نستكشف في هذه المقالة حكاية الكنز الموجود-المفقود المسمّى الغاز الطبيعيّ في بحر لبنان، ونسترجع بعض المحطات التي ترافقت مع عمليّة إطلاق العنان لاستكشاف واستخراج الغاز في لبنان، مستعرضين المسيرة السلحفاتيّة لعمليّات البدء بالعثور على الثّروة النفطيّة الهائلة المُحْكى عنها والمأمول بها.
محطة تاريخية
بدأ الاهتمام بمسألة النّفط والغاز في لبنان، منذ عهد الإنتداب الفرنسيّ، حين أصدر المفوّض السّامي الفرنسيّ هنري دو جوفنيل في العام 1926 تصريحًا أجاز فيه التّنْقيب عن مناجم النّفط والمعادن واستثمارها واستخراجها، فأُجْريَت العديد من الدّراسات لمعرفة وجود ثروات معدنيّة وغازيّة في لبنان، أبرزها الدّراسة التي أعدّها الباحث الفرنسيّ لويس دوبرتريه في العام 1932، ودراسة أخرى أجراها الجيولوجي الأميركي جورج رونوراد في العام 1955توَقّع فيها وجود نفط في لبنان.
ويمكن القول إن التّنقيب عن النّفط في الاراضي اللبنانيّة، بدأ للمرّة الأولى في مرحلة حمّى النّفط في منطقة شبه الجزيرة العربيّة. وفي هذا السّياق بدأت الدّراسات الفعليّة الاجرائية في أواسط الأربعينات من القرن الماضي، حيث تمّ حفر الآبار الأولى في لبنان، ما بين أواسط الأربعينات حتى أواسط الخمسينات، وتمّ في تلك المرحلة حفْر سبعة آبار عميقة، إلاّ أنّ هذه الآبار، وإنْ أعطت بعض الدّلائل النّفطية، لم تكن حاسمة. لذا، لا يمكن اليوم التكهُّن بمعطيات تلك الآبار، إلاّ أنّه يُستَند إليها كمرجع، أمّا معطياتها الماديّة، فلا أثر لها، وبالتّالي لا يمكن مراجعتها وإعادة قراءة تقاريرها الخاصّة.
والجدير ذكره أنّه في العام 1946 قامت “شركة نفط العراق” بأعمال الحفر في منطقة “جبل تربل” في شمالي لبنان، وبعد بضعة أعوام، تمّ حفر آبار أخرى في منطقة يُحْمُر في البقاع الغربي.
وقامت شركة ألمانية في حقبة الستيّنات، بحفر بئر لمصلحة الشّركة ذاتها، في منطقة عدلون، فيما عمدت شركة إيطاليّة إلى حفر بئريْن في سُحمر وتلّ زنوب في (البقاع)، كما في عبرين شرق البترون. إلاّ أنّ الضّغوط السياسيّة وظروف الحرب الأهليّة ومرور الزّمن وصعوبة إكتشاف مكامن الغاز والنّفط، كلّها عوامل أخّرت عمليتيّ التّنقيب والبحث.
وفي سياق متصل، أشار الخبير الجيولوجي اللبناني الراحل غسّان قانصو إلى وجود كميّات مهمة من النّفط ،لا سيّما في المناطق الواقعة بين البترون وطرابلس في المياه الإقليميّة اللبنانيّة. فيما ظلّ بعض الخبراء اللبنانيين يحثّون الدّولة على التحرّك لاكتشاف الثروة النفطيّة، حتّى تعاقدت الحكومة اللبنانيّة في مطلع العام 2000 مع “شركة سبكتروم”الإنكليزية، فقامت الأخيرة بإجراء مسح ثنائيّ الأبعاد، غطّى كامل السّاحل اللبناني، حيث أشار تقرير الشّركة، آنذاك، إلى احتمال فعليّ لوجود النّفط والغاز.
محاولات ولكن
طرح خبراء النّفط اللبنانيّون، منذ أعوام عديدة، تقديرات حول وجود النّفط في لبنان. فمنهم منْ أشّرَ إلى وجود هذا النّفط في مطلع القرن العشرين في البقاع اللبنانيّ حيث كانت هناك مقالع للإسفلت في العشرينات تُستخرج منه زيوت نفْطيّة.
وأشارت تقارير بعض الخبراء اللبنانييّن إلى دراسات بحْريّة قديمة، تعود إلى حقبة التّسعينات من القرن الماضي، وقد جرت في شمالي لبنان قبالة طرابلس، لكنّ هذه الدّراسات لم تصل إلى مرحلة التنقيب، وذلك بسبب العوائق السياسيّة التي نتجت عن ظروف الحرب اللبنانيّة في منتصف السبعينات لغاية التسعينات من القرن العشرين، وبسبب الإحتلال الإسرائيليّ لمناطق من الجنوب اللبنانيّ، عِلْمًا أنّ هذه الأبحاث البحْريّة إستمرّت حتى العام2000. أمّا اليوم، فإنّ الظروف تغيّرت في لبنان وأصبحت مؤاتية من النّاحية السياسيّة والأمنيّة، إلاّ أنّ لبنانَ في واقع الحال، تنقصه الخبرات البشريّة، إذْ إنَّ معظم الجيولوجييّن وأصحاب هذا الإختصاص يعملون في الخارج لدى شركات أجنبيّة كبرى.
محطة حديثة
كان ذلك في العام 2012 حين وقف وزير الطّاقة والموارد اللبنانيّة، آنذاك، النّائب جبران باسيل على متن باخرة راسية على بُعد مائة وعشرين كلم، جنوبي غربي سّاحل بيروت، مُعلنًا أنّ “المسْحَ الزِّلزالي ثلاثيَّ الأبعاد، كشف بأنّ المياهَ الجنوبيّة للبلاد، تحتوي على إثنيّ عشر تريليون قدَم مكعّبة من الغاز الطبيعيّ، وصرّح قائلًا: “نحن الآن، فوق مكْمَن غازيّ كبير، تقديراته الأولى تمتدّ على مساحة ثلاثة آلاف كيلومتر مربّع، وهو لا يقع ضمن المياه المتنازَع حولها مع الكيان الصهيونيّ الغاصب والبالغة مساحتها ثمانمائة وخمسين كيلومترا مربّعًا. وهذه الكميّة المكتشفَة، تكفي لتلبية إحتياجات محطّات الكهرباء في لبنان لمدّة تسعة وتسعين عامًا، وذلك فقط من مكْمن غازيّ واحد”.
جذب هذا الإكتشاف إهتمام الشرّكات العالمية، حيث اشترت سبعة وعشرون شركة عالميّة، معلومات هذا المسْح الزِّلزاليّ في المياه الساحليّة اللبنانيّة بملايين الدّولارات، وأبدت إهتمامَها بالتّنقيب عن هذا الغاز شركة “كيرن إنرجي” البريطانيّة، وشركة “غينل إنرجي” المدرَجة في بورصة لندن.
والجدير ذكره، أنّ أغلب هذه الشّركات العالميّة، فضّلت لبنان على “الكيان الإسرائيليّ المحتلّ”، وذلك لأسباب عدّة، أهمّها موقع لبنان التّجاري، الذي هو أفضل بكثير من الدّول المحيطة به. من هنا كان ينبغي للسّلطة اللبنانية الإسراع في استخراج الثّروة الغازيّة، لأنّ أوراق لبنان أقوى من أوراق العدّو الصهيونيّ، وقدرته التّنافسيّة أفضل. أمّا “الكيان الإسرائيليّ المحتلّ ” فتواجهه صعوبات في بيع الغاز، فضلًا عن مكابدته كلفة نقله العالية، وذلك بعكس لبنان، الذي يتمتّع بحدود مفتوحة على دول العالم العربيّ.
لا شكّ في أنّ التنقيب عن الغاز في المياه الإقليميّة للبنان، لم يكن ليخلو من الصّعوبات، فعُمق البحر يناهز ألفين ومائة وخمسين متًرا، ممّا يجعل عمليّات الإستخراج صعبة وتتطلّب وقتًا. ويأمل لبنان أن تساعد إكتشافات الغاز الضّخمة في معالجة ارتفاع مستوى الدّيْن العام، والنّقص المزمن في الطّاقة الكهربائيّة وتخطي الحالة السلحفاتيّة لعملية الاستخراج هذه. علمًا أنّ بعض الأوساط الإقتصاديّة أرجعتْ حالة البطء الرسميّ، حيال هذا الملف الحيويّ، إلى عدة أسباب أبرزها الإنقسام السياسيّ وغياب الدّراسات العلميّة الموثّقة عن مشاريع الاستكشاف.
التّقسيم العلميّ
لبنان، إذًا، شهد منذ أكثر من عشرة أعوام، مراحل عدة للمسح الجيولوجيّ طاولت المياه اللبنانيّة الإقليمية. وقد شرح بعض المستشارين في الشؤون النفطيّة، مراحل المسح الجيولوجي للشركة النروجيّة “بي.جي.سي” (بتروليوم جيو سرفيس)، وأشاروا إلى أنّ الشركة أنجزت عمليّة مسح جيوفيزيائي ثنائيّ وثلاثيّ الأبعاد، باستعمالها أحدث الوسائل التقنيّة المتّبعة دُوليًّا، في عمليّات المسح البحرّي، حيث تبيّن بالدّليل العلميّ، ظهور نتائج إيجابيّة جدًّا، من حيث الوفرة في مادتيّْ الغاز و/أو النّفط الخام، أو كليْهما معًا، في المياه الإقليمية اللبنانيّة والمنطقة الإقتصادية الخالصة العائدة إلى الولاية القضائيّة اللبنانية. ولفت المستشارون إلى أنَّ هذه النّتائج، إضافةً إلى ما تمَّ اكتشافه علميًّا في شمال فلسطين، إكتسبت صدقيّة مهمّة، واستقطبت إهتمامًا دوليًّا واسعًا من قِبل الشّركات العالميّة الكبرى.
ووفقا لتقنية هذه النتائج، ثبت أنّ المناطق الواقعة خارج الحدود الإقليمية، أي معظم المناطق الواعدة، هي في المنطقة الإقتصادية الخالصة التي تصل بين لبنان وقبرص، وقد تمَّ إتّفاق مبدئيّ على تقسيم هذه المناطق، أي بنسبة خمسين بالمائة لكلّ بلد، فالمسافة بين لبنان وقبرص كمعدّل عام، هي في حدود مائة وخمسة وعشرين ميلًا بحريًّا، وفي المحصّلة فإنّ للبنان أنْ ينقِّبَ ويستكشف في حدود ستّين ميلًا بحريّا. فإذا كان هناك من مكامن مشتركة بين البلدين، على الخطّ الفاصل، تُستثمر ويتمّ تقاسمُها، تِبْعًا لنسبة وجودها في الدّاخل اللبنانيّ أو في الدّاخل القبرصيّ. وهذه العمليّة يحكمها ما يُسمّى قانون البحار، الذي أقرّته الأمم المتّحدة في الثّمانينات، ممّا يعني أنَّ المياه اللبنانيّة من الشّمال إلى الجنوب، هي مناطق واعدة جدًّا، حيث أنَّ قعر البحر على امتداد السّواحل اللبنانية، يتضمّن طبقة مالحة.
ويرى خبراء النفط أنّ نتائج البحوث التي قدّمت مؤشِّرًا علميًّا لحتميّة وجود الهايدروكربون، ناهيكم عن القيمة المضافة، التي أعطتها الإكتشافات في شمال فلسطين، والتي تتمتّع بالجيولوجيا نفسها التي في لبنان وقبرص. كلّ ذلك، ومع التطابق الجيولوجيّ والإمتداد الجغرافيّ الواحد لهذه المنطقة، يؤكّد أنّه ما دام الهايدروكربون موجودًا في شمال فلسطين، فإنّه موجود في لبنان.
لقد عاش لبنان مرحلة تأكيد علمي، لكنَّ الإنتاج يحتاج إلى عمليّة حفر واستكشاف قاع البحر أو ما تحته، على عمق أربعة آلاف متر تحت سطح البحر، لأنّ معدّل المناطق التي سيتمّ الحفر فيها يتراوح بين ثلاثة وخمسة آلاف متر.
من هنا، كان ينبغي للدّولة اللبنانية، أنْ تبدأ بالتنقيب عن النّفط، في أماكن لا خلاف عليها مع العدّو الإسرائيلي، وأنْ تُنقّب قبالة شواطئ بيروت، وكان ينبغي للمسؤولين أنْ يتحرّكوا لتسهيل إجراءات التنْقيب ضمن مياه لبنان الإقليمية، وألاّ ينتظروا قانون التّنقيب عن النّفط، لتحديد مياهه الإقتصادية، بل ينبغي لهم تحقيق الموازاة بين الأمريْن، فعندما يحدِّد لبنان مياهَه الإقتصادية، تسهل عليه المطالبة بحقول الغاز الخاصّة به.
ويمكن القول إنّ ما قامت به الحكومة الإسرائيليّة في سياق التّنقيب عن الغاز، يمكن أنْ يكون لمصلحة لبنان، وفْق ما ذهب إليه بعض الخبراء، خاصّةً وأنَّ موقف لبنان في هذا الجانب، أقوى من موقف الدّولة الإسرائيليّة المحتلّة، بما خصَّ موقع التّفاوض معَ الشركات العالميّة، فقد أصبح لبحر لبنان قيمة إقتصادية تتنافس عليها الشّركات الكبرى، وهذا ما لفتتْ إليه الحكومة الإسرائيليّة، على لسان مسؤوليها، حين أشاروا إلى “أنّهم أيقظوا قضيّة النّفط من الأعماق، فأتى لبنان يجْني ثمَارها”.
مرسومان مهمّان
وكانت الحكومة اللبنانيّة قد أقرّت مرسوميْن مهمّين، من أجل تحديد الكتل وآليات التّنقيب عن النّفط والغاز، وهو ما يعني أنّ عمليّة المناقصة للإحتياطات البحريّة المتوقِّفة منذ العام 2013 ، يمكن أنْ تنطلقَ من جديد. ويُذكَر أنّ الحكومة اللبنانيّة أطلقتْ في شهر شباط فبراير من العام إيّاه وللمّرة الأولى في تاريخ لبنان، جولة ترخيص للشّركات الرّاغبة بالمشاركة في التّنقيب عن النّفط مُقابل السّواحل اللبنانيّة، حيث كان يتعيّن على الشّركات الرّاغبة بالمشاركة في مناقصات التّنْقيب وأخْذ تراخيص الإنتاج مُقابل السّواحل اللبنانيّة، أنْ تقدّمَ رِزَم ما قبل الّتأْهيل الخاصّة بها . وقد اختار لبنان إنتهاج عمليّة ترقى إلى مستوى الشفافيّة في التّعامل مع البلوكّات النّفطيّة البحْرّية، على عكس عدد من الدّول النامية الأخرى التي قد تعتمد وسائل أقلّ شفافية، مثل المفاوضات المباشرة أو منْحِ العقود على قاعدة «مَنْ يصل أوّلاً». إذْ تُشجِّع هذه الطريقة الثّانية، حصول الأنشطة الريْعيّة والفَساد، لأنّ معايير منْح العقود غير محددّة، ولا يعرفها المستثمرون على نحو مُسْبَق، فتصبح التّراخيص عرضة للمحسوبيّات والفاسدين. ومن شأن المناقصة التّنافسيّة، إنْ صُمِّمت ونُفِّذت على النّحو الصّحيح، أنْ تُشجِّع الشّركات المؤّهلة ماليًّا وتقنيًّا، على تقديم الشّروط الأفضل، أي (المجازفة الأعلى) إلى الحكومة المضيفة للحصول على حقول النّفط والإنتاج.
