رسالة إلى جدتي

ترعرعت في حضن جدتي في قرية جميلة، مزارع خضراء تمتد ببصرك إلى التقاء الأرض بالسماء، وبحيرة كبيرة تشق الأراضي الخصبة. كانت كبيرة العائلة، الكل يستشيرها ويثق في رأيها. كانت ترأس مجلسًا كبيرًا تحكم فيه بين رجال العائلة فيما نشب بينهم من خلافات. لم تكن تعرف كتابة اسمها، لكنها اكتسبت من الحكمة الكثير، التي استمدتها من نقاء فطرتها وقربها الدائم من الطبيعة.

أصبحت أرملة وعمرها لم يتجاوز الثلاثين، لكنها كانت مسؤولة عن زراعة أراضٍ شاسعة تركها لها جدي. كانت تزرع وتحصد وتبيع المحصول وتجني المال كل موسم زراعة. لم يكن لديها مال كثير، ولم تكن في حاجة إليه، لأن بيتها كان دولة قائمة بذاتها، مليئًا بالخيرات من الحليب والجبن والسمن والخبز. كانت تربي الطيور والدواجن، وتزرع أمام بيتها الكبير مختلف الفواكه والخضروات الموسمية. فماذا كانت تشتري إذن بالمال غير الملابس القطنية؟

وبما أنها تتغذى على الغذاء الموسمي العضوي الذي تقوم بزراعته بنفسها، وتقوم ببعض الأعمال البدنية اللازمة من أجل الزراعة، فلم تكن بحاجة إلى زيارة الأطباء، لأنها ببساطة لم تكن تمرض.

نشأت أنا بجوارها، حلمت بالخروج من القرية وتحقيق أحلام كثيرة كانت تراودني، والسفر إلى بلاد أخرى يؤرق مضجعي. كنت أحكي لها عن هذه الأحلام، وكانت إجابتها لي دائمًا: “لن تجدي أفضل من قريتنا الجميلة يا ابنتي”.

خرجت وحققت جزءًا من أحلامي، وسافرت وركبت الطائرة، فوجدت عالمًا سريعًا لا يرحم أحدًا. رأيت بيوتًا تُقاس بالمتر، مغلقة على ساكنيها، وعلينا أن نخرج للعمل يوميًا لتحصيل المال لشراء طعام غالٍ الثمن، مليء بالهرمونات الضارة، ليس موسميًا ولا عضويًا، لأن المواسم والبيئات اختلطت على أيدي التجارة الدولية ورؤوس الأموال، فأصبنا بالأمراض، أمراض لا تعرفها جدتي.

خرجنا نعمل بجد وزدنا ساعات العمل لتوفير الرعاية الصحية لنا ولأبنائنا، لأمراض لا تشفيها الأدوية. فالأدوية لا تشفي المرض، بل تتعامل مع الأعراض وتبقي المرض كما هو، كي تستمر شركات الأدوية في عملها.

ثم نعمل لكي نشتري الملابس غالية الثمن مبهرجة الألوان، ولا بد من تناسق الألوان مع الحذاء والحقيبة. ملابس خامتها لا تناسب جلدنا، لأن الجلد لا يصلح معه إلا ما زرع في الأرض، لأننا جميعًا من الأرض، من التراب. فأصبنا بالأمراض الجلدية التي لم تكن تعرفها جدتي، فأنفقنا المزيد على المستحضرات التي تعتني بالجلد والبشرة. ومع أن جدتي توفاها الله عن خمسة وسبعين عامًا، إلا أن بشرتها كانت مشدودة، وكانت تتمتع بجمالها الطبيعي مع أنها لم تضع يومًا مرطبًا.

ثم نعمل أكثر وبجد أكبر لتوفير المال لنشتري السيارات الفارهة، ونسافر إلى أماكن عديدة من أجل الترفيه ومحاولات بائسة للحصول على بعض السعادة، لكننا لم نعثر على السعادة. وارتفعت حالات الاكتئاب بشكل مقلق، مع أن سعادتكِ كانت بسيطة جدًا في كوب شاي بالنعناع على ضفة البحيرة، وضحكاتكِ تخترق السحاب.

تعلمنا ودخلنا الجامعات وحصلنا على درجات علمية، لنقف في النهاية نقول حكمة جدتي، التي كانت تقولها ببساطة وطبيعية وكلمات بسيطة، وتعمل بها، وكانت قدوة فيها.

ولكننا نقولها مستخدمين الاستعارات ونلعب بالألفاظ، وربما ننظمها نثرًا أو شعرًا يحمل نفس المعنى، ولا نعمل بها ولا نضعها موضع التنفيذ.

لففنا في دائرة مغلقة على نفسها يا جدتي، متاهة مثل متاهة الفأر، نعدلها من ناحية فتميل من ناحية أخرى. أتعرفين لماذا يا جدتي؟ لأنني لم أجد أفضل من قريتنا، وقد أشقاني عقلي. وليتني سمعت كلامكِ. رحمكِ الله يا حبيبتي، ستظلين دائمًا قدوة لي، وذكراك العطرة تعطر مخيلتي.

الكاتبة لمياء موسى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *