سارت بعناية وهي تحمل بيدها مكنسة وجاروفًا كبيرين؛ لتنظيف شارع (أبو الفداء) بحي الزمالك، مخترقة الممرات الباردة والتي تفصل بين البنايات الأنيقة المقامة بداخله، وألم حاد دفين في أعماقها مثل سكين قاسية يقبع بقسوة في أحشائها.
اندفعت أسراب من الفتيات والسيدات من أعمار مختلفة، وقد توردت وجوههن من لفحة الهواء، تتدفق منهن حيوية مبعثها الركض في صباح خریفي رائق، مسرعات، يرفرفن بأثوابهن المميزة لمدرستهن مثل فراشات ملونة، بينما انبعثت أصوات متفاوتة من صفوف الدراسة القريبة، قبل أن يدق الجرس.
وردد صوت كصوت الطير، صائحًا: – هيا نسرع إلى المدرسة.
كانت الفتاة الحلوة التي تشبه طفلتها ولا تعرف اسمها هي مصدر الصوت، وهي تنادي على زميلاتها قبل أن تغلق المدرسة أبوابها في هذا الصباح الجميل.
لم تعد تذكر مما تعلمته الآن سوى القصص الجميلة التي كانت تقرأها في حصة المكتبة، حيث سندريلا والأقزام السبعة، وسنوايت، والساحرة الشريرة، وكثيرًا ما حلمت بأن تتحول تلك المكنسة في يدها إلى عصا سحرية تحقق بها أحلامها.
تابعت سيرها وهي تلملم بمكنستها أوراق الخريف المتناثرة، وتوقفت تحت الشجرة العملاقة التي تحتل عرض الشارع مولية ظهرها إلى محل الحلويات الشرقية التي تتصاعد رائحة مخبوزاته الدافئة في هذا الجو البارد.
مر بجانبها حذاء أسود لامع يدق الأرض بانتظام وأناقة مصاحبًا لعطر باذخ الجمال، فرفعت رأسها عن الأرض لتشاهد تلك السيدة الجميلة، التي تبدو كأن العسل يسيل منها! حتى أنك لتخال أن هناك بضع نحلات متعلقات بذلك الشعر الذهبي.
دلفت السيدة الجميلة داخل محل الحلويات بهدوء كأنها تفتح باب حجرتها، جلست أمام طاولة خالية من الزبائن تضع ساقا فوق أخري، تعبث في شعرها المنسدل بنعومة، وهي تسند حقيبتها بجوارها.
ثوان وهرول إليها أحد العاملين بابتسامة عريضة تملأ شفتيه، انحنى أمامها بخفة ثم قدم لها قائمة بالمعروضات المتاحة في المحل، لم تتناول الورقة لكنها طلبت منه شيئا اَخر وهي مازالت تعبث في شعرها.
رفعت عينيها بعيدًا عنها، وقد توقفت عن العمل بعد أن هاجمها الألم في أحشائها ثانية، تعلم صعوبة هذا اليوم الذي يعاودها في كل شهر، كم ترغب لو تضع حدا لهذا الألم، لو تجلس في مقعد كالذي تجلس عليه تلك الفاتنة القابعة أمامها في كرسيها الأنيق تتصفح هاتفها غير مبالية بالعالم حولها.
رأت النادل يأتيها حاملا فنجان القهوة وبعض الفطائر المخملية، راقبتها وهي تتناول قهوتها على مهل، وتتناول قطعا صغيرة من الفطائر، تبدو كأنها اعتادت حلاوته فلم تعد يجذبها لونه أو طعمه.
لماذا يأتون هنا ما داموا غير مكترثين بما يقدم لهم، يتناولون أطرافه ثم يقذفون الباقي في سلة المهملات دلالة رقيهم ورفعة قدرهم، لربما كانت أموالهم تأتيهم مع زخات الأمطار التي بدأت في السقوط.
ليتها تذكرت أخذ المسكن الذي اعتادته
في هذه الأيام، لقد استيقظت متأخرة على غير عاداتها، وعانت مع صغيرتها كي تقوم بتجهيزها لدار الحضانة أولا قبل أن تغادرها وتأتي للعمل.
ليت زوجها المسافر يرسل إليها بعض الأموال التي تحميها من العمل في هذه الايام القاسية.
فكرت لو امتلكت خمسة الاَف من الجنيهات ربما استطاعت دخول هذا المحل الذي يمنح زبائنه قدسية ووقارًا، أو ربما قامت بشراء احدى قطع الحلويات لصغيرتها لتتناولها وحدها.
توقفت الأوراق لبرهة عن السقوط مع هطول المطر، فاعتدلت في وقفتها قليلًا لترى الفاتنة تتحدث في الهاتف، ترى من هذا المحظوظ الذي تحادثه الآن في تلك الساعة المبكرة، ربما قلبًا احترق من العشق في غياب محبوبه.
شعرت بها تحادثه في غرور، ترفع عينيها وفقط من خلف الزجاج، لكأنها تبخل عليه بصوتها لتتركه يحترق حتى النهاية.
وهي في وقفتها تصارع المطر والألم.
مر أمامها عم “جابر” صاحب كشك الكتب وهو يتدثر بكوفيته ذات اللون الرمادي والتي يصعب عليه تغيرها منذ أعوام طويلة، حياها برأسه، مكملًا طريقه نحو كتبه النائمة تحت الغطاء.
بدأت أصوات التلاميذ من المدرسة المجاورة تعلو في طابور الصباح تهتف بنشيد بلادي.. بلادي، لك حبي وفؤادي.
لم تتوقع أن يهجرها زوجها ثلاث سنوات في غربته، ولولا ابنتها التي ولدتها بعد سفره لنست أمر زواجها كلية، لم تهنأ معه سوى شهرين بعدها أخبرها بضرورة سفره خارج البلاد لجني المال.
عارضته بشدة، لكنه أخبرها أن الأمر لن يطول أكثر من عام، ثم بدأت تنسى وجوده.
تلقت منه اتصالات متقطعة، ومبالغ زهيدة، ثم عرضت عليها جارتها العمل كي تكفي حاجتها هي وابنتها، حين شكت إليها سوء الحال، ولم يكن هناك من عمل يناسبها سوى عاملة نظافة لهذا الشارع بالغ الثراء.
لم تعلم أن هناك عذابًا أشد ستلاقيه في هذا العمل، هو رؤية هذه النعم دون القدرة على امتلاكها يوما.
فكرت لو منحتها تلك الفاتنة بقايا الطعام الذي تركته حين غادرت المطعم، على الأقل سيجعلها تتحمل بعض الالم الذي يفتك بها إذا وجدت شيئًا يطفئ جوعها.
تابعت لملمة الأوراق بعد توقف المطر، وقد تصاعدت رائحة الأرض بعد أن ابتلت بمياه الأمطار فأصبحت لديها أجمل رائحة لهذا الصباح.
كانت السيدة الفاتنة التي ترتدي شالًا من الفرو الأبيض الناعم، يتناغم مع شعرها الذهبي اللامع وحقيبتها البيضاء الجلدية، قد نسيت هاتفها في محل المخبوزات، فجرى أحد العاملين بالمحل خلفها لمنحها الهاتف.
تمنت أن يرغب بها أحدهم، لو يجري خلفها يمنحها أي شيء وهو يبتسم، سيكون هذا يومًا مميزًا بالنسبة لها، لأنها ستشعر اخيرًا بأنوثتها المفقودة خلف الأفرول الأزرق الذي ترتديه.
لم يكن ضمن أحلامها أن تعيش قصة حب مع أحدهم.
فأين سيوجد هذا الذي ينظر إليها بوله كهذا العامل وقد ابتسمت كل خلية في محياه حين منحته الفاتنة ضحكة رائعة وهي تتناول منه هاتفها وتشكره.
مثلهن لا يخفن من الدخول في قصص الحب حين يردن ذلك، فحتمًا سيكون من السعيد لأحدهم أن تنظر إليه تلك العيون الذهبية وتبتسم.
وصلت لهذه الفيلا الأنيقة المكونة من طابقين، التي تمنحها صاحبتها ” رجاء ” بعض المأكولات المتبقية مع الحلوى والفاكهة التالفة.
في هذا الصباح لم تجد السيدة في حديقتها كما اعتادت دائمًا، كانت المقاعد مبتلة وخالية، ولم يكن هناك ثمة حياة بالداخل.
وقفت طويلًا أمام الباب تنتظر ظهورها المبهج مع ضحكتها الصافية، لكن جرس المدرسة أعلن عن مجيء الفسحة دون ظهورها، فكرت لو تطرق باب الفيلا الداخلي لتطمئن عليها، لدهشتها كان الباب مفتوحًا والفيلا خالية.
تجولت بداخلها لأول مرة، لامست تلك التماثيل الرخامية الأنيقة التي تقف أمامها عند الباب، والفازات البهية المحملة بأنواع الورود الصناعية الرائعة، دهشت من تلك المقاعد والأرائك بالغة الجمال، ثم تخطت الصالة وبدأت تنادي على السيدة “رجاء” بهدوء حذر تتمنى أن تراها وأن لا تراها.
كان باب أحد الحجرات مواربًا، يبدو كـأنه حجرة نوم السيدة، دفعته برفق وهي توالي نداءها المتقطع، كانت الستائر البيضاء مغلقة على جدران الأمس، لم تمتد يد إليها، نظرت إلى السرير فوجدت السيدة نائمة، هزتها برفق، ثم بشدة، لتجدها فارقت الحياة.
صدمتها الفكرة لوهلة، لكنها اعتبرتها العصا السحرية التي تمنتها، فتحت الأدراج بسرعة، أخذت المال الذي توقعته يقارب الخمسة آلاف، دون أن تمد يدها إلى الذهب والمجوهرات، فتحت الدولاب وأخرجت أحد الفساتين الأنيقة لترتديه ومعه شالا صوفيًا وحقيبة جلدية أنيقة ثم أخرجت حذاءً أسودًا لم يناسب مقاسها لكنها أرغمت قدميها على الدخول فيه، وقبل أن تغادر ذهبت إلى المطبخ لتتناول شيئا تأكله، وجدت الكثير من الطعام هناك، أكلت وحملت معها ما استطاعت.
ثم قذفت بالأفرول والمكنسة داخل صندوق القمامة قبل أن تخرج من المنزل وتتجه إلى محل الحلويات.
الكاتبة سوسن محفوظ