تقنية السرد في قصيدة “تهانيا” للشاعر الدكتور طارق أبو حطب ل د. سعيد محمد المنزلاوي

“تهانينا” هي العتبة الأولى من عتبات النص، وهي جمع لغير المصدر، مفردها تهنئة، وحقيقة التهنئة أن تتعدى للآخر والذي أصابه الخير فتسر له وتدعو له بالاستمتاع بهذا الخير. إنها إذن السرور والدعاء والرجاء، تقف على طرفي نقيض مع التعزية.

والعنوان يحمل في بذرته قصة سردية مكتملة، فالحدث وهو التهنئة، يتعدى المهنئ إلى غيره، وهي ليست تهنئة واحدة، وبالتالي تتعدد الشخوص وتتعدد المناسبات، والتي يدور كل منها في زمان وفي مكان يتعلقان بكل مناسبة على حده، ومما يدل على ذلك تصدر العنوان الرئيس للنص، مقاطع القصيدة السبعة، مشكلًا عنوانًا داخليًّا بعدد المقاطع، مما يوحي بفصول سبعة للقصة التي يرويها الشاعر عبر أبيات القصيدة.


كما يضع أيدينا على نهج الشاعر في هذه القصيدة والذي جاء على النهج المسرع من خلال محطات سبعة، تتتابع في سيرها واحدة تلو الأخرى، ولعلنا ننتظر من القصيدة أن تقدم لنا عبر مقاطعها السبعة والتي تتصدر كل مقطع منها كلمة “تهانينا” وكأنها عنوان داخلي يتكرر صداها عبر مقاطعها، ننتظر مزيدًا من عبارات تسر وتفرح لمناسبات عدة. لكنَّ مراسم التهنئة تأتي على النقيض من مدلول اللفظة، لتنسحب على بنية سردية تنهض على مفارِقة سردية لاذعة؛ حيث تتراوح مقاطع القصيدة بين الخيانة والبعد في المقطع الأول، والبكاء والحزن والهجر في المقاطع الثلاثة التالية، والشقوة والردى في المقطعين الخامس والسادس، والاعتذار في المقطع الأخير.


وقد أحسن الشاعر عندما تخير لتجربته بحر الوافر، مما ينسجم مع حاله وانفعاله؛ حيث تواكب نغماته المتلاحقة أنفاسه اللاهثة، والتي كان ينشدها الراحة بين الفينة والأخرى والإفصاح عما يعتلج في صدره من وخز الألم وحرقة الحزن، من خلال عصب بعض التفعيلات؛ ليزيد من مساحة السكون مع كثرة حروف اللين، مما يقربه من الهزج، فيأخذ من الوافر جانبه البكَّاء، ومن الهزج والذي يجنح إلى التكرار، وليس أدل على ذلك من مجيء لفظة تهانينا على وزن الهزج، والتي جعلها الشاعر عنوانًا داخليًّا لمقاطع القصيدة، وكذلك عنوانًا للنص أجمعه. ثم يعاود الكرة مرة أخرى مغلبًا الحركات؛ لتتدفق أشجانه وتسيل عبر القصيدة نهرًا من الدموع، وأتونًا من الأحزان.


وقد جاءت التهنئة للآخرين في ظفرهم من الشاعر، وذلك أشبه ما يكون بالمنهزم يصافح خصمه ويهنئه على الفوز. وشان بين مجال اللعب ومجال المشاعر، انكسار القلوب ليس بالأمر الهين. ولكن الذات حين تتعرض لكثير من الانكسارات والندوب، يتساوى لديها الانتصار والهزيمة، وحسبها أن تخرج من تلك المعركة غير المتكافئة، وقد غنمت نفسها، وظفرت بكينونتها، دون مزيد من التنازل والامتهان.
تبدأ القصيدة بقوله:


(تهانينا
لقلب خان وابتعدا
لحلم غاب مرتجفا)
يجمع الشاعر بين القلب والحلم، ينعت الأول بالخيانة والثاني بالغياب؛ فحين يخون القلب يسهل الغياب، وتندثر الأحلام والعلاقة بين القلب والحلم كعلاقة اللحمة بالسداة، فرحيل القلب يتبعه رحيل الحلم.
وعن طريق تقانة الاسترجاع يعود بنا شاعرنا لذلك القلب، والذي جرَّ عليه الهوى والبكاء والحزن:
(تهانينا
لقلب كان يهواني
فأبكاني)
ثم يقدم تهنئة
(لمن غرته أحزاني
وأهداني
دموعا عشت أكتمها)
حيث بدا دنو الشاعر من درب الحزن:
(فصار الدمع
أمواجا)
ثم يقدم تهنئة لقلب أغراه فعاش قصة وهم:
(وتهنا في
مآسينا)
إن الحب عند شاعرنا معادل موضوعي للحزن:
(طربنا لحظة الوصل
وذقنا الكأس
أتراحا
وأفراحا)
والعشق عنده معادل للموت:
(وعاد اليوم
يا قلبي
بسهم العشق
يردينا
يبدد بسمتي وجعا
ويسكب مره
فينا)
أبعد كل ذلك يقبل الشاعر ممن سامه الموت ألوانًا، اعتذارًا ومغفرة:
(تهانينا
لمن يأتيني
معتذرا
يروم اليوم مغفرة
لكي يحيا)
إن الشاعر أبت نفسه:
(ولن أرضى
بأن نبقى
مواسينا)


إنَّ التجسيد بدور بارز في تصوير الحدث فينهض القلب شخصية رئيسة معادية، يرمز بها الشاعر للآخر الذي خانه وأبكاه وشتت شمله وأرداه بسهمه، ثم جاء معتذرًا إليه يطلب المغفرة، ولكن هيهات.
ويأتي مجال الرؤية هنا من زاوية السارد العليم، إنها سيرة ذاتية للشاعر يجتر فيها حزنه وأوجاعه وآلامه، يحكي فيها ضعفه وخذلانه، وكشأن كل نفس أبية، يسخر الشاعر من أحزانه ومن خذلانه، في جلد يظهر لمن عبث بمشاعره يومًا، أنه لم ينهزم، ولا يزال صامدًا.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *