجة الجادة لقضايا المرأة الإنسانية والاجتماعية”
بوابة الخطاب( العنوان) بين الدلالة و البلاغة:
إن العنوان هو فاتحة الخطاب و عتبته الأولى النصّية، فهو يمثّل ملفوظ ما قبل الحكي الأول و ما بعد الحكي الأخير، كونه علامة سيميائية تنفتح على دلالات شتى و إيحاءات متعدّدة، تُبحر في عالم الفكر و الأدب. فالعنوان يتضمّن علامات دالّة تغلب عليها الصورة الإيحائية فلا بد لنا من مساءلة العناوين و كشف دلالاتها. يقول رولان بارت( R. BARTHES) ” إذا قرأت ما تحت العنوان ستدرك السبب و كلّها قراءات على قدرٍ كبير من الأهميّة في حياتنا، إنها تتضمّن قيمًا مجتمعيّة و أخلاقية و أيديولوجية كثيرة، لابد للإحاطة بها، من تفكيرٍ منظّمٍ ، هذا التفكير هو ما ندعوه هنا على الأقل سيميولوجيا”
” وجه في كرة” تكوّن من اسمٍ نكرة و شبه جملة غير مكتملة لأداء المعنى، فيكون الجار و المجرور قد ناب عن الخبر المحذوف و تقديره ” كائنٌ أو مستقرّ” فكيف أدّى هذا التركيب وظيفته في الإيحاء؟ إن هذا التركيب سيميائيًا ينفتح على دلالات متعدّدة تربط علاقة الثابت ” الوجه” بالمتحرّك ” الكرة” فالوجه هو دلالة الانفعالات التي تعبّر عن الحالة النفسيّة بكل تغيّراتها و مستوياتها، و قد ارتسم على الكرة المتحرّكة و التي تُبدي في كل حركة لها وجهٌ جديد .. فهل أراد الكاتب هنا ، أن يتحدّث عن تلّون الوجوه، التي هي صورة لما يعتمل في الأذهان من أفكار؟ أم قصد تعدّدها؟
إن خطاب العنوان” وجه في كرة” يمثل البلاغة في الجمع بين شيءٍ مستقر ثابت ظاهر ملموس و معروفٌ مظاهره، حتى و إن لم نجد له وصفًا صريحًا في الروابة، و آخر غير ثابت ، متحرّك.
هذا ما جعل عنوان الرواية استفزازيًا بدرجةٍ كبيرةٍ و ملفتًا للانتباه يعمل على إغواء القارئ الذي يودّ التعرّف على هذا الوجه الذي في الكرة، فذلك مدعاة للفضول لمعرفة محتوى النص الروائي.
في رواية ترصد تقلّبات النفس البشريّة، نستشعر حمّى اللهاث في البحث عن وجود، عن وجه، عن صوتٍ ما زال يرتطم بصخور الواقع فيرتدّ خاليًا من الفراغ، من الملامح و من الصدى. مضحرّجًا بجروح العادات و الأعراف و الموروث الاجتماعي و ما يوّلده لدى الشخصيّات من خوفٍ و غضبٍ و خيبةٍ و ربما محاولةٍ يائسةٍ للتمرّد.
ملخّص المتن الروائي
فتاة جامعيّة مثقّفة، تعيش ماضيًا بلا تجارب عاطفيّة، تتلقى سهمًا من كيوبيد ” باسل” الطالب المثقّف ، الرياضي، ذو الملامح الضبابيّة التي استأثرت على انتباهها و من ثم حرّكت مشاعرها ليكون هذا الحدث هو العتبة السرديّة المركزيّة، و الشاخص الذي تدور حوله أحداث الرواية. حيث أخذ البعد النفسي و العاطفي فيه حيّزًا كبيرًا. و خلال السرد تطرّق الكاتب إلى مختلف القضايا الاجتماعية و الدينية و السياسية و من ثم الحرب في العراق.
و بتقنية المونولوج الداخلي، أحلام اليقظة و التداعي الحر، رسم الكاتب خريطة الأحداث التي عاشتها الشخصيّة الرئيسة “سما” في محاولة منها لإنقاذ هذه العلاقة العاطفيّة الشائكة من براثن العادات العشائريّة التي تدقّ أسافينها في كل أنسجة المجتمع، و التي بدورها تحدّد طبيعة العلاقات و ما يجب و لا يجب. في صراعٍ دام على مساحة الرواية، لم تستطع البطلة أن تفلت من سلطة هذه العادات، فجاءت الحرب، لتحدث تغييرات كثيرة في المفاهيم و الرؤى و المواقف. فكان أن وصلت ب “سما ” إلى الزواج من ابن عمها ” فهد”، و الذي شكّل الفارق الثقافي بينهما من جهة و علاقتها مع ” باسل” من جهة أخرى حاجزًا نفسيًا لديها في تقبّله كزوج هذا الزواج الذي جاهدت لعدم حدوثه. و هنا نلاحظ أن الكاتب انحاز بنصّه في نهايته الدراماتيكيّة إلى الواقعيّة أكثر من التحليق التخيّلي في اختيار نهايةٍ أخرى، انحيازًا إلى قصة الحب التي جمعت سما و باسل.
و قد جاءت أحداث الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 لتشكّل محورًا جديدًا توازى مع النص و تقاطع معه في محطّة كانت مفصليّة في النص و أثّر على النهاية تأثيرًا مباشرًا.
من هنا نستطيع القول أن رواية ” وجه في كرة” هي من أحد مظاهر أدب ما بعد التغيير، و أحد المخرجات السرديّة التياجتهدت أن تعالج الواقع العراقي قبل و بعد الحصار ثم العدوان الأميركي .. فنرى الصراع ينتقل من صراع ذاتي و محيطي في دائرته الضيّقة إلى صراع وطني بين العراقيين و الاحتلال الأمريكي لتنخرط الشباب في صفوف المقاومة، لا فرق بين مثقفٍ يمثله ” باسل” و لا غير متعلّم يمثله ” فهد” . فتحدث المفارقات، تتبدّل الشخصيّات و المواقف إثر تبادل ال أفكار بعد دخول فهد و باسل و اجتماعهما في معتقل واحد. هذا التزامن في المواقف لكليهما ، و هذا التغيير الذي حدث ل” فهد” ربما هو الذي خفف وطأة النهاية الدراميّة للرواية، رغم أن الكاتب تركها مفتوحة.
مستويات الصراع:
يتجلّى الصراع منذ السطور الأولى للرواية و قد اتخذ مستوياتٍ عدّة، النفسي منها و العقائدي و الاجتماعي و السياسي.. ضمن الذات و خارجها .
الصراع النفسي:
داخل الذات :
يتضّج هذا الصراع جليًا داخل ذوات الشخصيّات عامّة مع التركيز على الشخصيّة الرئيسة ” سما” كأيقونة لهذا الصراع، صراع يتعمّق على المستوى النفسي :
” لم أكن خائفةً من أحد بقدر خوفي من نفسي، الفشل في الحب هو أكبر جرح يُصيب المرأة”
في عالم يرسم أسوارًا حول نون النسوة ، لم تكتف البطلة بها، بل رسمت لنفسها سورًا آخر داعمًا. تقول:
” منذ أن ألجمت عصا والدي شفتي و أنا قرينة الصمت، يقودني إلى معاشرة القلم على سرير الوحدة… لم أكن أنتظر الليل لأرتمي في حضنه، و ليذوب أحدنا بالآخر، فالعصا جعلت أوقات يومي كلّها ليلًا….” ص17
و في ذات السياق تقول:
” الضربة التي كادت تشجّ رأس أخي،ألجمت فمي و جرّدتني من سلاحي الوحيد…..منذ تلك الأيام أشعر أن في قلبي بابًا أغلق لا أعرف ما وراءه” ص18
يفرج لنا الكاتب عن بعض أسرار هذا الصراع لدى الشخصيّة عندما يدفعها إلى البوح عمّا اختزنته في دواخلها من تراكمات سببتها التجربة النفسيّة التي مرّت بها في طفولتها، ألجمت على إثرها لسانها، فصارت المسافة بين العقل و الشفتين، أطول من أن تقطعها علاقة حبٍ قد لا تنتهي كما رسم لها.
“فالطريق بين قلب المرأة و فمها يُشبه الأرض الحرام في المعركة، كلا الطرفين يخشى الاقتراب منها”
و في معادلة الحبّ و الأمان، و ردًا على سؤال باسل،” ما قصّة الباب المغلق؟” تقول:
” هناك خوفٌ يسكن المرأة، لا أعرف سرّه، لا أدري أهو فطرة فيها ، أم إنه خوف تعمّد الرجل أن يخلقه فيها منذ الأزل لتبقى بحاجة مستمرّة، في طفولتها أمانها مع أليها، ذلك الأمان الذي أغلقت عصا أبي الطائرة باله عني، و عندما تكبر المرأة … و تحصّنت بكل ما تستطيع، فلن تشعر بالأمان إلّا مع رجلٍ تحبّه”
هذه هي طبيعة النفس البشريّة التي جبلها الله فطريًا على العاطفة.. فمهما تسوّرت المرأة، فلا بد لسهم خارقٍ يتجاوز كل هذه الأسوار الشائكة و يصيب هدفه.. و ما بين رفضٍ و استسلام تقع سما ضحيّة الأعراف القبليّة ” زواج ابن العم” .
لم يقتصر هذا الصراع النفسي عند أيقونة الرواية ، بل لمسناه عند باقي الشخصيّات، و ظهر جليًا في علاقة ” هند ” و رعد” و الذي انعكست صورته في مرآة سما و هي تحاول جاهدة إعادة العلاقة لمسراها ، ربما لتجد لها قبسًا من نورٍ في تخبّطها و ارتطامها بكل التجاذبات النفسيّة داخلها، تقول:
” كنت أرسم الخرائط لهما، و لأختي مع حبيبها. أتخبّط بين الجميع بحثًا عن خريطةٍ لنفسي، و ها هو رعد اليوم يمحو خطوط الخريطة لتنساب سيول اليأس و تغرق زهوري الوهميّة التي طالما عشت على عطرها الخدّاع”.
السياق الاجتماعي: “المرأة أسُّ الصراع…
يأخذ الصراع أبعاده الاجتماعيّة و تبقى المرأة هي العامل المحوري لهذا الصراع. فالمجتمع الذي ولدت فيه الشخصيّات و إن أخذ صورته المدنيّة في حدود المكان و الزمان، ” بغداد، القرن العشرين” إلّا أن إرثه القديم ما زال حاكمًا، نراه في حديث والد سما هذه الشخصيّة المتعلّمة، المثقّفة و التي تمرّدت على قوانين الأسلاف في كل الأمور إلّا أمرًا واحدًا ” المرأة” يقول :
” فأنا كنت معروفًا بتمردي في عائلتي، إلّا في شيءٍ واحد، كان خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه، و هو المرأة.”
تعيش الشخصيات هذا الصراع الذي اقتحم عالمهم الأكاديمي، ليقتل بذور الحب التي نبتت هناك، و ليجعل لسيفه البتّ فيه. فتتدحرج الكرة و ما عليها من وجوه، لتضيع في دحرجتها الملامح، و ما بين ضربةٍ و أخرى لا بد أن يكون هناك خاسر
تقول سما:
” مشاعركم أنتم الرجال طيورٌ من حقها أن تحلّق أينما شاءت.. أما نحن النساء فمشاعرنا جرذان تسكن الجحور ” ص19
تتحدّث سما عن الموروث التقاليدي الذي شربت من منهله في مجتمع ذكوري بحت، حتى بات سمةً تطبع كل مواقفهم و تكبّل أحلامهم و خطاهم..
” هل سيقتنع بأن السنوات الطويلة التي عشناها في بغداد لم تستطع أن تقلع أشواك أعراقنا، فكانت تنهش أحلافنا، و تكبّل حركاتنا….”
هنا يُسلّط الكاتب الضوء على قضيّة اجتماعيّة ما زالت تُثار و ما زالت التقاليد و الأعراف تدقّ أطنابها في مركز تلك الكرات المعلّقة فوق الأكتاف، تقول:
أما المرأة التي لا تتزوّج .. العانس، فستكون لقمة سائغة في فم الناس، و قد تُكال لها التهم…”
و في ذات السياق يتعرّض الكاتب لتلك المسألة المؤرقة، أعني تحكّم الرجل بالمرأة حتى قبل الزواج بها فقط لأنها من المفترض، عشائريًا أنها ستكون زوجته.. و هذا ما ساقه في علاقة “فهد ” ب ” سما” عندما طلب من والدها إخراجها من المدرسة. سألت سما والدتها:
-بأيّ حقٍ يمنعني من دراستي؟
-هو خطيبك و سيصبح زوجك يومًا ما.
