في عز الوجع كانت تُرْبِتُ على كتفي، وتهمس في أذني بأقصرَ جملةٍ تربكني وترعبني؛ كونها مقتضبةً، وتحمل في نفس الوقت معنًى دلاليًّا مغايرًا يوشي بحزنٍ كبيرٍ وأسًى عميقٍ؛ لأنَّني لم أكن هناك بجانبها، ولم تكن هي بحضني… هي تعاني وحدة خاصَّةً وقلقًا مستمرًا، ومع ذلك تبالغ في إخفاء ما يعتريها من ضيقٍ، وما يعتمل بقلبها تخفي متاعبها عن الجميع بما فيهم(أنا) وتينها ورفيق روحها وصديق عمرها، وجار قلبها.
ـ أنا لا أخاف…!! أنا لا أغار عليك…!! أنا لا أحبُّكِ
صامتٌ أنا، والحزن يأكل روحي أترك للآخرين فرصةً للكلام معك والسَّلام عليك والنقاش فيما بينهم وادعاء ما لم يحدث مني ولا منك يساورهم الشَّكُ، وتدور بهم الظُّنون يتكهنون بأشياء وأشياء… من تكون حبيبتي؟! ما اسمها؟! ما لون عينيها؟!
منذ متى أحببتها؟!
ـ (أنا بخير) تلك دعواها دائما… هي ليست بخير… جسدها منهكٌ عقلها متعبٌ… تفكيرها مشتتٌ… تحاول أن تستعيد روحها التي قد سلبت الأيام بهجتها.
ـ أريدُكِ معي… أريد أن أشرب قهوتي الممزوجة بأنفاسكِ، وأن يكون حديثنا دائمًا مطوَّلًا نتبادل في بدايته الحكايات والقصص ونستلذ في نهايته بعناق يشفي ما بنا من شجنٍ نغني معًا:( آهٍ على قلبٍ هواه محكم فاض الجوي منه فظلمًا يكتمُ)
وجعي أنا آه لو تعلمين حبيبتي
حين تشاكين بشوكةٍ يبلغ مداه ويكبر حتى يطال الأنجما
تتمنعين تتدلَّلين… لكنَّ روحي في هواكِ معلَّقة.
وها أنا ذا أقف مستغربًا أتابع حركاتهم الجسدية وسكناتهم وتعبيرات وجوههم وإيماءاتهم وإيحاءاتهم وردود أفعالهم، وتصرفاتهم حتى مشاعرهم الدَّفينة التي لا تخرج إلا بغتةً أحاديثهم وتعليقاتهم، ومسامراتهم.
لماذا يعانون هم من مغبة عاطفةٍ تشبُّ بين حبيبين ويدوسون أنوفهم ويتسلَّلون لواذا؛ ليعرفوا أدقَّ تفاصيل الرِّواية من عنوانٍ ومقدمةٍ وفصولٍ متتابعةٍ ونهايةٍ يتمنونها قاتمةً مزريةً تملؤها التعاسة، ويغلف أوراقها الشَّقاء؟!
يريدونها تراجيديَّةٍ كالكوميديا الإلهية ل (دانتي النيجيري) سواءٌ في متنها ونصِّها وهوامشها وفهرسها، وحواشيها يحاولون تقليد بَحَّةَ صوتي، ويحفظون اللازمة المصاحبة لكلماتي ويكرِّرونها، ويعيدونها على مسامعي (كيف حالك…؟! لعلَّك بخيرٍ…؟!)
يرون قصاصاتِ مُسْوَدَّاتِ قصصي القصيرة أو أشعاري؛ فيخيل إليهم من سحرها أنَّها حيَّةٌ تسعى؛ لتبتلع أحزانهم وجهلهم وتعاستهم، وتلقف ما صنعوا من حيل، وما حاكوا من أكاذيب، وما أرادوا من فتنٍ وقلاقلَ.
ـ يتساءلون لماذا يختصها بكلِّ حديثٍ عابرٍ وكلِّ ضحكةٍ وكلِّ همسةٍ ولمسةٍ؟!
لماذا يكون لها بمثابةِ ظهرِ أخيها الَّذي تحتمي خلفه حين تعاندها الدنيا؟!
ولماذا تقف هي بجانبه في كلِّ لحظات حياته، وفي جميع فتراتها الصعبة وأوقاتها الحرجة تدعمه وقت الشَّدائد ولو بالكلمات، وتؤازره بمالها، وترفع روحه المعنوية بابتسامتها التي تملأ الكون أزهارًا وورودًا؟!
تبدو دوما كطائر السَّلام المحلِّق رغبةً في الوصل بين قلبين؛ لذا سأظلُّ احتضنها بين صدري كاحتضان الأب لابنته حينما يرفعها بحنوٍ بالغٍ يوم مولدها، ويجعلها تستند على ذراعيه اللَّذين يحتويانها؛ لتقف على قدميها ثم تتقافز في صدره وتتأبط ذراعيه؛ تقديرًا لذلك الحنين الرُّجولي لمن هي من دمه ولحمه… ستكونين أنت كذلك صديقتي الَّتي أحتكم لها وأستشيرها في كلِّ مشكلةٍ من مشكلات حياتي… سترافقينني في كلِّ لحظةٍ تؤول إليها حياتها وأبلغ ذروة سنامها؛ فأنت أجمل كائنٍ أبدع الله صنعه بقوَّة مشاعرك أندفع خطواتٍ للأمام، وتشحذين همتي وعزيمتي ومضائي لأكون أفضل.
ـ تحدَّثَتْ إلىَّ بثقة كاملة: مهما كان ثِقَلُ الحمل سأحمله معك… َسأتلذَّذ بمشاطرتك إيَّاه ومناصفتك آلامه، وصعوباته… سأفجِّر كلَّ الطَّاقات الكامنة بداخلك… سأمنحك القدرة؛ لتحرك الجبال وتصعد سُلَّمَ مجدك بثباتٍ سأسحقُ صخرة (سيزيف)؛ لتصل للقمة، وما ذلك عليك بكثيرٍ ولا هو عنك ببعيدٍ… سأكون مصدر إلهامك حتى آخر لحظةٍ في حياتي… لن أفلت يدك يومًا، ولن أدير ظهري لك أبدًا.
كنتُ دومًا أتساءل: أتكون المرأة صادقةً حينما تقول (أحبُّكَ) أم أنها تعطينا فقط تلك الحقيقة الَّتي نريدها حتى وإن تعثرت خطاها، وهي تعدو على درج القصر لاستقبالك بين ذراعيها بتلك اللَّهفة التي تشعُّ من عينيها؟!
وإنْ ضحَّت لأجلك بوقتها ومالها وصحتها وهنائها وسعادتها ونومها، وإنْ شاطرتك كلَّ هموم الحياة، وصبرت معك على لَوْائها، وصرت فارسها الوحيد وصار حضنك مرجعها حين تبكيها اللَّيالي، ولا تنصفها الأيام
أم ستظلُّ لغزًا محيِّرًا لا نستطيع فكَّ رموزه أو سبر اغواره.
ـ لقد اصبحتِ نبض قلبي والتفاتةَ مقلتي فهل ستكافئينني بالغياب، وتضعين الملح فوق مواجعي وتضيعين الرُّوح، وتلقين بها في مهاوي الرَّدى؟!
القاص عبد الصمد الشويخي