كنت في طريق عودتي إلى الفندق حيث أقيم مع مجموعة من الصحفيين في مدينة زنجبار، لتغطية أحداث شغب في المدينة، حين أسرني لحن صداه قادم من إحدى البنايات القديمة بجانب محل إقامتي، كان صوت عزف وغناء بلغة لم أفهمها كلغة أهل تلك البلدة.
دفعني الصوت الحاني لتتبعه فاقتربت من البناية، وإذا بباب خشبي كبير مفتوح على مصراعيه، دخلت فوجدت سلم أمامي مكتوب على جانبيه بالإنجليزية اتبع الموسيقى.
ارتقيت السلم حتى وصلت إلى سطح البناية، وإذا بسيدة بدينة جالسة على كرسي متهالك وأمامها طاولة خشبية صغيرة فوقها صندوق مغلق من جميع الجهات عدا ثقب مستطيل فوق سطحه لوضع النقود، نظرت إلي بتمعن ثم إلى الصندوق ففهمت ما تقصده، ثم وضعت ما في جيبي وأنا أنتظر بلهفة.
كان الصوت قد توقف لحظة وصولي لتلك المرأة ما جعلني أتساءل عن مصدر تلك الموسيقى.
لم أكن مقتنعة تمامًا بالسحر غير أن ما حدث بعدها كان دليلًا أننا لم نفهم بعد كل أسرار عالمنا الضيق.
وجدت السيدة البدينة تقف أمامي مباشرة. كانت عيناها طبقين بلوريين في ليل شديد السواد، ثم أمسكت راحة يدي، وبسبابتها راحت ترسم دوائر في باطنها.
ثم أطبقت يدي وهي تمسكني بقوة وتقول بوضوح “هيا بنا”، ارتقيت معها الهواء، وصعدت فوق تلك البناية وهذا الفندق، وطرنا حتى وصلنا إلى جزيرة القرنفل التي كنت قد سمعت عنها من أحد الاصدقاء دون القيام بزيارتها.
وضعتني بهدوء على الأرض، لتتأبط ذراعي وسط حيرتي واندهاشي، وتسير بي وسط تلك الأشجار العالية، والأغصان المتدلية، والروائح النفاذة لتلك الأشجار العطرية.
سألتها بحيرة: – أين أنا؟
أجابت: فوق أرض الميعاد.
وإذا بي أجدني أقف أمامه وجها لوجه، كيف مادت الأرض وانكمشت لأجده الآن أمامي؟
يخترقني بنظراته الثاقبة التي ما غادرت أحلامي قط منذ رسالته.
تحدث إلي قائلًا:
– انتظرتك تأتين، أهلا بك.
كان الليل مرسوما بعناية في حدقتي عينيه تحوطه هالات من القمر الفضي أحالت الخوف بداخلي لرعشة جميلة.
قادني بحرص حتى وقفنا على شاطئ نهر الجنيات، الذي لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
ظل ينظر إلي بوجل، بفرحة تردد صداها مع اللحن القادم من بعيد، وأنا لا أجرؤ على الحديث إليه حتى بادرني قائلا:
-إيلام تنظرين يا حبيبتي؟
كان لديه مفاتيح قلبي الصغير، يعرف كيف يخطه على أوامره ونواهيه، ولم أكن أملك سوى الصمت، والنظر اليه في بهاء القمر.
-لقد بعثت إلي برسالة تخبرني فيها بفسخ خطبتنا، أليس هذا صحيحًا؟
صمت، تاركًا للموج القريب كل النوتة الموسيقية لتعزفها وحدها في تلك الليلة، ولم يدافع عن نفسه أو يعترض مما جعلني أواصل الحديث:
“عزيزتي كامليا، لقد فكرت مليا في أمر خطبتنا، وأن شعوري يزداد قوة يومًا بعد يوم بأن زواجنا سيكون غلطة كبيرة، ولا يعني هذا أنني لا أحبك، إن حبي لا يتطرق إليه شك ولكن الحقيقة هي أنني قد توصلت إلى قرار نهائي، هو أنك لست امرأة للزواج، وأن فكرة الاستقرار لا تثير لديك سوى مشاعر الاشمئزاز”.
هل تذكرها أم أنك نسيتها؟
ابتعد قليلا ينظر إلى صفحة المياه ثم عاد حاملًا زهرة الأقحوان الصفراء التي لم تكن موجودة من قبل ليهديها لي قائلًا:
-نعم كتبت ذلك بينما أنت تستعدين للسفر، كتبتها وأنت تتجاهلين نداءاتي المتكررة بضرورة تفرغك لي قليلا وتجهيز بيتنا، لماذا تجعليني أفكر بأني آخر اهتماماتك، وأن أحلامك وتحقيق ذاتك في المقدمة.
ثم حدق في عيني ممسكًا بذراعي وهو يكمل:
-أنت امرأة، خلقك الله لتكوني في بيتك ملكة متوجة، هيأك وأعدك لتقومي بدور الزوجة والأم، جعل في ضعفك قوة لك حين تنسحقين في كينونة الرجل، وفي حنانك دواء لوجعي في الحياة، لماذا تطلبين ما لست مهيأة له، لديك حبي وكفى.
شعرت بأنانيته وحبه، وتصاعد سخطي عليه وهو يكرر كلماته، لماذا عليَّ أن أختار بينه وبين عملي؟ كيف يتجاهل حبي ويخصني كخادمة له ولأولاده فيما بعد.
كانت النجوم حولي تنير السماء، وتبعث بضوئها لكل العابرين ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، لكنها لا تمنحني الإجابة الشافية، كان لدي ألف كلمة لأقولها، وألف اعتراض على جملته الأخيرة لكني تذكرت كلمات والدتي بعد إحالتها للمعاش بأنها كانت تتمنى ألا تعمل، وأن الوقت الذي ضاع خارج البيت أخذ معه صحتها وزهرة شبابها.
شيء بداخلي يجعلني أعترض، وأشياء تناديي للاستسلام والركض نحو أحضانه الدافئة.
سرت في اتجاه البحر بضفافه الفضية بلون الفجر، ومياهه المنحدرة كأنها القباب السماوية، متنسمة ذاك الهواء المحمل باليود متأملة صفحة السماء التي ارتدت ثوبها المخملي الأسود، التي انعكست على صفحة المياه، فسرت في جسدي رجفة باردة، وأنا أغوص بقدمي في حبات الرمل اللانهائية، وأساله أن يهبني أحد أسراره ويعلمني ما خفي عني، فيمنحني الحكمة لأسقي بها روحي.
هرول ناحيتي ممسكا براحة يدي مانحًا إياي السكينة التي أنشدها، والراحة التي أبحث عنها:
-هل تشكين في حبي؟
توقفت عن السير لأحدق فيه وأرى النجوم تتزاحم في عينيه، كم كان جميلًا أن أراه أمامي بكل هذا القرب!
أن يهدهد وجع روحي على دقات قلبه، لأكتشف كم أحبه؟
على الرغم أن معرفتنا لم تكن طويلة فقد تزاملنا لستة أشهر وفقط في الجريدة، قبل أن نأتي هنا معا ضمن التغطية الصحفية التي أرسلتها الصحيفة، وكم تمنيت ألا آتي معه بعدما بعث إليَّ برسالته تلك على هاتفي قبل اليوم السابق لسفرنا، لكنها فرصة جيدة لإثبات نفسي في العمل الذي أحبه، ولذا لم أتردد في المجيء معه.
أجبته وأنا ما زلت أنظر إليه:- كلا لا أشك في ذلك رغم أنك لم تحاول إثباته لي.
-لأني لا أكذب على نفسي. انسي أمر الرسالة الأخيرة، لقد كتبتها دون وعي مني، لا شك أني كنت مجنونًا حين كتبتها، سآتي إلى والدك لنحدد معاد زفافنا بعد عودتنا إلى القاهرة.
كدت أطير من الفرح وأنا استمع لكلامه، ولم يكن هناك من صوت يستطيع وصف شعوري ساعتها سوى الهمس بكلمة واحدة: – أحبك.
غبت للحظة عن الوعي أفقت بعدها على صوت ميرفت صديقتي في الحجرة تناديني:
-سالي، سالي، استيقظي صوت هاتفك يدوي بصمت.
أفقت من نومي لا أدري أكان حلمًا ما رأيته أم حقيقة، ومازالت رائحة البحر في أنفي وصوته يسكن أذني.
أمسكت الهاتف لأجد وليد قد اتصل بي مرارًا، ثم ترك لي رسالة تقول ” انسي أمر الرسالة الأخيرة، لقد كتبتها دون وعي مني، لا شك أني كنت مجنونًا حين كتبتها، سآتي إلى والدك لنحدد معاد زفافنا بعد عودتنا الى القاهرة “.
فتحت عيني عن آخرها غير مصدقة لما قرأته، وبدوري أجبته بكلمة واحدة “أحبك”.
الكاتبة سوسن محفوظ