فنظرة فهد التقليدية للمرأة، و هذه النظرة تشمل شريحةٍ واسعةٍ من المجتمع العربي عامةً و العراقي خاصةً، حيث أننا نتعرّض للرواية كتجربة أدبية، توردها “سما”
” لم تكن المرأة في ذهنه سوى قطعة أثاث يُزيّن بها بيته، و يجب ألّا تأخذ أكبر من حجمها”
لقد فرض الواقع سطوته ليس على المرأة فحسب، بل على الرجل أيضًا. ففي كل معركة وجوديّة يخوضها الجيل الجديد -المثّقف- تنتصر التقاليد القبلية أو العشائرية و السؤال الذي يتبادر للذهن ، لمَ لمْ تستطع هذه الأجيال أن تثور على التقاليد أو السلطة ؟
في فشل علاقة ” رعد” و “هند”، تقف التقاليد و الأعراف سببًا، تقول هند:
” إذا كنت تعرف أن هذه تقاليدكم فلماذا أحببتني؟ و لماذا ” مرغمًا” ألست رجلًا و لك شخصيّتك و كلمتك، تطلبون من المرأة أن تتمرد على واقعها، و أنت رجل عجزت عن التمرّد على تقليدٍ واحد”
هذه المسائل الشائكة هي جوهر العلاقات الاجتماعيّة في المجتمع العراقي و هي التي أجّجت الصراع بين الأجيال ، هذا الصراع الذي لم يخرج منه أي الطرفين رابحًا.. يقول والد سما:
” اللوم يقع على الأبناء الذين لم يفهموا عصرهم، و من فقهه منهم تمرّد على التقاليد، لم يحاولوا صياغتها مع ما يتلاءم مع عصرهم فتمردوا… حينها قابل الآباء تمرّدهم بالتشدد” و هنا تتّضح لنا معركة ” وجود” سأتحدّث عنها لاحقًا.
كم هو جلّيّ هنا صوت الكاتب!!.
السياق التاريخي و السياسي:
يتحدّث الكاتب عن أمورٍ شتّى تتعلّق بالوضع السياسي للعراق، قبل الحرب و من ثم ما فرضته الحرب، حيث يُعرّج في لمحاتٍ خفيفةٍ متفرّقة بين سطور الرواية لكنّ كان لها وقعها العميق في وجدان العراقيّ و تثير رياح أسئلةٍ قد لا نجد لها جوابًا. هذا إن تجرّأنا أن نسأل. و في هذا السياق طرح قضيّتين
*الأولى: الشباب في العراق، و يندرج ذلك على عموم بلادنا العربية، الذي يقضي بواكير سنواته الانتاجيّة بعد إتمامه تعليمه الأكاديمي، في الخدمة الالزاميّة و التي قد تطول مدّتها أعوامًا مديدة نتيجة الوضع السياسي الذي تعيشه البلاد. هذا الوقت الذي كان من المفترض أن يبني فيه خبرته العلميّة و العملية استعدادًا لانطلاقته العملية، تقول سما:
” قد يُغيّر الرجل تاريخ ولادته ليبتعد عن العسكرية التي يكفيك أن تذكر اسمها لتثير الرعب و القلق في نفوس الشباب.. فهي كالعملة التي لها وجهان، السجن … أو الحرب”
التطرّق للسياسة: في ظل أنظمة الحكومات الشموليّة يصبح الحديث في السياسة و النقاش في الحقائق التاريخيّة المتناقضة من التابوهات القاتلة، إذ قد تكشف ما تسعى تلك الحكومات إلى وضع ألف ستارٍ عليها. لكن الكاتب أبى أن تبقى أرضًا محرّمة.. يفتح النار على تلك التابوهات، في سؤال وجهته سما لمدرّس التاريخ، عن سبب بقاء تمثال الملك فيصل و تسمية بعض الشوارع باسم الملوك ” شارع الملك غازي” بعد الثورة التي قام بها حزب البعث لإسقاط العهد الملكي.. لتنقل لنا أيديولوجية الكاتب:
” اربدّ وجهه و تلعثمت الكلمات بين شفتيه، حاول أن يُلفلف الموضوع، فأجابني على عجل بأن المشكلة كانت مع الحاشية الفاسدة، أما الملوك أنفسهم فكانوا جيدين و لا غبار عليهم”
في ظل هذه الأنظمة لا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، إذ أن سؤالًا كهذا يمكن أن يودي بصاحبه إلى ما وراء الشمس، و هذا ما حدث مع سما، التي لولا سمعة والدها و عائلتها للاقت ما لا يُحمد عقباه، تقول، عندما أتاها بعض أفراد الفرقة الحزبية ناصحين :
” و بطريقة النصح المبّطن بالتهديد الباطني أن أبتعد عن مثل هذه الأسئلة.”
الأمر ذاته حدث مع ” باسل” في أحد الملتقيات الثقافية حين عارض حديث المحاضر في حديثه عن العولمة الأمريكية، مجرّمًا العولمة كمنهجٍ بربطه بدولةٍ معادية. فقال له صديقه وهاب مازحًا بلكنته العراقية:
(” اْشحَجّاك .. إذا طلعنا منّا و وجدنا اللاندكروزات فلا شأن لي بك” خرجنا من الملتقى و نحن نتوقع أن تقف سيارات الأمن في أي لحظة بجوارنا”)
ثم يُردف لاحقًا في حديثه:
” كان حادث الملتقى منطلقي الحقيقي لترويض لساني على الصمت”
*السياق الاقتصادي:
يمر الكاتب مرورًا عابرًا على الوضع الاقتصادي للعراق ، هذا الوضع الذي أزّمته الحرب،ففرضت عليه جوّ الحصار و غلاء الأسعار ، فكثر الفقر. و قلبت موازين التفكير فيه.. فأصبحت الشهادة العلمية تعلّق على الجدوان كديكور دون أن يكون لها مردودها الذي يضمن العيش الكريم لصاحبها، و هذا من المضحك المبكي الذي خلّفته الحرب و تبعاتها. في حوارٍ طريفٍ بين ” سما ” و ” والدها” في ظاهره، جادٌ في تناوله للأزمة، حيث أن يرمي أيضًا إلى الموروث العشائري فيما يخصّ المرأة المتعلّمة، حين لمزته بسبب شهادته التي يُعلّقها على الجدار، و أنها قد لا تجد جدارًا تعلّق عليه شهادتها، يقول والدها:
” أنتم تربيتم بالشهادة، و عشتم بالتجارة… لوبقيت معتمدًا على الشهادة لكنت أنت و أخواتك اليوم تحت أغلال القيود التي تنتقدينها يومًا…”
السياق الديني:
إن التراث الديني يشكل جزءًا كبيرًا من ثقافة أبناء المجتمع العربي، لذا فإن أيّ معالجة للواقع العربي و قضاياه، تتضّمن توظيفًا ما للنصّ الديني في الرواية العربية المعاصرة، في مستوياتٍ مختلفة كاستحضار الشخصيّات الدينية شواهدًا لتوثيق الفكرة توكيدها أو دحضها. و في رواية ” وجه في كرة” رأينا أن الكاتب استحضر شخصيّة السيدة ” خديجة ” زوجة الرسول صل الله عليه و سلم.
و تطرّق إلى كثيرٍ من المسائل الدينيّة كمصافحة الرجال في حديثٍ بين “سما” و صديقته الملتزمة دينيًّا ” “شيماء”، و كيف تحوّلت بعض الاجتهادات إلى أوامر إلهيّة بسبب جهل الناس بالدين فأخذوها كمسلمات:
” فأنا أظن- و الله أعلم- أن هناك مسائل اجتهادية من قبل علماء ثم انتشرت بين الناس لجهلهم على أنها أوامر الله”ص61
في حديث باسل بعد أن قرأ رواية ” أين الله” لمكسيم غوركي، نجده يحكي بفطرته التي شابتها أفكار الشباب المثقف في ذاك الوقت، الاشتراكية و الماركسية و غيرها: يقول:
“حبي لله نهرٌ عذب و ما هذه الكتب التي نقرؤها ما هي إلّا أحجارٌ عبثت بأمواجه، و عندما عجزت أن أكون كما أراد الله، أردت من الله أن يكون كما أردت أنا.لأقع بمشكلة جهلي، إذ لم أعرف كيف أريده..”ص78
معادلة الحب و الحرب و ملامح التغيير :
ما بين الحب و الحرب، تُبنى أحلامٌ و تُهدم أحلامٌ أخرى..
