قصة (أجنحة الصمت) للقاص عبد الصمد الشويخي

وقفت والخوف بعينيها تتساءل: أهجرانك سيطول؟!

قلت: لا أدري لأي ميناءٍ ستأخذني الأحلام، ولا بأي حديثٍ غدي سيقول… لكنني أدرك أن في حياتنا أناس لا يخالط وصلهم جفاء، وفي قربهم يرتحل عنا الشقاء يكونون لنا كهوف أمانٍ وحوائطَ صد ضد عوادي الزمن العتيِّ، لكنها الحياة لا تكتمل لذاتها يكتنفها الغموض، وتتأرجح بين جنباتها الآمال قد تخفت جذوة الحب، وقد تستعر وتتلظى، وتشتعل،

وما نحن فيها إلا ك (بورخيس) ذلك الكاتب الأرجنتيني الأعمى ظلَّ طوال حياته يصارع أقداره، وليس له إلَّا أمنيةٌ واحدةٌ أنْ يكون مديرًا للمكتبةِ الوطنيةِ ب(بيونس أيرس) وفي الوقت الذي تحقَّق حلمه فقد بصره؛ فأصبح يشرف على تسعمائة ألفِ كتابٍ ولا يستطيع قراءة أيٍّ منها …!!

كمن يمْلِكُ المالَ وقد، أصيب بمرضٍ عضالٍ فلا يستطيعُ ازدرادَ الطَّعامِ وضعٌ مذهلٌ ومأساويٌّ ومرعبٌ حقًّا… كلانا يا حبيبتي يرى نفسه مثله بعد طول سعي ودأبٍ يجدُ نفسه في نهايةِ الطَّريقِ،

يحملُ أطيافَه المُنهكةَ وملامحَه الَّتي لم تعُدْ تُشبهُهُ ثم يعودُ بخُطًى مُثقلةٍ بالقليلِ؛ ذلك القليلِ الَّذي لا يكفي لتقولي: “أنا أحبُّك” إلا مجبرةً أو بعدَ إلحاحٍ شديدٍ أو أنْ يهتِفَ أحدُهم حينما يَرَاكَ قادمةً من بعيدٍ تتقافزين فيقفز قلبه مصافحًا لك: “مرحى، لقد عُدتِ يا حبيبتي… أهلًا وسهلًا بكِ!” قدرٌ هو حبُّنا ليس لنا فيه يدٌ، وكم نشتاق لمعانقة أكفِّنا أكفِّ من نحبُّ؟! وكم نشتهي أن نكون نبضًا يسكن قلوبهم…. تكون سعادتنا في لقياهم، ونعيمنا في سماع أصواتهم وكم من أشياءَ كتبت علينا، لا يمكننا مغادرتها حتى لو أردنا ذلك تبقى بداخلنا كلحظاتِ الموت والولادة لا تمحي من ذاكرة الأيَّام ولا ينساها القلبُ؟!

يمنعنا الخوفُ من فعل أشياءَ كثيرةٍ من ممارسة ما تمليه علينا قلوبُنا، وتشتاقه أرواحنا… أصبحنا يا عزيزتي نخاف من الحبِّ نخاف مِنَ الحُرِّيَّة نخاف أن يعلم الناس بأنَّنا نمتلك مشاعرَ متدفقةً، وأحاسيسَ مرهفةً… نخاف من أنْ يفهموا صمتنا، وما تبوح به عيوننا… نستريب من رسائل العشق، وكلام الغرام؛ فلا نصدِّقُ من قال لنا: كم نحبُّكم…!! نخشى، وكأنَّ رصيدَ هذا العالم قد نَفَدَ بالفعل، وأصبحَ خاليًا من الشُّوقِ والوجدِ والصَّبابةِ، والهيام… أصبحنا ننكر أيَّ صلةٍ لنا بالحبِْ وأهله…. سنظلُّ أسارى تقاليدٍ باليةٍ حتى لو قررنا الابتعاد عنها وعنَّا، وهربنا من ذاتنا ذكرياتنا معًا لا تُنْسَى ، وكلُّ دمعةٍ تحدَّرت من أحداقنا تساوي عمرًا؛ فنظرةٌ واحدةٌ من نهرِ عينيك تختصر الطَّريق لقلبي وتأسره ، وهناك أماكن لا نغادرها، ولا تغادرنا مهما ابتعدنا أو قررنا الرَّحيل ثمَّةَ جُزُرٍ في القلب استوطنها الأحبَّة رغمًا عنَّا وكم من أُنَاسٍ لا نستطيعُ نسيانَهم، ولا نطيقُ رحيلَهم ولا نقدرُ على لحظاتِ وداعهم لنا، ومهما أبعدتهم المسافات عنَّا، وطال بيننا البعدُ والنَّوى تظلُّ ذكراهم محفورةً في الذَّاكرة منقوشةً في القلب نسيانهم؛ فعلى رفوف هذه الحياة تنبض كلماتك بالحياة وتفيض بالأمل لا يهزمها واقعٌ ولا يقهرها حاضرٌ، ولا ينوء بحملها مستقبلٌ تبقى حيَّةً لا تموتُ..!!

