الغزل او الحب العفيف كلون من الاوان المختلفة من الفنون الشعرية ،التي تمتاز وبجدارة بنوع مميز من الحرارة المنصهرة في الذات البشرية، وهو بذلك يحول الشخص محل هذا الشعور الى مِرجل ، وهو عبارة عن قِدرٌ من طين أو نحاس يُغلى فيه الماء.
فالغزل البدوي شعور واِحساس قوي يحرك كل عواطف الشخص وكذا جوارحه التي تتازر فيما بينها ، حيت ان المحبوبة هي الهدف الذي تسعى اليه ، ولا احدا اخر سواها يمكن ان يلفت انظاره غيرها فهي الهواء الذي يستنشقه، فهي معبده ، ومحراب صلواته ، تنمو فيه حرارة جميع العواطف الطاهرة ، وان البُعد عنها ، حكم بالقهر والضياع والبؤس ، وكل هذه المظاهر تتجسد من خلال افعال وسلوك المُحب ، الذي لا يهمه احد من الغير ، كما انه لا يبالي قط بالقواعد والأعراف المجتمعاتية التي تفرض احيانا انواعا من القيود التي فرضتها احيانا الشعودة ،او الضلال الذي لا اساس شرعي او قانوني يحكمها ، فهم المحب ينحصر فقط في اِرضاء محبوبته ، وهو بذلك لا يرى في الوجود الفسيح اِلا محبوبته وذاته التي يرافقها كل من العذاب والالم والهُيام ، وكانهما الوحيدين اللذين خُلقا في هذا الكون .
يقول (قيس بن الملوّح ) وهو احد فطاحل الشعر العذري حين أخذه والده إلى مكة لعله ينسى معشوقته ( ليلى ) فتَعلّق بستار الكعبة وقال:
“اللهم زدني بليلى حبا وبها جنونا و لاتُنسِني ذكرها أبدا”
وفي رواية أخرى ، لما اشتد به حاله اِرتاَى عشيرته اَن يذهبوا به الى الحج ، لعله يشفى من مرض عشقه لِ ( ليلى العامرية) ، وعند وصولهم لِ مكة المكرمة ، خاطبه اهله : يا قيس ، هذا بلد الله وهذا بيته فادعُ الله تعالى أن يُعافيك من حب ( ليلى ) فأنشد قايلا
ذكرتك والحجيج له ضجيج
بمكة والقلوب لها وجيبُ
فقلت ونحن في بلد حرام
به لله أخلصت القلوب
أتوب إليك يا رحمان مما
جنيت فقد تكاثرت الذنوب
فأما من هوى ليلى وحبّي
زيارتها فإني لا أتوب
فكيف وعندها قلبي رهيناً
أتوب إليك منها أو أُنيب
ويقول ايضا في اِحدى قصايده :
لو كانَ لي قلبان لعشت بواحدٍ
وأفردتُ قلباً في هواكَ يُعذَّبُ
لكنَّ لي قلباً تّمَلكَهُ الهَوى
لا العَيشُ يحلُو لَهُ ولا الموتُ يَقْرَبُ
كَعُصفُورةٍ في كفِّ طفلٍ يُهِينُها
تُعَانِي عَذابَ المَوتِ والطِفلُ يلعبُ
فلا الطفل ذو عقلٍ يرِقُّ لِحالِها
ولا الطّيرُ مَطلُوقُ الجنَاحَينِ فيذهبُ.
اما ( ابو فراس الحمداني ) فسبح مع امواج اخرى ، دافءة مثل امواج دجلة والفراة، فانشد ما يلي :
نظري الى وجه الحبيب نعيم
وفراق من اهوى علي عظيم
ما كل من ذاق الهوى عرف الهوى
ولا كل من شرب المدام نديم
ولا كل من طلب السعادة نالها
ولا كل من قرأ الكتاب فهيم
مالي لسان ان اقول ظلمتني
والله يشهد انك المظلوم
انا الذي ما كنت ارحم عاشقا
حتى عشقت وانا المرحوم
يا زارع الريحان حول خيامنا
لا تزرع الريحان لست مقيم
ما كل من دخل الهوى عرف الهوى
ولا كل من شرب المُدام نديم
ولا كل من طلب السعادة نالها
ولا كل من قرأ الكتاب فهيم
وعلى منوال من سبق ، استعمل الشاعر ( عبدالنبي النابلسي ) اوتارا اخرى ، مصنوعة من صبابة وازهار اندلسية ، حيت اطرب قايلا :
مَا كُل مَن ذَاق الصَّبابة مُغْرَمٌ
منْ لمْ يَذُقْ طَعمَ الْمَحَبَّةِ مَا مرسْ
أَنا يَا سُعَادُ بحبلِ وِدّكِ واثقٌ
لَم أَنْسَ ذِكْركِ بِالْصَّبَاحِ وفِي الْغَلَسْ
يَا جَنّةً لِلعَاشقيْنَ تزَخرَفَت
جوُدِي بِوَصلٍ فَالمُتيّمُ مَا أَتنسْ
أَنيتُ، قالْت: كم تأنُّ أَجَبْتُهَا
هذَا أَنينُ مُفارقِ بَالمَوْتِ حسْ
قالت: ومَا يَشْفِيَك؟ قُلْتُ: لَهَا الْلِّقا
قالت: أَزْيدُكَ بِالْوِصَال فَقلتُ بسْ
فتبَسَّمَت عجباً وقالَت لَن ترَ
وصلي، فذَاكَ أمرُّ منْ أَخذِ الْنَّفْسْ
قرَأت سُعَادُ بِضِدّ مَا أَقرَأ أَنا
أَقرَأ ألم نشَرَح فتقرَأ لي عَبَسْ
هنا لابد لنا من التوقف قليلا ، مبتعدين عن زحمة مسرح الحياة ، وزخرفها المادي ، وعنفها المبثور ، واهدافها الرخيصة ، ورونقها الكاذب ، ومشاهدها الزايفة ، بعيدا عن المنطق وعن العقلانية ، والغوص وبصدق في كينونة النفس البشرية ، ومحاولة الحُلول محل شعور هؤلاء النبلاء إحساسا ، فقط :
للتأمل في
الذوق
والجمال .
انتهى الكلام
الكاتب عبدالسلام اضريف