وإزاء هذا العمل التمهيديّ الإجرائيّ، الذي تحقّق بصدور هذين المرسوميْن، فإنّ الأمل كاد يصبح بمتناول اليد، إلّا أنّ بعضَ الخبراء اللبنانييّن، إستبعدوا أن يتحقّق حلم النّفط في لبنان، قبل العام 2020،( يا لخيبة هذا الامل ونحن نودّع اليوم سنة 2024 بحرب كارثية يشهدها لبنان) لكنّهم في الوقت عينه، أكّدوا أنّ الغاز الطبيعيّ هو أمل الشعب اللبنانيّ بالنهضة الإقتصادية الكبرى. فالنّفط هو خشبة خلاص هذا البلد الخدماتي العاجز إقتصاديًّا، الذي يعيش دومًا في غرفة إنعاش سياسيّة- إجتماعيّة، قائمة على الدّيون من البلدان الصّديقة، ليرزح إقتصاده في عجز يتزايد ويتضاعف، دون أي أمل في حل قريب جذريّ.
من هنا، فإنّ الذَّهَبَ الأسود الموجود بكميّات كبيرة في منطقة الشمال اللبناني، وخصوصًا في منطقة جبل تربل، والشاطئ الممتدّ من المنية إلى جزيرة النّخيل في طرابلس، هو الذي سينقذ البلد وينعش مستقبل المواطنين بالعيش فيه.
وتجدر الإشارة، إلى أنّ شركة “جي أي أس” النّروجيّة ومن خلال قيامها بمسح ثلاثيّ الأبعاد في الموقع الشماليّ نفسه، كانت أكّدتْ أنّ أكبر الكميّات النفْطيّة الغازيّة،موجودة في الشّمال مقابل ساحل العبْدة.
أرقام وأرباح
” لبنان بلد مُنْتِج للغاز”؟ الأمر لم يعد “مزحة”، لكنه لم يصبح واقعا. فأين أضحت التأكيدات بوجود مخزونات جوفيّة كبيرة من الغاز الطبيعيّ، في المياه اللبنانية الإقليميّة، بما يؤمِّن تغطية حاجات لبنان على مدى ربع قرن، كحدٍّ أدْنى؟ وماذا عن الدّراسات العلميّة المنْجَزة التي خلصت إليها بعض الشّركات العالميّة والتي حدَّدتْ مواقع عدّة في محاذاة السّاحل اللبناني، تحتوي على كميّات مؤكّدة من الغاز الطبيعيّ، وتبلغ نحو خمسة وعشرين تريليون قدم مُكعّب على الأقل، وثمانين تريليون على الأكثر، ومليارا ونصف مليار برميلٍ من النّفط الخام، إذا ما تأكّد وجود هذا الأخير؟ ولماذا تمّت عرقلة مسيرة التنقيب عن الغاز الطبيعي في بحر لبنان والعثور على مكامن هذا الكنز ؟
نقول الكنز،لأنه ووفْق حساب الخبراء، فإنّ كلّ تريليون قدم مُكعّب، تُقدّر قيمتُه بنحو إثني عشر مليار دولار، فإذا كان نصيب لبنان من الغاز خمسة وعشرين تريليونا، فإنّ ثروتَه تُقدّر بنحو ثلاثمائة مليار دولار، أمّا إذا كانت الكميّة ثمانين تريليونا، فالتّقْديرات تقترب من مبلغ التّسعمائة والستّين مليارًا. بالإضافة الى ذلك، فإنّ كلّ تريليون قدم مُكَعّب من الغاز، يغطّي إنتاج خمسة آلاف ميغاواط من الكهرباء، وبالتّالي فإنّ لبنان بسبب خوقعه على حوض البحر المتوسط، يمكنه التّخطيط لكي يصبح مصْدرًا للطّاقة الكهربائيّة في المنطقة، من خلال شبكات الرّبط التي ينتمي إليها.
لا شك في أنَّ اكتشافَ الغاز في المياه الإقليميّة اللبنانيّة، سيكون حَدثًا بحد ذاته، ولكنَّ أهميّةَ هذا الإكتشاف، تزداد بربطه بقطاعات أخرى واعدة، والتي يمكن أنْ تساهم في تحقيق ما يُسمّى التنْمية المستدَامة التي يتوق إليها اللبنانيّون منذ زمن بعيد. فوزارة الطاقة والمياه، على سبيل المثال، وضعتْ خطّة طموحة، تقتضي بناء بنيَة تحتْيّة حديثة، لربط المصانع والمنازل بشبكة غاز داخليّة، وذلك يؤمِّن عنصرًا أساسيًّا من عناصر تحقيق القدرة على المنافسة في الأسواق الخارجيّة، عبر خفض أكلاف الإنتاج، ولا سيَّما في الصّناعات ذات الإستخدام الكثيف للطّاقة. إلى ذلك، فإنَّ إحْلال الغاز تدريجًا، محلَّ مصادر الطّاقة الأخرى، سيخفّف من التلوّث، ويعزّز دور لبنان السّياحيّ ويخفّض أكلافه الصحيّة التي تُعَدّ من الأعلى في العالم.
والجدير ذكره، أنّ وزارة الطّاقة تسعى أيضًا إلى إنشاء محطّات للغاز مُخصّصة لتزويد وسائل النّقل هذه المادّة، في إطار توجُّه يرمي إلى خفض استخدام البنزين والمازوت اللّذين يشكّلان مصدرًا أساسيًّا للتلوُّث في لبنان، فضلًا عن كونهما يستنزفان مبالغ طائلة من الإحتياطات بالعملات الأجنبيّة، بسبب عمليّات الإستيراد المتنامية، وفي ظلّ وجود أكثر من مليونين آليّة في هذا البلد الصّغير.
الرّد اللبناني بالخرائط
وكانت الحكومة اللبنانيّة، قد ردّت على الرسالة الإسرائيليّة المرفوعة إلى الأمم المتحدة ضده، برسالة أرسلتها عبر بعثة لبنان الدائمة في نيويورك، مؤكدةً أنّ “الحكومة اللبنانيّة ترفض المنازعات والتّهديدات الصّادرة من الحكومة الإسرائيليّة ضد لبنان ومياهه وثرواته الطبيعية”. وأفادت الحكومة في رسالتها بأنّ “لوائح الإحداثيّات الجغرافيّة، لترسيم المنطقة الإقتصاديّة الخالصة بين لبنان وفلسطين، أرسلتْها الجمهوريّة اللبنانيّة إلى مكتب الأمين العام، في الرابع عشر من شهر تموز من العام 2010، وفي التاسع عشر من شهر تشرين الأول من العام 2011، وهي تتضمّن أنّ المربّعات رقم ثمانية وتسعة وعشرة موجودة في مناطق يملكها لبنان، مُذكِّرةً بأنَّ لبنان إعترض رسميًّا على إتِّفاق ترسيم الحدود، بين قبرص والكيان الصهيونيّ، في السّابع عشر من كانون الأول من العام 2010، وعلى الإحداثيات الجغرافيّة للحدود الشماليّة للمنطقة الإقتصادية الخالصة التي تدّعي الحكومة الإسرائيلية مُلْكيّتها”. وإذْ أكّد لبنان على أنّ هذه المناطق البحريّة عائدة له، ردّ بالمقابل على التهْديدات الإسرائيليّة، “بتكرار إلتزامه بالقانون الدّولي، وبالتّحديد ببنود معاهدة الأمم المتّحدة لقانون البِحار بشأن ترسيم الحدود البحريّة”. وقد قدّمَ لبنان إعتراضًا أمام الأمم المتّحدة، بعدما وقّعَت الحكومة الإسرائيليّة مع قبرص إتّفاقًا لترسيم الحدود البحريّة في شرق البحر المتوسّط، عقِبَ اكتشاف إحتياطيّات ضّخمة من النّفط والغاز، معتبرًا أنَّ هذا الإتفاق ينتهك سيادته ويُعرّض السِّلْم والأمن في هذه المنطقة للخطر.
ولكن لا شكّ في أنّ هذه السّجالات التي تناولت مسألة قانون التنقيب عن النّفط في البحر، تدفع إلى شيء من الإحباط، ولا سيّما أنّها لم تكن تركّز على المسائل الجوهريّة، أو على الأقل هكذا بدت. فلبنان بحاجة إلى تبنّي الموقف الموحّد ليحفظ خطوات لاحقة قد تستمرّ سنوات قبل أن يبلغَ مرحلة إستخراج الغاز الطبيعيّ، ومن ثمَّ الإستهلاك والتّصدير التّجاري.
لبنان إذًا،أمام ملفّ النّفط الأكثر صعوبة. هذا الملف الذي لم يتحرّك فعليًّا في المنطقة، إلّا بعد إعلان شركة “نوبل للطاقة الأميركية” في الثاني والعشرين من شهر حزيران من العام 2020،مؤكدًة بعد مسوحاتها الثلاثية الأبعاد، ما كانت شركة P.G.S قد اكتشفته، وهو وجود حقل هائل للغاز يسمى “فيتان” ويحوي ما لا يقلّ عن ستة عشر تريليون قدم مكعّب، في منطقة امتياز في البحر المتوسط، وتحديدًا في منطقة تقع قبالة الشواطئ اللبنانية، ضمن منطقة بحرية دوليّة، بين حدود فلسطين البحريّة، وبين قبرص.
ومع إقرار مرسومَيّْ تقسيم البلوكات البحريّة،مؤخّرًا، مِنْ قبَل مجلس الوزراء اللبنانيّ، ومع تحديد نموذج إتّفاقيّة استكشاف النّفط ودفتر الشّروط، وكذلك مع اكتمال المنظومة التشريعيّة والقانونيّة لمتابعة دورة التّراخيص الأولى في المياه البحْريّة اللبنانيّة، لاستكشاف الغاز الطبيعيّ وإنتاجه، فإنّ لبنان اليوم لا تزال أمامه خطوات كبيرة وكثيرة في هذا المضمار، إذْ ينبغي له تحضير ملفّه القانونيّ عبر وزارة الخارجيّة وتقديمه أمام مجلس الأمن في الأمم المتّحدة، لإثبات مياهه الإقليمية والإقتصاديّة وحقوله النَّفْطيّة. وهذا الأمر لن يكون سهلًا، لأنّ لبنان لا يعترف بوجود “دولة اسرائيل” التي تحتلّ فلسطين. وبحسب الخبير في القانون الدوليّ، الدكتور حسن جوني، فغالبًا ما تتّفق الدّول فيما بينها، أمّا عند اختلافها على حدودها، فهي تتوجّه إلى محكمة العدل الدّوليّة، المنوطة بحلّ الخلافات بين الدّول، وفق المادّة الرابعة والثلاثين من نظام المحكمة. والسؤال المطروح ههنا، هو “كيف يذهب لبنان إلى طلب التَّحكيم مع دولة لا يعترف بوجودها؟” لا شكَّ في أنّها إشكاليّة كبرى، إضافةً إلى أنّ مجلس الأمن الدّوليّ غير معْنيّ بترسيم الحدود بين الدّول، ولم يسبق للأمم المتّحدة أنْ رسمت حدودًا، وقد حصل ذلك لمرّة واحدة، فيما يتعلّق بالحدود بين العراق والكويت، ممّا شكل سابقة خطيرة آنذاك.
