لم يرشدها أحد في طريق الحياة، لقد تعلّمت كل شيء من الآلام والخيبات، وملامح وجهها الجذاب لن تخبرك كم
عاصفة مرّت من طيفها وهي ما زالت شامخة ثابتة مكللة بجمالها المميز، فاذا اراد الحب أن يتجسد ستكون بلا شك هي ملكته، جميلة الجميلات، صاحبة الشعر البرتقالي اللامع “عائشة” ربما قصتها أكثر من مجرد خرافة، فقد جمعت كنوز من الذكريات الحزينة والسعيدة الخارقة للعادة التي لا وجود لها إلا في الأساطير.
لم يعد قلبها يتحمل مزيداً من الحزن لكنها قوية، إذا بعد ٢٣ سنة من الانكسار، وأنين الأشجان، فقد حان موعد تزويج طفلتها الصغيرة ذات ال ١٤ عام كما جرت العادات الغريبة في القرية بتزويج الفتيات القاصرات في عمرٍ صغير، كانت عائشة متخوفة من هذا اليوم فهي تحلم بتزويج ابنتها حينما تشعر بأنها جاهزة لسن الزواج، زوج لا يهينها ولا يوسعها ضرباً، لكن التفكير بذلك في تلك القرية لا شك أن مصيرك سيكون بمثابة بناء حديقةً بديعة في أرضٍ ليست لك، كالغرق بالبحر وأنت تلوح بيديك للحصول على مساعدة من أناس معصوبي الأعين، القرية التي تعيش فيها عشيرتين بني حسّان وبني صالح، هم أناس حياتهم هادئة بعيداً عن الحضارة والانفتاح، يستيقظون على صياح الديكة ويأكلون من حصاد أرضهم وعطاء حيواناتهم، تحدد حياتهم ظروف الأرض والسماء، وأكثر ما يميزها هو وجود آلاف من أشجار التفاح، لعل حقول التفاح هذه أكسبتها اسمها (تل التفاح)، العائلتين غريبو الأطوار، يختلفون في طريقة ومنهج حياتهم عن باقي القرى المجاورة، لا يحبون الغرباء ولا يتخالطون من جيرانهم من القرى.
كانت ميساء قد أغلقت الباب على نفسها عندما أحضرها أبوها فيصل بعد أن اكتشف محاولة هربها من البيت، وسمعت صفعات أبيها لامها لأجل السماح لها ومساعدتها في الهروب من ظلم القواعد، وبعد أن أفرغ فيصل مهمته في ضرب زوجته ظلّ جالساً يدخن حتى نام على الكرسي الهزاز دون أن يفكر في إسعاف الملاك النائم على الأرض طريحاً من عذاب يديه الحديدتين، إلى أن أفاقت عائشة وطفلها يجهش بالبكاء على ما شاهده من مشهد، قامت والدم يخرج من أنفها وأذنها من شدة ما نزل عليها من صفعات، احتضنت طفلها بتأثر بالغ ثم نظفت آثار الضرب الذي وقع على وجهها الثلجيّ الرقيق وعادت تطبخ لزوجها قبل ان يستيقظ جائع لضربها مرة أخرى، كانت عائشة حريصة عل توفير الحب والاهتمام لأطفالها لعلّها تعوض نقص حنية فيصل لهما، لم ترفض لهم طلباً قط خشية أن تؤذي مشاعرهم، لكن فيصل همّه الشاغل هو أن يربح رهان تافه أو شريحة مخدرات لعينة، لذلك حاولت اقناع ومساعدة ميساء على الهروب، لعلّها لا تكرر السيناريو الذي عاشته في طفولتها أيضاً.
في مساء اليوم التالي اجتمعت كبار عائلة العريس المتقدم بكبار عائلة الطفلة، وقرروا أن يتم تزويج ميساء بالشاب خالد وأن يتم هذا الزواج رسمياً غداً فقد بلغت الطفلة شروط الزواج في القرية، كانت عائشة منهارة وتهشمت روحها كشجرة متصدّعة رثيثة يحطمها الحطّاب بفأسه كيف يشاء.
