مسكِينةُ باريس لا أدري لمن ستكون؟! للكاتب عبدالسلام اضريف

جملة قالها الملك فيصل بن عبد العزيز للرئيس الفرنسي شارل ديغول.

روى الدكتور معروف الدواليبي، رحمه الله، في مذكراته هذا اللقاء المهم بين الملك فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، والرئيس الفرنسي شارل ديغول، حيث دار بينهما حوار في غاية الأهمية:

قال ديغول:
“يا جلالة الملك، يتحدث الناس بلهجة متعالية، إنكم تريدون أن تقذفوا بإسرائيل إلى البحر. إسرائيل هذه أصبحت أمرًا واقعًا، ولا يقبل أحد في العالم رفع هذا الأمر الواقع.”

أجاب الملك فيصل، رحمه الله:
“يا فخامة الرئيس، أنا أستغرب كلامك هذا. إن هتلر احتل باريس، وأصبح احتلاله أمرًا واقعًا، وكل فرنسا استسلمت إلا أنت. انسحبت مع الجيش الإنجليزي، وبقيت تعمل لمقاومة الأمر الواقع حتى تغلبت عليه، فلا أنت رضخت للأمر الواقع، ولا شعبك رضخ. فأنا أستغرب منك الآن أن تطلب مني أن أرضى بالأمر الواقع، والويل، يا فخامة الرئيس، للضعيف إذا احتله القوي.”
(وراح يطالب بالقاعدة الذهبية للجنرال ديغول، وهي: أن الاحتلال إذا أصبح واقعًا، فقد أصبح مشروعًا).

دُهش ديغول من سرعة بديهة الملك فيصل، رحمه الله، فغيّر لهجته وقال:
“يا جلالة الملك، يقول اليهود إن فلسطين وطنهم الأصلي، وجدهم الأعلى إسرائيل ولد هناك.”

أجاب الملك فيصل:
“فخامة الرئيس، أنا معجب بك لأنك متدين ومؤمن بدينك، وأنت بلا شك تقرأ الكتاب المقدس. أما قرأت أن اليهود جاؤوا من مصر غزاة؟ أحرقوا المدن وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، فكيف تقول إن فلسطين بلدهم، وهي للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون؟ وأنت تريد أن تعيد الاستعمار الذي حققته إسرائيل قبل أربعة آلاف سنة. فلماذا لا تعيد استعمار روما لفرنسا الذي كان قبل ثلاثة آلاف سنة فقط؟ أنصلح خريطة العالم لمصلحة اليهود، ولا نصلحها لمصلحة روما؟ ونحن العرب أمضينا مئتي سنة في جنوب فرنسا، في حين لم يمكث اليهود في فلسطين سوى سبعين سنة، ثم نُفوا بعدها.”

قال ديغول:
“ولكنهم يقولون إن أباهم وُلد فيها.”

أجاب الفيصل، رحمه الله:
“غريب! عندك الآن مائة وخمسون سفارة في باريس، وأكثر السفراء يولد لهم أطفال في باريس. فلو صار هؤلاء الأطفال رؤساء دول، وجاؤوا يطالبون بحق الولادة في باريس، فمسكينة باريس، لا أدري لمن ستكون!”

سكت ديغول، وضرب الجرس مستدعيًا (بومبيدو) رئيس وزرائه، وكان جالسًا مع الأمير سلطان ورشاد فرعون في الخارج. وقال ديغول:
“الآن فهمت القضية الفلسطينية، أوقفوا السلاح المُصدّر لإسرائيل.”
وكانت إسرائيل يومها تحارب بأسلحة فرنسية وليست أميركية.

يقول الدواليبي: استقبلنا الملك فيصل في الظهران عند رجوعه من هذه المقابلة. وفي صباح اليوم التالي، ونحن في الظهران، استدعى الملك فيصل رئيس شركة التابلاين الأميركية، وكنت حاضرًا، وقال له:
“إن أي نقطة بترول تذهب إلى إسرائيل ستجعلني أقطع البترول عنكم.”
ولما علم بعد ذلك أن أميركا أرسلت مساعدة لإسرائيل، قطع عنها البترول. وقامت المظاهرات في أميركا، ووقف الناس مصطفين أمام محطات الوقود، وهتف المتظاهرون: “نريد البترول ولا نريد إسرائيل.”

المصدر: مذكرات معروف الدواليبي.
معروف الدواليبي، رئيس وزراء سوريا عام 1953، وُلد في حلب عام 1907، وتوفي في المدينة المنورة عام 2004، ودُفن في البقيع. له أكثر من عشرة مؤلفات إسلامية.

لهذا قُتل الملك فيصل!؟ رحمه الله وتقبله شهيدًا من عظماء الأمة العربية والإسلامية.

التاريخ الحديث للعالم العربي، كما كان ماضيه، يحمل ضمن صفحاته شخصيات عربية قوية، كالملك فيصل، رحمه الله. شخصيات واعية بما يجري وما يُحاك ويتخذ من قرارات ضمن دهاليز منتصف الليل العالمي. وإذا شاءت الأقدار أن يعتري هذا العالم العربي نوع من الوهن والضعف والفتور، فهو ناتج حتمًا عن ظروف معينة. إلا أن القدرة على الرجوع إلى ما ينبغي أن يكون فكرة حاضرة، إلا أن وقتها لم يحن بعد. الله غالب.

الكاتب عبدالسلام اضريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *