المعزوفة
قصة قصيرة.
حضرت إلى بيتنا ومعها كل الصخب؛ صوت بكاء حاد كالهزيم خاصة في الليل، وأنين كالمواء المعاتب في النهار، لا يكاد يتوقف إلا مع صوت طلقة هنا أو انفجار هناك.
فركت عيني وهرشت رأسي وأنا أناظر أمي المسكينة، وهي تحوط الرضيعة بكتفيها الهزيلتين، ثم تلتقط ثديها الأعجف من ثنية ثوبها لتلقمه في الفم الصغير علها تسد جوعه، ولكن دون جدوى.
“متى حضر إلينا ذلك الكائن الغريب؟”
سألت أمي، وأنا أتفرس في ملامحها الدقيقة.
“أحضرها أخوكِ يوسف..من هناك”
اتبعت سبابتها وأصابني الذعر. هناك؟! أي هناك يا أم يوسف! أتعنين أنها ابنة الشياطين! من ولد جهنم ؟!
قالت وهي تعصر ثديها بقوة:
“طار عبر السماء إليهم، ثم عاد معها. وضعها في حجري وطلب مني الاعتناء بها، ثم اختفى”
دوى انفجار هائل هز الأرض تحت قدمينا، أتبعه صوت رصاصات كالمطر.، ثم هدأ حتى توقف، لتبدأ وصلة البكاء الحار من فم الطفلة الجائع.
لم تحرك أمي ساكنا..لم تهلع. كانت لا تزال تلقم ثديها النحيل في الفم الصغير، شاخصة نحو وجه الرضيعة الباكية، وفي عينيها لمعان حزن دام، وحب جارف، واشتياق عظيم..نظرت نحو الصغيرة فأصابني شيء مما أصاب أمي..وجنتاها الصغيرتان وأنفها الصغير وعيناها الأسودان..كأنها هادية! كانت مثلها، ربما أكبر بأيام أو أصغر..أختي التي أخذها المرض منا منذ شهرين، بعد أن أصابتها نزلة معوية حادة، احتاجت على إثرها لدخول المشفى لتلقي العلاجات، فكان الموت بيده الرحيمة أسبق إليها من عذابات الألم. تركتنا هادية بعد أن حفرت في قلوبنا ابتسامتها الحلوة، وهي تحرك يديها البضتين الصغيرتين ملوحة في الهواء، لاقمة ثدي أمي العارم باللبن، والحب والأمل، وصوتها الرقيق يعلو ويهبط كسيمفونية بريئة تكابد كي تجد لها مكانا في الأسماع وسط دوي الرصاص.
لم تتركني أمي لموجة الذكريات. ألقت الرضيعة في حجري، ووضعت الحجاب على رأسها وذهبت وهي تقول في تصميم:
“سأبحث لها عن لبن في الشارع المجاور. اهتمي لها”
لم يعد في البيت سوانا أيها الكائن الغريب!
تشبهين هادية..وجنتاك أكبر قليلا ربما ، لكن كانت عينا هادية بلون الفيروز، أما عيناك فأسودان كالليل البهيم. لديك ابتسامتها، صوتها، كأنك تعزفين السيمفونية البريئة نفسها. أنت ابنة الشياطين! بنت حرامية العصر وكل عصر. تعرفين؟ سرق أهلك أرضنا، وقتلوا اخوتننا، واستباحوا تاريخنا، واليوم ويا للقدر..تطعمك أمي من ثديها، وترقدين على حجرها، وحجري!
هل تظنك هادية؟ ابنتها التي رحلت؟ أ لأن نظرتك نفس نظرتها، ويداك تلوح كما كانت يديها؟
واء..واااء…واااء..
كفى بكاء..لن ينفعك البكاء..كم بكينا ولم يسمعنا أحد. لوحنا بغصون الزيتون ولوح أهلك لنا بالمدافع والصواريخ..
بوم…بوووم…بووم…هذا كان ردهم علينا..
لماذا نهتم لبكائك إذن؟
يا للبكاء!
صوتنا الأول، ومعزوفتنا الأولى. نعلو بها في الفضاء ثم نهبط، نتنهد بها من اليأس حينا، ومن الأمل أحيانا.
علا صوت المسكينة وقد قرصها الجوع قرصة أليمة..تأخرت يا أمي..جاعت هادية..