لبنان المتأخّر عن حلبة السّباق
يتصدّر السّباق في قطاع النفط والغاز، بين دول المنطقة، واجهة الأحداث اليوم، خصوصًا بعد دعم الحكومات الإسرائيليّة والقبرصيّة واليونانيّة والإيطاليّة مشروع مدّ الأنابيب عبر البحر المتوسّط، لنقل الغاز الإسرائيليّ والقبرصيّ إلى أوروبا، بحلول العام 2025، وبكلفة تناهز ستة مليارات دولار .وتكتسب هذه التطوّرات أهميّة إستثنائيّة بالنّسبة إلى لبنان، كون السّباق إلى تسويق الغاز الموجود في الحقول المسْتكشفة، يعني تلقائيّا السّباق إلى مصادر تمويل أنشطة الإستخراج والإنتاج في هذا القطاع، مع الإشارة إلى نشاط إسرائيلي مفرط على هذا الصعيد تحديدًا.
من هنا، فإنّ لبنان متأخِّر عن جيرانه ولم يصل أساسًا إلى مرحلة تلزيم أنشطة التنقيب في أيّ بلوك بحْريّ لغاية الآن، ناهيكم عن العرقلة والضغوط السياسية الخارجية التي حالت دون إتمام عمليات التنقيب في البلوكات المحددة، خصوصا عند اندلاع أحداث طوفان الاقصى في 7 تشرين الاول أكتوبر من العام 2023 وبعد مباشرة قيادة حزب الله بفتح معركة الاسناد ضد العدو الصهيوني، وهي المعركة التي توسعت في الآونة الاخيرة وتحولت إلى عدوان إسرائيلي سافر وحاقد على كامل الأراضي اللبنانية. ناهيكم عن تلميح الحكومة الاسرائيلية في ظل الحرب الدائرة اليوم، بإلغاء إتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي جرى توقيعها بين لبنان والكيان الصهيوني الغاصب في العام 2022.
إلى ذلك فإنّ إمكانيّة تأثير أنشطة الإستخراج الإسرائيليّة على مكامن النّفط في لبنان بشكل سلبيّ، هي إمكانيّة كبيرة، خصوصًا في حال وجود مكامن نفطيّة مشتركة، ناهيكم عن أنّ لبنان لم يصل لمرحلة التأكّد من إحتمالات وجود مكامن نفطيّة مشتركة على حدوده.
وقد يكون أغرب ما في التطوّرات الأخيرة، هو الخلاف القائم بين لبنان وبين الكيان الإسرائيلي، حول تحديد منطقته الإقتصاديّة الخالصة، مع بروز مشكلة عويصة تعود للعام 2007 حين أخطأ المسؤولون اللبنانيّون أنفسهم بضمّ المنطقة البحريّة المتنازَع عليها اليوم لمصلحة الكيان الصهيونيّ، وذلك في الإتّفاق الذي وقّع عليه لبنان لترسيم حدود منطقته الإقتصاديّة الخالصة مع قبرص. واللاّفت أنّ بعض دول بحر الأبيض المتوسط، قد رتبتّ أوراقها وأطلقتْ عنانها لاستخراج ثروات الغاز الطبيعيّ العائد لها، بحيث اجتازت أكثر من مرحلة مهمّة، بينما لا يزال لبنان يتخبّط في أكثر من مسألة داخليّة وخارجيّة في هذا الملفّ، ولا يمكنه تحديد أسرع الخطوات التي تجعله يحاذي تلك الدّول في المسعى، أو حتّى يسبقها في المبدأ. فمتى ستنتهي رحلة لبنان السلحفاتيّة مع النفط، وإلى متى سيُمنَع من اكتشاف نفطِه وغازِه وكنزِه؟
الكاتبة الصحفية غادة كلش