حضر الغد ولبست ميساء الفستان والطرحة كانت جميلة بجمال عائشة عند زواجها، لبست تاج الزفاف الذي يتوجها ملكة لهذا اليوم وزفت على ايقاعات الفرح، واشتعلت الشموع ونثرت الزهور وعلت الموسيقى، لكنّ ميساء لا ترى شموعاً مشتعلة ولا زهوراً منثورة، لا تسمع صوتاً للموسيقى، كجثة هامدة ترتدي كفن الموت، لا يهمها أي شيء سوى
مشاعرها التي دُعس عليها بالأقدام مستخفين بطفولتها، فقتلوا فيها الروح والجسد، تركت مريولها المدرسي معلّقاً مع أحلامها الطفولية وسُلّمت إلى زوجها حين جاء ليأخذها وسط دموع عائشة مودعةً لها وهي تقول: أتمنى لكي العيش السعيد مع زوجك الحبيب، إنها بأمانتك يا خالد.
– لا تقلقي يا زوجة عمي، أصبحت ميساء على اسمي وملكي، أعدك أني سأحبها الي ان تأتي ساعة موتي.
كان فيصل لأول مرة ينظر الى ميساء من بعيد وعيناه الحمراوين تغرورقان بالدموع لا يعلم هل هي دمعات ندم، أم حزن، أم فرح، لم يشاهده أحد مسح دموعه، وذهب يدخن السجائر، على كرسيه الذي لم يتجرأ أحد الجلوس عليه.
بعد انتهاء الزفاف دخلت عائشة بدموعها إلى غرفتها بعد أن سردت قصة النوم لطفلها محمد وأدخلته في سباتٍ عميق، نظرت في نفسها بالمرآة وهي تمشط شعرها البرتقالي، تذكرت حفل زفافها كانت كطائر المالك الحزين، وما زالت تتذكر أول لقاء لها مع زوجها وكيف ذُهل فيصل عندما رأى عائشة لأول مرة ودخل قفص الحب أسيراً لدى الملكة عائشة، التي ما كان يلزمها للتزين حتى يظهر جمالها، ما كان يلزمها أحمر شفاه أو طلاء أظافر ولا تفرط التأنق، كانت فتاة ال ١٤ عام في سن الزواج كما عادات القرية، دفع فيصل باب قلبه ووضع فيه عائشة وأوصد الباب بإحكام شديد، فهو أول مرة يدخل الحب قلبه وأول نشوة شعر بها بالحب معها، لكنها لم تكن تتوقع لأن تكون حياتها صعبة مع فيصل لدرجة إهانتها أصعب الإهانات والانهيال على جسدها بأبشع طرق الضرب، والموقف الأكثر تأثراً عليها هو عندما جاءها يوماً يريد المال من حصتها في إرثها من أبيها المتوفي جاءها فيصل بعينين حمراوين وقال لها بصوت حاد: أعطني المال.
صاحت بوجهه: وماذا ستفعل به؟
وهو يرفع سبابته محذراً يقول: هذا ليس من شأنك، ستعطيني المال وإلا آخذه بطريقتي؟
بتحدٍ أجابت: صدقني لن تشتم رائحة هذا المال ابداً.
– إذاً فلتري كيف سأشتمه الآن!
وقام بضربها دون شفقة أو مراعاة لمشاعر ميساء الطفلة كانت لا تتجاوز الخمس سنوات حينها، لم يدرك أنه يعذبها ويعذب طفلتهما ويدمرها نفسياً، وطفلهما الذي كاد أن يرى ضوء الشمس، وبعد المزيد من الإهانة على جسد عائشة نجح في الحصول عل المال، مقابل أنه خسر طفلهم الثاني بعدما نزفت نهراً من الدم المسفوح، اجهضت عائشة طفلها قبل أن يصبح قادراً على الحياة، لقد قتل فيصل ابنه بينما هو يلهث وراء المال والمخدرات!
اجتاحت عائشة هذه الذكريات بعد فراقها عن طفلتها العروس، دعت الله لها بالسعادة وتمنت لها العيش الرغيد الذي لم تحصل عليه مع فيصل، ثم ألقت بنفسها على سريرها ونامت وبكاؤها يدفئ جسدها النحيل، بعد دقائق دخل فيصل الي غرفتهما وجد عائشة غارقة في نومتها الملائكية، وتسائل بسره: ما الذي يجعلها تنام بهذه الطمأنينة وعندها شخص لا يؤتمن على نفسه من نفسه؟ شخص يهب عقله لمسكّنات أفيونيه المفعول؟
كان شعرها البرتقالي مجعد قليلاً وكانت ترتدي ملائة من الستان بلون وردي غامق وتضع يدها أسفل خدّها، وقف يمتع نظره بجمالها الساحر كانت كأنها بعمر الحيوية مثلما رآها أول مرة، ثم داهمته الذكريات أيضاً كيف وهو شاب عشريني ذهب إلى بيت أبو عائشة وطرق باب منزلهم وعقله كان مشوشاً، لم يجهّز جمل مرتبة للحديث معه، ولا يعرف كيف يبدأ الحوار حيث أنه لا يعمل ولا يملك شيء إلا الحب، كان جميل الوجه يرتدي بدلة سوداء باهتة قديمة لا يملك سواها وأخرى جديدة خبأها ليوم الزواج، في جيبه علبة حديدة صدئة تحوي على أوراق السجائر البيضاء الصغيرة وكيس صغير فيه كمية من شعيرات الدخان، فتح له أبو عائشة الباب: تفضل
بصوت يرتجف قليلاً قال: أتسمح لي بالدخول وشرب شاي التفاح معك والتحدث قليلاً.
شاي التفاح هو أحد عادات القرية شيوعاً وأهم مشروب يقدم للضيف في القرية.
– تفضل، أهلاً بك
أفسح له المجال للدخول وبدت على ملامح أبو عائشة الاستغراب والدهشة والحيرة، نزل به الى سلم خشبي أسفل الصالون على بعد ٤ أمتار من باب المنزل وصولاً الى سرداباً
يحتوي على مكتبة مليئة بالكتب والروايات القديمة فيها أريكة مزدوجة بلون القهوة من الجلد اللامع ومقابلها أريكة منفردة كذلك، عادةً ما يستضيف أبو عائشة الضيوف الرجال في المكتبة، لأنه يعتبرها ساترة عن أهل بيته من النساء، أشار إليه أن يتفضل بالجلوس أشعل غليونه وطلب بإشارة من فيصل يشاركه الدخان، خجل فيصل أن يفصح عن علبته الحديدية الصدأة، اكتفى بالجلوس واضعاً رجلاً على رجل، تمعّن فيصل بأبو عائشة وهو يعبئ غليونه بالنيكوتين ويشعله وفي وجدانه جمهور من الأفكار المختلطة، هل يباشر له بالحديث ويطلب الزواج من ابنته أم هل سيشتمه هذا الرجل ويطرده من بيته؟ أم أنه لن يوافق على رجل مثله؟ بماذا سيبدأ حديثه مع رجل حكيم، صارم، متوقّد الذكاء، لمّاح، ذو هيئة حسنة يبدو عليه صغر السن بالنسبة لعمره الخمسيني أشيب الرأس ولا يملك لحية، ألقى أبو عائشة نظرة خاطفة على فيصل وأدرك أن هذا الشاب في حيرة من أمرٍ ما، أخذ يستل بالدخان من غليونه.
– تفضل ماذا لديك؟
– اسمي فيصل ابن عوّاد من عائلة بني صالح، عمري ٢٠ عام
-أهلاً بك
بتوتر بدأ فيصل: سأسألك سؤال
– اسأل
-ما قولك عن الحب!
– رفع بصره أبو عائشة متعجباً، وقال: لماذا هذا السؤال؟
– أريد معرفة مفهوم الحب من وجهة نظرك فقط، أحب أن أسمع من كبار العمر بأمور مختلفة عن الحياة كثيراً
وبعد تنهيدة عميقة أجاب: الحب يخسرك الكثير من المشاعر، يطفئ وهجاً في حواسك، يجعلك جسد بلا روح، يرغمك على بناء سجناً لك بيديك، يجعلك تعيساً، تتجرد من كبرياءك ومشاعرك لأنثى!
تحبس هذه الأنثى قلبك وتجعله لا ينبض إلا بأمرها، لا تستطيع التنفس فتتحكم بك أكثر فتقترب من الموت أكثر، تموت بداخلك مشاعر الحب فتتحول فيها لشخص آخر شخص لا تحبه أنت ولا تفضله أنت، تُجبر على التحول من الحب للكره، والرغبة للفتور، والنجاح للفشل، والقوة للضعف، تحاصر بالجوع والعطش والذل والتعاسة وتحاط بالمشاكل والعقبات والضغوط، الحب كالحلم يمزقك الى أشلاء مشتتة، كالسراب تركض تلهث وراء الوهم.
ثم تحدثا بأمور عادية وصمتا لحظات أكملا فيها شرب الشاي وطلب فيصل الأذن للمغادرة، غادر فيصل الى بيته جلس على كرسيه الهزاز وبدأ يسحب الدخان ويهز بجسده المثقل بالأفكار ومراجعة لمحتوى اللقاء مع أبو حبيبته وأكثر ما يتردد في عقله ” الحب كالحلم يمزقك الى أشلاء مشتتة، كالسراب تركض تلهث وراء الوهم”.
وصار يحدّث نفسه كالصريع: كيف يتجرأ الحب والتفكير بالزواج وجدران بيته الموروث من أبيه متآكلة والأرائك القديمة مهترئة! كان يعلم بأنها تستحق الأفضل، فأصلح بعض التصليحات في البيت وأصبح جميلاً جاهزاً يليق بعائشة، وذهب لأبيها مرةً أخرى وطلبها ثم تزوجا، ثم اجتاحته ذكرى أول موقف اخذ به إلى رحلة الإدمان عندما نشب بينه وبين زوجته الخلاف الأول وصاحت به عائشة لأن يعمل، أثبت لها بأنها يحاول دائماً لكن لم ينجح بالوصول إلى عمل، تصاعد الصراخ والاحتدام بينهم إلى أن رفع يده على عائشة للمرة الأولى، فذهبت عائشة لبيت والدها حزينة لضربها وجلست فترة لا تريد الرجوع إليه، أسأمه هذا الحال واعتذر منها كثيراً لكنها كانت عنيدة وأمام قرار صارم بعدم العودة للبيت غضب فيصل وشعر بأنه قام بتعريه كبريائه أمام الفتاة الصغيرة وأنها تتحكم به، الأمر الذي حدا به لتركها في بيت والدها وتعاطي أول مراحل المخدرات، وبعد فترة جلب والد عائشة ابنته إلى زوجها بعد ما أفشل فيصل محاولته إرضاؤها، ومن هنا بدأت رحلته في حياته المستحدثة في التحول لشخصٍ آخر لا يحبه هو ولا يفضله
في ليلة زواج ميساء تذكر فيصل هذا كله بتفاصيله الصغيرة، لكن شيء ما تحرك بفيصل كأنه أحس بالندم على معاملته القاسية لزوجته التي تستحق الحب والدلال لا للعداوة والانتقامات هذه ليرضي فيها كبرياؤه، عاهد نفسه على عزم ترك العادات السيئة ثم اقترب منها وقبلها من رأسها وأغمض عينيه ونام بجانبها.
في الصباح وقبل الشروق تسلل فيصل وخرج من المنزل وعاد في وقت الفطور ومعه كيساً فيه سمك طازج طلب منها لتعد طبق السمك على الغداء بطريقة جديدة مهذبة لم تعتاد عليها عائشة بعدما كانت نبرته جافة معها سنوات طوال، لم تتذكر عائشة في أي سنة تناولت السمك أو اللحم كانت معظم وجبات الغداء خالية من اللحوم في حين أمواله تذهب للمسكرات، سَعدت عائشة سعادة أعادت لها الحياة أحست بتغيير فيصل بشكل كبير في يوم واحد فقط!
كانتهاء تعويذة ساحرة شريرة في رمقة عين أعادت الحياة لمجراها الصحيح، بدأت بمسامحته بعد أن رأت جزءاً من التغيير ومسح ما مضى عليها من ذل وتجريح، لكأنها تريد أن تعمي أبصارها عما مضى.
بعد مرور أشهر على تغيّر حال فيصل في لجم نفسه عن تعاطي العقارات بدأت امطار الشتاء بالتساقط وفي ليلةٍ ثلجيةٍ عاصفة تدفقت مياه الأمطار عبر سقف البيت وتسربت من خلال الجدران المتآكلة الى الداخل.
فصرخت عائشة به بعصبية ليجد حلّ للمشكلة فوقع خلاف بينهم فقالت له عائشة وهي تصرخ: أما حان الوقت لتجد عمل حقيقي! لنبني بيت جديد أفضل من هذا البيت التقليدي العتيق!
ظل فيصل صامتاً..
أضافت: أما رأيت أنه يكفينا من الفقر ما عشناه، والذل من عوارض الشتاء كل عام، ألم تحلم للعيش بمكان آمن وتأمين حياة مرفهة لنا!
فأجاب ببرود: أرجو منك أن تريحي عقلك عن هذه الأمور، ما شأنك بهذه الأمور فأنا تعجبني هذه الحياة كثيراً، ولا أشعر بوجود نقص ولا تتحدثي بهذه التفاهات ثانيةً.
باعتراض قالت: هذا الأمر ليس بتفاهة، التفاهة تكمن في الجلوس وعدم السعي للرزق!
– لا تتحدثي بمواضيع انت لا تفهمينها، اتركيني وشأني.
-قلبي لم يعد يحتمل هذا الحال، لا أريد منك شيئاً سوى أن تعمل، أيعجبك حال المنزل الآن أم يعجبك الجلوس في البيت كالنساء.
تعصب فيصل فقام يضربها ثم تركها تبكي وتندب حظها طريحة الأرض بشعرها البرتقالي المنكوش، يترصّع خدها بألوان قوس القزح، كيف تمردت على هذا الرجل الصلب وجرحت رجولته بوصفه “كالنساء” أغضبته بهذه الكلمة، وأشعرته بالتعالي، لكنّها ظنت أنه تغير! ألم تكن محقة في حدسها؟ أم أن الذي دفع فيصل لضربها لتمردها على رجولته فأراد تأديبها كي يصون كرامته!
قبل أن يخرج من المنزل صرخ عليها بشدة: لا أريد رؤيتك في منزلي الذي لا يعجبكِ، اذهبي أنتِ وأبنك لا أريدكما في حياتي بعد الآن
خرج من منزله حزيناً، مسرعاً، يدخن بشراهة، جلس إلى شجرة تفاح ضخمة منهاراً يتكئ على جذعها والمطر يهلُّ عليه كالودق بكى بكاءً شديداً وناح كالنساء كما قضى عمر شبابه جالساً كالنساء في المنزل ينتظر بقدوم العمل دون سعيه له ،في الحقيقة عائشة لم تخطئ بوصفها وهو يعلم بتقصيره، وكان أكثر ما يبكيه هو كلماته الأخيرة التي نطقها في وجهها مثل لسعة الأفعى التي ما أن أفرغت سمّها كفيلة أن تنهي حياة أي مخلوق حي بلحظة، وخاصة بعدما عزم على التغيير، فصار يضرب قدمه ورأسه بجذع الشجرة دون شعور أو وعي ربما كان يضرب شخصه السيء الذي لا يحبه ولا يفضله والذي حذره منه أبو عائشة مسبقاً، سقط على الأرض بعد انهياره مغشياً عليه، وبعد مرور أربعين دقيقة رآه أحد المارّة فحمله وذهب به الى غرفة الطبيب في القرية كانت عائشة قد ذهبت إلى منزل والدها المتوفي مع محمد وكانت امها كبيرة السن تنازع الموت فوضعت محمد عند ابنتها ميساء منتفخة البطن وذهبت بأمها الى الطبيب أيضاً ووجهها مرصّع بالكدمات، دلفت تسير الى ساحة المستوصف بخيبة عارمة وأمام انهزام مشاعرها وسط الأحداث السيئة المتوالية على عقلها، رآها فيصل من نافذة غرفة معاينته الصحيّة كان يناظرها وهي منكسرة تبكي بحرقة، ثم انهارت متعبة من ألم جسدها وألم قلبها وتساؤلاتها الجمّة، اتكأت على جذع شجرة وتهاوى فوق رأسها حبات الثلج مثل أزهار أشجار اللوز البيضاء تربت على كتفيها لتواسيها.
وبعد اشتداد نزول المطر وهطول أمطار غزيرة على رأس عائشة نزل يتجه صوب عائشة وهي غارقة في مستنقع أحزانها وقال: عائشة!
رفعت رأسها منذهلة عندما رأته يستند بيده عكازاً ويلتف على قدمه من أسفل الركبة الى الكاحل لفائف بيضاء صلبة وطبعة من الشاش على جبهته، لوهلة، نسيت ما قاله لها قبل ساعات وصفعاته التي لونت وجهها بريشة فنان يحترف التعذيب والإهانة فسألته بلهفة وفزع: ما هذا الحال ماذا حصل!!
بمراوغة قال: لا شيء يهم تزحلقت بسيل الأمطار فحسب.
وابتعدت تريد أن تذهب لرؤية أمها، استوقفها فيصل مندهشاً: عائشة!! أين انتِ ذاهبة؟!
بعد شرود قليل عادت خطوة الى الوراء وقالت له: جلبت امي الى هنا انها تحتضر تقاتل الموت.
– ألف لا بأس عليها.
تنهدت وقالت بإحباط: يا رب، مع السلامة
– لحظة.
نظر في عيني عائشة وقال بارتباك: أنا آسف.
قالت بتهكّم وابتسامة ماكرة: حقاً؟
– كان كلاماً خرج مني بدون قصد، زلة لسان ليست نابعة من قلبي لم أقصد.
– اووه ادهشتني ألديك قلب مثلنا؟!
– قلت لك آسف لم أقصد ماذا افعل ايضاً!
قالت وقد امتلأت محجر عيناها بالدموع: بل أنا آسف لنفسي لأني اخطأت في حقي كثيراً ورضيت اكمال حياتي معك بإهانة وعنف، آسف لنفسي لأني اكملت هذا الطريق لأجل اطفالنا ورسمت حدود سعادتهم في بيتنا مقابل تحطمّ مشاعري وانهيار كرامتي، آسف لنفسي لأني اسقيت الجميع ابحراً من الحب والحنان مقابل عطشي لها وآسف لنفسي التي احدثها كل ليلة بأنك ستتغير يوماً، فما عدت أصدق نفسي ولا كلماتي بأنك سوف تمنحني شعوراً يشعرني أنك آسف على الخراب الذي بنيته بداخلي.
ورحلت عنه تاركة سلاسل من الحروف تنهار فوق رأس فيصل كانهيار جدار داعم تصدّع وخسف بسرعة وفجأة، وقف فيصل عاجزاً لم يحرك ساكناً وسط هجوم مشاعر الندم والوحدة والضياع، وحلّت به انتفاضة شديدة على إثرها غرق في بكائه حائراً مصدوماً من عائشة وكلماتها التي سقطت كزخات المطر الغزيرة فوق رأسه وعلم أن كلمة آسف لا تكفي لاعتذار حقيقي لعائشة وهي مجرد أحرف نطقها ولا يعقل مضمونها كلمة باردة كالصقيع من رجل أخطأ في حقها كثيراً ثم؟ هل كلمة من أربعة حروف تداوي الجروح؟ هل تعود المياه الى مجاريها عندما تقال؟ انتزاع آلة حادّة من الجسد أصعب وأوجع بكثير من اختراقها وضرب الكلام الجارح أقوى من ضرب الرماح، لذلك هدأ فيصل وحاول أن يفكر كيف يتقن فن الاعتذار لزوجته.
في مساء اليوم التالي بكت عائشة بكاءً هستيرياً، بكاء الفقد فقدت أمها، فلن يكون لها ملجأً تواسي مآسيها، رحيل امها أطفأ أنوار سعادة بداخلها التي كانت السد المنيع لعائشة تتحامى به عند العثرات وكأن الظلام خيم على رأسها، وبين زحام الخيبات وبمنتهى الهدوء فوضت أمرها لربها، جلست وحيدة غارقة في مستنقع أفكار متخبطة، تنتابها مشاعر معقدة ومؤلمة وتنتشر في عقلها ذكريات كثيرة، ثم نامت عائشة وحيدة تحتضن نفسها بيديها بردائها الأسود وحدثت نفسها بكل رضا وقالت: هذا الوقت سيمضي، وسيعوضني الله عن كل شيء سيء مررت به.
بعد أسبوعين طرق باب منزل والد عائشة صباحاً حيث ما زالت فيه عائشة ففتحت الباب وبدهشة قالت:
– ميساء! ما بك؟ خالد ماذا حدث؟.
قالت ميساء وهي تلهث: أظن أني على وشك استقبال طفلي يا أمي، ما شدة هذا الألم!؟
– هيا هيا الى الموّلدة لنرى.
أنجبت ميساء ولد، حملت عائشة حفيدها الذي قام بترقيتها لمنصب الجدة وقبلته برقة وهنئت والديه به وتمنت له العافية والسعادة الأبديتين
قال لها خالد: أأخبر عمي فيصل يا خالتي؟
أعادت الطفل الى سريره، ثم قالت: نعم بالطبع، هذا حقه أيضاً أن يرى حفيده وابنته ويهنئهما بالسلامة.
– سأذهب وأحضره إذاً.
ذهب خالد وعاد دون أن يجد فيصل ببيته، لم تهتم عائشة وخرجت تذهب الى بيت والديها فوجئت بفيصل ينتظرها عند
الباب، وقفت مذهولة، لم تتوقع من فيصل هذا السيناريو كان ما زال يتكئ على عكازه.
فقالت له: فيصل!! ماذا تفعل هنا.
أجاب: أنتِ زوجتي وأريد منك أن تعودي معي الى منزلنا، هيا
– الى المنزل الذي طردت منه!
قال بخجل وعيناه تلمعان: يا سيدة الرقي والرقة، يا زهرة البيت أنا متأسف حقاً، أعدك أني سوف أتغير، ولن أعود لعاداتي القديمة، لن أشتمك ولا أضربك واشريتُ الآن منزلاً جديداً وأرضاً أزرعها بالمحاصيل وسنبيع ما تنتجه أرضنا معاً، كما صبرتِ على أذايَ سوف أعوضكِ، أعدكِ، كان لدي بعضَ المال خبأته للكبر منذ ورثت أبي وأدركت أنه لا قيمة للمال إذا بقيَ على حاله، فلأجلكِ أنفقته، ثم ركع فيصل على قدمه وهو يتألم وأخرج خاتماً ألماسياً ذو حجرة تشبه الكمثرى وقال لها: ملكتي، أتقبلين أن تزيني بيتنا الجديد بشذاكِ؟
قالت له بأسف وحزم بعد أن ضمت شفتيها: لا يا فيصل لا، لن أعود حتى تتعالج تماماً من إدمانك ومن كل عاداتك المريعة، لم يبقَ لي شيء أخسره بعد الآن ولستُ آسفة لن أعود طالما يجري السم بجسدك مجرى الدم.
مد يده إليها وقال: أنتِ ترياقي وبلسمي إذاً، هيا…
الكاتبة ختام محمد حماد