فُتح المزلاج، وحضرت أمي ملهوفة نحو الرضيعة، والتي توقفت فجأة عن بكائها، والتفتت نحو أمي بتوسل. وضعتها على حجرها، وألقمتها حلمة زجاجة اللبن بين شفتيها الصغيرتين. كانت تشرب في نهم، بينما من حين وآخر كانت تبتسم، وتضحك.
أفلتت مني ضحكة، بينما أفلتت من أمي الدموع..
بووم…بوووم..بوم…
ارتج المكان بصوت الانفجار. كشرت هادية منزعجة، ولوحت بيديها الصغيرتين البضتين كأنها تنفض الشياطين، ثم أكملت وجبتها وهي تنظر إلى أمي باسمة.
“الملاعين..يظنون يوسف هنا وأصحابه”
قالتها وقد بدا عليها القلق فجاءة.
“أين ذهب يوسف؟”
“لست أدري..في الصباح مسح على رأسي، وقبلني، ثم تلثم ومضى”
ظهر على هاديتنا الجديدة الشبع. عافت طعامها، وظلت تعبث في الهواء وعلى فمها بسمة رضا.
بوم..بووم..بوووم
ارتجت من تحتنا الأرض ومادت ، صرخت هادية، ولولوت أمي، وأظلمت الدنيا.
“هادية! أين أنت؟”
رددت سؤلي وأنا سابحة في الأثير. لم تجبني؛ بيد أني سمعت ضحكتها تصدح بين الكواكب، وقد خالطها سيمفونيتان بريئتان.
خالد عجماوي / السعودية في ١٠ أكتوبر ٢٠٢٤
القراءة
*
- طار عبر السماء إليهم، ثم عاد معها.
- رددت سؤلي وأنا سابحة في الأثير
هذان مفتاحان من مفاتيح النص، فماذا يقولان لنا؟..طار عبر السماء / سابحة في الأثير
جملتان اتيتا في صورة بلاغية كناية عن الموت الجسدي، وديمومة الروح، فالأول روح يوسف، والثاني روح الساردة ..والمعنى أن كليهما ميت! - والآن لننتقل للشق الثاني من النص ألا وهو ( طار عبر السماء وعاد معها )، والسؤال المنطقي الذي تبادر إلى ذهني ( هل تصطحب الروح جسدا؟)، والإجابة قطعًا لا، وإنما من الجائز أن تصطحب الروح روحًا، ترافقها، تأنس لها، أو حتى تبغضها، فكما الأجساد تتلاقى؛ الأرواح تتلاقى.
إذًا مات يوسف وصعدت روحه ( طار) إلى السماء، والأرواح كما يقال تتآلف، وفي رحلة بحثه عن روح أخته ( هادية) التقى بروح تماثلها سنًا وبراءة طفولة، فألفها فعاد (معها)، وليس عاد (بها)، وشتان الفارق بين الدلالتين، إذ ( معها) تفيد الطواعية والرغبة، بينما ( بها) تفيد التقييد والقسر.
وهنا لو أردنا التفرع والتأويل الإيحائي ما لامنا أحد، حين نقول أن روح يوسف أرادت أن تخفف حزن الأم لفقدها الاينة ( هادية)، فأتت لها بمن تعوضها، ولكن كما قلنا سابقًا أن الروح لا تأتي بجسد مادي!، إذًا كيف يستقيم ويستسيغ لنا فهم القبول والارضاع واللهفة من قبل الأم ؟.. هنا لا يسعني إلا العودة لكينونة السارد، لنر نوعيته ولم اختاره الكاتب دونًا عن غيره من أنواع الرواة.
نجد أنه اختار الذات المتكلمة ( ضمير المتكلم )، والذات المتكلمة تعبر عن نفسها وأحاسيسها ومشاعرها، وبذا نضعها تحت منظار الفحص والتدقيق لأن طبيعة ماهيتها تتيح لنا التشكك في مصداقية أقوالها، هذا تمامًا ما أنا في سبيلي لإثباته، وأعني أن كل ما ورد في النص هو مجرد هلاوس بصرية سمعية تتعرض لها الذات الساردة، إثر فقد أخت قتلها المرض، وعدم تقبل العقل الواعي لفقد أخٍ عائل- مرض نفسي تسببه الصدمة وينتج عنه توقف الذاكرة عن تسجيله- هذا ما حدث للأخت الساردة، بينما الأم تدرك الفقد وتتقبله ( طار إلى السماء)، وتمالئ الابنة المصدومة بقولها (“أين ذهب يوسف؟”
“لست أدري..في الصباح مسح على رأسي، وقبلني، ثم تلثم ومضى”). - عودة إلى الذات الساردة لنتابع تطور الشخصية النفسية في نظرتها للطفلة الباكية، لنجد الأمر على ما يلي..
- ابنة الشياطين
-علا صوت ( المسكينة)
-تأخرت يا أمي ..جاعت ( هادية)
ويستمر الاثبات بتكراره - هادية ..أين أنت ؟
إلا أن السؤال الأخير ورد في سياق علوي(رددت سؤلي وأنا سابحة في الأثير. لم تجبني؛ بيد أني سمعت ضحكتها تصدح بين الكواكب، وقد خالطها سيمفونيتان بريئتان.)
وبالقياس السمعي لأصوات هذه الفقرة الأخيرة نجد أن عددها ثلاثة…ضحكة+ سيمفونياتان بريئتان، ويجوز لنا أيضا أن نضيف صوت الساردة كمستمع متكلم.
والآن ينبغي أن نسأل أنفسنا من هؤلاء الثلاثة؟
والإجابة احتمالية تتوزع بين
١- أرواح يوسف وهادية والطفلة…+ الساردة
٢- أرواح يوسف وهادية والأم + الساردة
والاحتمال الثاني هو الاقرب لي منطقيًا، إذ قضت الساردة وأمها نحبهما في القصف الأخير، وبذا لحقت أرواحهما بروحيّ هادية ويوسف، واجتمع شمل العائلة أرواحًا بلا أجسادٍ تقيدها.
أما الاحتمال الأول فيقتضي نجاة الأم من القذف الأخير، وهو ما سكت عن القاص وتركه كمساحة فارغة يملؤها القارئ وفق رؤيته للمشهدية السردية.
أين الإبداع هنا ؟
وللإجابة عن هذا السؤال، سنطرح عدة زوايا مقبولة لاستيعاب النص، ومنها
أولًا : هلاوس بصرية سمعية تعاني منها الساردة اثر فقد أخت واخ، ثم طالها الموت فينهاية النص.
ثانيًا : هلاوس بصرية سمعية تعاني منها الروح الساردة – أثر فقد وصدمة في حياتها المادية- في معرض بحثها عن أرواح من ذهبوا قبلها إلى أن عثرت عليهم ( الأخ، الأخت، الأم).
المخرج الاول لا أرى فيه ابداعًا لأنه متكرر في مئات القصص من قبل ( الأرواح الساردة )، ولي في ذلك العديد من القصص منها ( جذور، إنه يبتسم، الرحلة، المخزن،…).
أما الرؤية الثانية فهى مختلفة، إذ تطرقت لما هو غيبي أكثر من مجرد روح، حين أشّرت بدقة إلى أن الروح تعاني أيضًا من أمراض عانى منها الجسد المادي أثناء حياته ( الهلاوس البصرية، وما بعد الصدمة)، وهنا يتجلى الإبداع فهو ليس اتباعًا لأفكار ومعالجات سبقت، وإنما الإتيان بما هو جديد أو على الأقل بما هو نادر وغير مطروق، وهذا فعلا ما قدمه لنا د. خالد بمعالجته العبقرية لفكرة الروح في العالم البرزخي في إخراج جديد ( المعاناة ).
نقاط ثانوية : - غريزة الأمومة لا تفرق بين عدو وحبيب، تمامًا كما الطبيب حين يعالج مصابًا قتل أخاه، فالأولى تحكمها طبيعتها ك أم، والثانية يحكمها الشرف المهني كواجب مقدس( قسم بو قراط ).
- التعاطف الأنساني ( تدرج الساردة من الكراهية المطلقة، إلى التأثر العاطفي، لتنتهي بانصهار المشبه والمشبه به ( هادية والساردة) .
- ويلات الحروب وتبعاتها المأساوية
- ضيق المكان المادي الدنيوي، واتساعه اللانهائي في عالم الأرواح.
- إصرار الكاتب على تعميق المغزى المراد وتأصيله بالاتكاء على تبئير مشهدية البكاء والفرح تزامنًا مع صوت القذف وانقطاعه.
- المعزوفة : ثنائية الحياة والموت.
في النهاية هذه رحلة مختصرة داخل نص يحتمل تفرعات عديدة ورؤى مختلفة تقترب أو تبتعد، إلا إنه في النهاية لا يمضي – النص – دون أن يترك أثرًا، بل وأثرًا بليغًا في وجدان المتلقي.
الأديب محمد البنا