في غرناطة على أسوار قلعتها القديمة وقف (مالك الحزين) يتربع على عرش المدينة البائسة يحلق بجناحيه في حي البيازين ويقف بأعلى مئذنة قصر الحمراء؛ ليطلَّ من عليائه فيرى المزارع النائية، والبساتين العامرة ، والحقول النضيرة الَّتي تروي بماء الساقية، ويتابع سريان الماء، وجريانه عبر القناطر المؤدِّية للقصر، ويشاهد القباب، والقلاع المشرئبة يلفُّها الظلام، ويغلِّف جدرانها الصَّمت، ويحملق في حزنٍ بتلك القرى والحصون يتذكَّر أجدادنا الرَّاحلين من بني أُمَيَّة الَّذين حملوا الزَّاد والمتاع، وربَّما حُمِلُوا على الأقتابِ مُجْبَرِين على النُّزُوحِ، والرَّحيل تاركين ورائهم ضياعهم وقصورهم، ومنازلهم حاملين معهم ذلك الحنين للأرض والعشق للثَّرى تاركين خلفهم دنيا عريضةً وحياةً رغدةً باهيةً زاهيةً مغادرين إلى العُدْوة المغربية وفاس ومراكش، ويمتدُّ نظره؛ فيتراءى له ماء البحر والجزيرة الخضراء ينظرُ متأملًا تكاثرَ البوم والغربان والخفافيش المجنَّحة، وتنامي أعداد الضَّفادع والجرادِ مع تناقص بنات جنسه بشكلٍ حادٍّ حتَّى صار مهدَّدا بالفناء والانقراض كما انقرض وهلك، وفني أسلافه السَّابقين الرَّاقدين تحت التُّراب، وغابت شموسهم كما غابت شموس دولة الإسلام ذاتها … كان يفكر في الأمر بِرَوِيَّةٍ، و يسترجع تلك الحكاية القديمة المنثورة في بطون الكتب حين أفتى أحد أسلافه لحمامةٍ من حمائم القصر برأيٍ أنقذ فراخها من غدر الثَّعلب المكار؛ وكان سببًا في هلاكه؛ لكنَّه لم يستطع أن يفتي ملوك الطوائف بذاتِ الرَّأي لعَلَّه يتمكن من إنقاذهم من التَّفرق والتَّشرذم، وفجأةً حطَّت بجانبه حمامةٌ حزينةٌ فطفقت تبثه شكواها، وتستعطفه؛ ليمدَّها بالمشورة… أشاح (مالك الحزين) عنها بوجهه وقال لها 🙁 لقد تغيَّر كلُّ شيءٍ يا صغيرتي).انظري لقد سكن القصرَ أغرابٌ ليسوا منَّا، ولسنا منهم في شيءٍ؛ لقد علت الأجراسُ القصرَ ونكِّست المآذن، ولم يستفقِ القوم، ولم يتعلموا الدٌّرس، ولم يفطنوا للقصَّة، ولم ينشغلوا بالقضيةِ بل شغلتهم أموالهم و أهلوهم… تركوا غرناطة تسقط، وبغداد تحتلُّ، و غزة تباد… فيا ليت شعري أأيقاظٌ أميَّةُ أم نيامُ ؟!
فتساءلت تلكم الحمامةُ:
كيف يحيا المرءُ بقلبٍ منكسٍ؟!
كيف يتوهُ في دروب الحياة؟!
لا يجد خِلًّا يوافيه ولا أنيسًا يناغيه، ولا يدرك قيمةً لجمال الحياة، ولا معنًى لبهجتها، وحلاوتها، ولا يتذوقُ لذتها…. يعتصر الألم فؤداه، ويذِيب البعدُ رُوحَه، وينهكها، ويلوكها بين أنيابه وأضراسه وأسنانه … أخبروا زرقاءَ اليمامةِ كيف تصبرُ على ما حلَّ بأهلها وجيشها؟!
قد ثَمَلُوا عينيها كي لا تبصرَ النُّورَ، ولا ترى الظِلَّ ولا الحرورٌ…ما حيلتي حينما أحببتك، ولكنني لا أستطيع التَّواصلَ معكِ… لا أستطيع أن أرتمي في حضنك، وأسترسل في البكاء… حتمًا ستضيعُ من قدمي الطَّريق، ويَشُبُّ في قلبي الحريقُ؛ فأتوهٌ في بحر عينيك؛ لكنِّني لا أستطيع التَّجديف فيهما للوصول لبر أمانٍ أو الوقوفِ على مرفأ تحطُّ عليه النَّوارس، وتصدر أصواتها الجميلةَ، ولا أستطيع السِّباحة في بحيرةٍ ، وسماع معزوفةٍ موسيقيّةٍ جميلةٍ تنطلق ألحانها من دار الأوبرا؛ لقد اشتقت يا مالك الحزين لدفءِ صوتكِ وأنينِ حرفكَ، فحينما تلقى قصيدةً شعريَّةً رائعة ًفي أمسيةٍ صيفيَّةٍ من أمسيات القصر؛ تتغنج الجميلات على إيقاع الشُّعر وموسيقاه و يتمايلن طربًا و دلالًا… حزين أنت ك(لوركا) شاعر أسبانيا العظيم…. أراك تتطلَّع لرؤية الطَّير في أوكاره وأشجار الزيزفون والبونسيانا والخزامى والفل والياسمين والبنفسج، وتتأمل تلك النَّخلة الوحيدة الفريدة الطَّريدة التي مازالت تقف في واجهة القصر تنعي أهلها الذين آتوا بها وتركوها للتفرق والنوى وطول الطوى تسهر ليلها حزينةً تقرَّحت جفونها حزنًا من كثرة ما بها من ألمٍ مسافرٍ ووجعٌ مقيمٍ… شبيهان نحن في التَّفرد والجوى والبعد عن الخلان والأهل والسَّكن… نتوق لموعدٍ يضمُّنا، ولقاءٍ يجمعنا ويعيدنا إلى حيث التقينا أوَّل مرَّةٍ وأوَّل نظرةٍ منَّا إلينا نحنُّ للحظةٍ عابرةٍ هرول قلبي وقلبك، وجاءا يسابقان الرِّيح… كان كلًّا منهما يمشي على عجلٍ تارةً، و يمشي الهوينى تارة أخرى، ويعود بنا إلى حضن الأماني إلى ورد تفتح فأينع في راحتينا، ويتلقَّفنا منتظرًا عودتنا؛ لعلَّنا نؤوب يومًا ما إليها؛ فنجد ولَّادة بنت المستكفي، وحبيبها ابن زيدون في انتظارنا
وهل ترجع الدَّارُ بعد البعد آنسةً؟!
وهل تعيد لنا أيامنا الأوَّل؟!
فتلك السقوف مازالت شامخةً صامدةً منتصبةً رغم ما فعله العدى فيها وهل سيصيبنا الجنون من فرط حبنا لمن يسكن المآقي والجفون، ولمن غرس حبُّهُ في حنايا الفؤاد وفي ثنايا الرُّوح أم أنَّ لقاءً قريبًا به سيكون؟!
القاص عبد الصمد الشويخي