نقسو على أنفسنا نذوبُ حنينًا واشتياقًا ألف مرَّةٍ ومرَّةٍ ولا نبوح باحتياجنا يجتاحنا الألم، ويعتصرنا الشَّوقُ؛ فنذبل كأزهار الحديقة من فرط الجفاف وشدة القيظ وقلة الماء، وهلاك الراعي دون أن نصدر صوتًا لمواجعنا أو يسمع أنيننا أحدٌ … نستلذُّ بتعذيب أنفسنا بمحاولاتٍ يائسةٍ فاشلةٍ لمقاومة نحسبها باسلةً… نقاوم تيارات الفرح الغامرة ونعاند دقات قلوبنا نحاول أن نمسك النَّبض، ونقبض على تلك العضلة المنبسطة التي يتحوَّر بداخلها الحزن كفيروسٍ مرضيٍّ قاتلٍ يستبدُّ بنا وتسكن في يسار القفص الصَّدريِّ؛ لعلَّنا نستطيع أنْ نوقف نزيف الحبِّ والحياة بها وأن نستفتي الغادي والرَّائح : أحلالٌ هو العشق أم أنَّه في مذاهبنا حرامٌ؟!

أفي قُبْلةِ عاشقٍ وضمَّةِ مشتاقِ الفؤاد جُنَاحُ؟؟

– معاذ اللهِ أن يُذْهِبَ التُّقى تلاصق أكبادٍ بهنَّ جراح…

مرعبةٌ وقاسيةٌ ومريرةٌ هي مشاعر الخذلان حينما يخون ثقتك من يكون لك

الوتين ساعتها ستحسُّ بأنَّ شيئًا بداخلِكَ قد انطفأ للأبد ستدركُ حينئذٍ معنى عتمة روحك، وستري بعينيك ظلام أيامك، وضبابيَّة مشاعرك ستتأكد بأنَّ كلَّ ما بداخلك لن يعود كما كان مهما حاولت؛ فالانطفاء أشدُّ قسوةً من الحزن القابع في أعماق أعماق قلبك…

جميعنا يريد يدًا حانيةً تُرْبِتُ على كتفيه… َحِضْنًا يضمُّه بلا ضجرٍ ولا مللٍ، ولا خوفٍ يتملكنا شعورٌ غريبٌ يشبه الهذيان تتساوى بداخلنا كلِّ الأمور َتتوحدُّ الأشياء مع ضدِّها لا ندري أنحبُّ أم نكرهُ؟! أنتخلى أم نتمسَّكُ؟؟ أنواجِهُ أسرابَ الجفافِ الَّتي غُرسَتْ بقلوبِنا أم نحيي موات الأرض ونصلح أرضنا البور؟!

نفقد بوصلتنا، وتضيع وجهتنا فنصبح كمن يمشي في شوارع مكتظةٍ بالنَّاس وأشباه النَّاس لا نُعِيرُ انتباهنا لأحدٍ، ولا يهزنا مَنْ مرَّ مِنْ أمامنا، ولا نلتفت لما يحدث بجانبنا فالجسدٌ يمشي، والبال منشغلٌ (ليس هنا) … لا يدرك ما الأمر؟!

قد نثق بأحدهم ثقةً عمياءَ، لكنَّنا لا نستفيق إلا على درسٍ قاسٍ مؤلمٍ يترك بصماته على وجوهنا وملامحنا، وحبَّات قلوبنا ‏ فحينما تُبصر هذه الثِّقة تصبحُ ذاتَ نظرٍ حادْ. لا تغفِرُ خطأً.. ولا تلتمسُ عُذراً… بين الحين والآخر نحتاج لأنْ نكون كفصل الخريف…!! فيا ليتنا نمتلك القدرة أنْ نصنع لأنفسنا خريفًا خاصًّا بنا؛ لندعَ كل ما يؤلمنا يتساقط من داخلنا؛ لنفسح المجال للرَّبيع أن يزهو بداخلنا ويزدهر، ويفوح… أن يكون لصمتنا رائحةٌ عطرةٌ تجتاح أرواحنا ؛ فللصَّمت أجنحةٌ تطير بنا َمحلِّقةً في جزر الخيال الرَّحب وأودية العشق الممنوع، وتهتف بكل ما أوتيت من قوةٍ؛ لتلعنَ ذلك الحبَّ الصامت الَّذي يحرق مزارع الزَّيتون في نفوسنا، ويعصف بقلوبنا وأروحنا، ويطبق على صدورنا كجاثومٍ لعينٍ لا نستطيع له منعًا، ولا طردًا فنمضي في الحياة على غير هُدًى، وكأنَّنا نطارد خيط دُخَانٍ، نمضي صامتين، وربَّما كان الصَّمت أبلغ من ألفِ مقالٍ وكثيرِ كلامٍ .

القاص عبد الصمد الشويخي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *