يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه “الهوية.. العولمة.. المصالح القومية”:
“… الذي كان يضم هذه المرة حكومات دول فضّلت مهادنة الدول الاستعمارية والسير في صف الليبرالية الإمبريالية ضداً على الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية من جهة، وابتعاداً عن حركات التحرير في العالم الثالث وضمنه الوطن العربي من جهة أخرى، فوقف بعضها موقفاً سلبياً من القضية العربية، قضية فلسطين وقضية التحرر العربي عامة. وفي خضم هذا الصراع ظهر منظّرون وإيديولوجيون حاولوا، تحت ضغط هذه الملابسات، وربما بدوافع أخرى أيضاً، التنظير للقومية العربية مع السكوت عن الإسلام واستبعاده صراحةً أو ضمناً. فكان من الطبيعي أن يقوم رد فعل مضاد يعتبر “الإسلام” كمقوم أساسي وأولي للهوية وليس “العروبة”.
هل عالم الألفية الثالثة على الرغم من مستواه الثقافي العالي، حيث عصر الرقمنة، والعولمة، وعلو كعب تكنولوجياته، وصناعاته وقواعد حضارته، وبروز العديد من المبادئ الديمقراطية المرتكزة على حقوق الإنسان والحوكمة، عجز وبشكل صارخ على استحضار الضمير والقول “لا” لما يجري من تقتيل، وإبادة شعب أعزل في غزة (فلسطين) أو في (لبنان)؟ فعلاً هناك عجز صارخ من طرف المنتظم الدولي الذي يساند وبقوة ما يمارس من فعل جبان ومشين بخصوص التقتيل والتهجير ضد أمم لها جذور ضاربة في عمق التاريخ، وضداً على منتظم دولي حر، لكن لا حول له ولا قوة، وتبرير إرهاب العدو في ذلك يعتبرونه دفاعاً عن النفس، فضلاً عن كونه جزءاً من القضاء على العمليات الإرهابية. ثم في الأخير يلتزم العالم، بما فيه العربي، الصمت الرهيب القاتل، ذلكم هو جواب من لا يعتري وجهه حمرة خجل.
وعلى الرغم من التمظهرات التي تنادي بها مجموعة من الأنظمة السياسية الغربية بكونها من رواد القيم الكونية كالاخاء والمساواة والعدالة، والعديد من المصطلحات ذات الطابع الإنساني الصوري، فضلاً عما تدعيه العديد من المنظمات الدولية العاملة في شتى المجالات الحقوقية والإنسانية، والتي لا تعدو أن تكون سوى مبادئ جوفاء كأنها أعجاز نخل منقعر، حيث يخفي المجتمع الدولي ما تعاقد عليه مع جهات عنصرية ضداً على المجتمع العربي بنصرته ضدهم والوقوف إلى جانبه علماً أنه ظالم، وهذا أمر فيه مغالطة للرأي العام الدولي بنشر مبادئ حقوق الإنسان عبر المنصات الدولية والمنظمات العالمية كالديمقراطية في تدبير الشأن العام، والعديد من المقاربات ذات البعد الإنساني التي تحولت بواسطة أبجديات المغالطة إلى (موضة العصر)، في حين أنها عقود صورية لا وجود لها في الواقع الملموس حقيقة، ويكون العقد الآخر مستتراً سرياً وهو العقد الحقيقي، لكن الزمن كصمام أمان وكمراقب صامت أبى على نفسه إلا أن يكشف زيف، وصورية كل عقود العيون الخضر والبشرة الشقراء التي تضمر للأمة العربية الإسلامية حقداً دفيناً.
يقول الأديب المصري الكبير محمد مندور في كتابه “نماذج بشرية”:
“إذا كان – دون كيشوت – رمزاً لأحلام الشباب، وأي سحر أفعل في النفس من تلك الأحلام؟ قد تذهب أحداث الحياة بتلك الآمال العذاب التي يقوم عليها صبانا، كما كانت تقوم العذارى على النيران المقدسة بمسك ضرامها عن أن يخمد، ولقد تنقطع أوتار القيثارة فلا تعود تملأ نفوسنا بنغماتها الساحرة، ولكن النار لابد مخلفة رماداً مقدساً، ولابد للآلهة من رجع في النفس نحن إليه كلما عادت بها الذكرى من ثنايا الماضي الجميل.”
إن رمز أحلام الشباب العربي يتمثل في إيمانه بضرورة الخروج من قوقعة هذا المجتمع الدولي الذي خلق من الأمة العربية الإسلامية أرواح عبيد، وأرواح سادة جعلت من حياتها نفاقاً مسترسلاً، واتخذت من هذا النفاق معاهدات، وقوانين دولية صارمة.
أما من جهة ثانية، فإن ما يجري على الساحة الفلسطينية منذ ثلاثة عشر شهراً من جرائم تقتيل وتهجير قسري، وذبح علني أمام مرأى ومسمع من الضمير العربي الذي أصابته لعنات أطفال وتكالى غزة ولعنات الرأي العام العربي والعالمي على حد سواء، فضلاً عن لعنة بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان. فأين العالم العربي المعاصر من رجالات بيعة الرضوان؟ فأولئك بايعوا الرسول الأكرم بكلمة النصرة حتى الاستشهاد. هنا لابد من فتح قوس، نستخلص منه أن تلك البيعة ليست مقرونة بزمنها وبظرفيتها ليس إلا، أي أنها توقفت بمجرد انتهاء نتائج تلك العملية، وحسب رأيي الخاص، فإن فلسفة البيعة أكبر من ذلك بكثير، فكل عدوان يتعرض له كل من يشهد بـ “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” إلا ويجب إحياء بيعة شجرة أخرى من أجل نصرة المظلوم ضد المعتدي، فبيعة الشجرة كلمة مسؤولة، باقية على رمال الزمن كنصير للحق ضد الباطل، فهي التزام وعهد في عنق المسلمين إلى يوم الدين.
إن ضمير العالم العربي أضحى مثل فحل البلح غير النافع في عمليات التلقيح وغير المثمر، والمتغيب عن رؤية الحقيقة، والمصدق لما يدعيه المنتظم الدولي من كذب ومن تبجحات حقوقية لا محراب لها ولا سند ولا هدى للمتقين. فليعلم الجميع بأن ضمائرهم ستسخر منهم جميعاً، هذا فضلاً عن كون أن عواقب الصمت الإنساني والعربي خاصة أشد فظاظة من مسبباته. وعليه فالشاعر العربي يتساءل عن جدوى الضمير إذا لم يتم تشغيله كمنارة تقود إلى الصواب، وإلى السلام والأمن، حيث يتم الاعتماد عليه في بلوغ الأهداف المنشودة من طرف الرأي العام الدولي ومعه كل عربي مسلم. فالاستعانة بالضمير ممر عبور إلى تحقيق طموحات المجتمع العربي وكذا أحلامه، وإلى إجهاض الصمت الآثم الذي غرسته في ثقافتنا أقلام حقودة، وأفكار مدسوسة، همها الأساس تشويه مبادئ الكرامة والنصرة والنخوة العربية، ضمن خارطة طريق هندس أهدافها وغاياتها المتجلية في موت الضمير، من طرف من قالوا لنبيهم: “اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون”. ولقد تمت عملية التعبئة بنجاح، على إثرها توقفت نبضات الضمير، ومات موتاً (كلينيكياً) ولم يعد فاعلاً إلى حدود تاريخه، ولا ندري الفترة الزمنية التي سيستغرقها هذا المرض، الذي نرجو من الله أن يعجل بشفائه، وعودته إلى معترك الحياة من أجل محاكمة ما يضر المجتمع العربي من استسلام.
الرأي العام العربي ومعه القوى الحية في العالم يرفضون هيمنة شرذمة قليلون، قتلة الأطفال والنساء والشيوخ وحتى الأنبياء. فاسألوا صفحات التاريخ التي تحكي بمداد أسود ما فعلته هذه الطغمة على مدار الأزمان من قذارة، وسفك دماء، كم أطفال ذبحوا، وكم شيوخ كسرت أضلاعهم، ومن نساء ترملن، وكم صراخ وأنين رفض الضمير العالمي والعربي سماعه.
ما يجري في الأرض الطيبة المباركة من دمار وقتل بدم بارد، لم تأمر به شريعة التوراة قط، وموسى عليه السلام منه براء، فضلاً عن شريعة الإنجيل باعتبارها شريعة المحبة والسلام الذي يدعو إلى إدارة الخد الأيسر إن صُفع خدك الأيمن، ولا القرآن الحكيم الذي يأمر بالجدال الحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.
الحزن يسري في كل مكان من دجلة العراق وفراتها إلى أطلس المملكة المغربية الشريفة، وفي جميع أصقاع العالم. اليوم قضية واحدة هي محور أهدافنا جميعاً، لا فرق بين سني أو شيعي، حيث علينا أن نسعى إلى تحقيقها وتنزيلها على أرض الواقع عبر تعبئة جميع الوسائل والآليات، وهي كيفية إحياء الضمير، واسترجاع الكرامة والنخوة العربيتين الإسلاميتين، والتكتل من أجل محاربة والقضاء على دابر سلالة “السامري” وكل من يسعى معه في إحياء عجل جسد جديد ليس له خوار كما في السابق، بل له آفة أخرى شبيهة بسكوت المارد الأخرس، إنه الصمت القاتل عبر كاتم للصوت العالمي.
وفي نفس السياق يقول المفكر المغربي محمد الجابري في كتابه “تكوين العقل العربي”:
“… إنه ليس شيئًا آخر، غير الفكر، بوصفه أداة للإنتاج النظري، صنعتها ثقافة معينة، لها خصوصيتها، هي؛ الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري، وتعكس واقعهم، أو تعبّر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية، وكما تحمل، وتعكس، وتعبّر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدّمهم، وأسباب تخلفهم الراهن”.
وإلى غاية تاريخه، فالرأي العام العربي ما زال حزيناً، ينتظر بشوق ماردًا ينتصر له من رماد الجسد المحترق كطائر العنقاء ليعيد للأمة كرامتها، ونخوتها وهويتها.
الكاتب عبدالسلام اضريف