كانت “سما” و بسبب التجربة النفسيّة التي عبرتها، بلا عواطف، تُسلم نفسها للقدر، و للأحكام العائليّة، حتى أنها نسيت أنها أنثى، فقد كانت تعلم أنهم يصفوها ب ” المسترجلة” لكن ردّ ” هند” عليها عندما رفضت وساطتها بينها و بين زميل معجب بها:
” أنت بحاجة إلى حبيبة لا حبيب. فقد استحكم طبعك الرجولي على أنوثتك، انظري في المرآة كي تتأكّدي.” ص39
هذه الكلمات فنحت أول أقفال الباب الذي أغلقته عصا والدها. حينها فقط، بدأت تبحث عن الأنثى داخلها، فكان أول خطواتها استكشاف جسدها، تقول ” و ليتني لم أنظر…” و يترك لنا الكاتب فراغات أرادنا أن نملأها ليشركنا في العمليّة. فأثار فينا الفضول ثم دعانا للدخول مع سما غرفة نومها..تقول:
” كنت أشعر بجسدي طفلًا يتعلّم السير على لمسات أصابعه… كل مكان تلمسه تفتح لعيني أبوابًا تُخفي وراءها عالمًا من الجمال…”
الحبّ أحدث تحوّلات جذريّة في مشاعرها، في سلوكها، و حتى في هندامها.. فللحب سطوة على القلب، و عندما يأمر القلب تنقلب الأمور:
” عدت إلى البيت، لم يتغير شيء سوى أن أحلامي الباهتة صار لها ملامح…. أنكرني أثاث غرفتي مستغربة من هذا الوجه الجديد الذي عاد طافحًا بسرورٍ مشوب قلق..
الجمود الذي في مشاعري جعلها تظن أنني قطعة أثاث مثلها”ص19
هذا الحب كان سببًا في هدم كثيرٍ من الأسوار التي كانت تحيط نفسها بها، أعادتها لفطرتها، إلى ” الأنثى” التي تسكنها.تقول:
“في تلك اللحظة شعرت بانهيار قلاعي، و استيقظت فيّ روح الأنثى التي ترغب أن تبقى نهرًا يسعى إليها الرجل ليرتوي منها”
و تأتي الحرب، لتقلب موازين الحكاية، فتظهر وجوهًا جديدة، كان من بينها وجه جديد ل” سما” و ” باسل” فاختفاءه و ظهور فهد بوجهه الجديد، ليشغل فراغ هذا الغياب، جعل سما تعيد النظر ثانيّة في أفكارها، في محاولة فهد التقرّب منها:
” لم أكن أعرف هل ما قلته ثغرة سيقتحمها فهد بإسلوبه الجديد… فقد كشف لي ضعفًا في حبي لباسل، ركاكةً في شخصيّتي بعدما كنت أظنّ أنّني أتقنت صياغتها.”
ملمح آخر من ملامح التغيير، التغيّر في سلوك فهد هذا الشاب جلف الطباع، محدود الفكر، قد رسمت الحياة بين الحراثة و تربية الماشية، ملامح شخصيّته، أفكاره و حتى شكله. لكنّ الحرب قد أخرجت منه كائنًا آخر، كائنٌ يعرف مسؤولياته الأخرى اتجاه بلده الذي تحاصره الآلة الحربيّة و تقضّ مضجع الأمان فيه.. فكان أن انضمّ إلى فرق مقاومة الاحتلال الأميركي، و اعتقل يقول:
” تغيّرت نعم… و لكن لم أتغيّر كثيرًا.. سنة و نصف من محاضرات لمدرسين و أطباء و غيرهم ، سنة و نصف من القراءة اليوميّة…. ألا تعتقدين أنها كافيةً لأتعلّم حروف الحياة أكثر..”
“المعتقل كان صفعة قويّة يا سما .. صفعة تأخرت كثيرًا ..”
لقد بدّلت الحرب الأفكار و الأشكال فكما بدلت الخريطة الجغرافيّة، بدلت الخريطة العقليّة و العاطفيّة
يقول فهد في حديثه عن ملامح تغييره:
(لأول مرة في حياتي أشعر بالخجل من جهلي… الآن فهمت ما يعنيه رعد عندما قال لي ” الحياة أوسع من حدود الأرض التي تحرثها”)
أما في الحب فقد كان للتغيّر الفكري سلطانه على التغيّر في المشاعر و حتى طريقة التعبير عنها:
” كأنني عرفت الآن سرّ رفضك لي ، لم أسمعك يومًا كلمة أحبك أو مشتاق لك ، كلماتٌ كانت مرميّة في سلّة المهملات .. أعدّها توافه الحياة.. فلا يليق عندي أن يقول الرجل للمرأة مثل هذه الكلمات.. تساءلت مع نفسي إن كنت أحبك فعلًا! أم أنك كأيّ حاجة ولدت و كبرت فوجدتها من ضمن أثاثي و أمتعتي..”
تغيّرت الأماكن، فالعراق بشوارعه و أسواقه الضاجّة، بدجلته و فراته و بمعالمه الأثريّة و حضارته السامقة الضاربة في عمق التاريخ، و أراضيه التي تطرح الخير ، قد تحوّل إلى خراب: تقول سما:
” لم نكن نظنّ أن سواد الجدران سينزل إلى الشوارع، ليصبغ وجوهنا بلون الحصار القاتم، غدونا شعبًا أضاع فنّ الحياة…. و ها هي بغداد تستجدي خطوات أبنائها الذين انزووا في بيوتهم.”
” يرحلون عنك يا بغداد، كل شيء يُغمض عينيه إلّا الموت يترصدنا بنظراته.
نعم يُغيّر الحب الكثير، و تُغيّر الحرب أكثر.
الحرب و العراق:
” العراق ممزّق الأشلاء، أعضاؤه مرميّة على قارعة الخراب”
لا ينفصل الأدب العراقيّ، مهما تنوّعت مواضيع السرد، عن الحرب. فالعراق عاش الحرب لسنوات، قتلت فيه اللون و الضحكة و الحلم و….. الحياة.. لقد صبغتها كلها باللون الأسود ، بالحزن.. و ما زال العراق حزينًا.. تقول سما:
“حزمنا أغراضنا… هاربين من وجه بغداد الكالح، الخوف يمتص ألوان الحياة التي لم يبق منها شيء. ثمان سنوات اصطبغت جدرانها بلون اللافتات السود”
*صوت الكاتب و أيديولوجيته الفكريّة:
هنا نرى المؤلف يصرخ في وجه رولان بارت و ليدحض نظريته ” موت المؤلف” و ليُعلن انتماء النص إليه و انتماءه له تاريخيًا و ثقافيًا و وجدانيًا و ليثبت لنا أنه متجسدٌ في روح كل شخصيّاته الذكورية و الإنثوية، فهو والد “سما” بكل تمرّده على قوانين القبيلة و بعصاه من ناحية أخرى هو “فهد ” عندما تحكمه حياته المحدودة بقطعة أرض يحرثها و ماشية يرعاها فتصبح الكرة التي فوق كتفيه لا تحمل من الأفكار إلّا ما فُرضه عليها واقع الحال. و هو ” باسل” في تمثيله للشباب المثقّف، و هو” رعد ” الراضخ لتقاليد العشيرة مضحيًا بحبه ، و هو “سما ” و ” هند ” و “سمر ” العناصر الأنثوية الخارجة عن المألوف في تمردها على القيود المرسومة على المرأة في مجتمع قبلي صحراوي.
لقد استثمر علي الحديثي البطلة التي جعل منها ساردًا ضمنيًا مثقفًا واعيًا ، لأجل أن يُمرر من خلالها رسائله، أفكاره و شيئًا من آرائه فيما يتعلّق بالحياة عامةً و بالواقع العراقي خاصةً
لذلك نراه في كل سياقات السرد الاجتماعية و السياسية و التاريخية و الدينية، و ما بعض المنطوق في روايته إلّا ترجمةً لفكره.
Elking, [26.09.2024 15:14]
يعلو صوت الكاتب لتنطق به شفاه سما عندما يتحدث عن الحب ، عن الدين، عن السياسة، عن الحرب، عن التاريخ..
كل هذه التجاذبات خلقت شعبًا كلّما فتح قلبه للحياة، أطفأتها ثلّة تشبّثت بالكراسي لتصنع تاريخ أمة هي أجدر منهم على كتابة سطوره.
يقول الحديثي بلسان سما:
“حروف التاريخ كتبتها أقلامٌ صُنعت من أرجل الكراسي”
و في سياق ما خلّفته الحرب، نراه
” بغداد تعلم أننا لن نتخلّى عنها، و لكنّنا جُرّدنا منها، عرّوها من أحلامنا، و جلدوا ظهورنا بسوط الحكم الانف
الكاتبة سمية الإسماعيل