بين يدي العنوان:
يمثل العنوان العتبة الأولى من عتبات النص، والتي نلج منها بصورة شرعية لفك شفرات النص، والكشف عن أسراره، واستدرار مراميه، والتوغل داخل دروبه على هدى وبصيرة.
“حديث الكائنات” هذا هو الإطار الذي يخضع له النص، وينطوي تحنه. إننا بإزاء حديث، والحديث كلام، والكلام حوار، وموقع هذا الكلام بين الكائنات. والكائنات مفردة فضفاضة تنسحب بدلالتها على كل المخلوقات العاقل منها وغير العاقل.
نعود إلى لفظة “حديث”، والحديث بوح، والبوح عندما يتجاوز صاحبه يكون إنشاءً وإعلانًا واعترافًا. نحن نتحدث؛ لنرتاح، لنتخفف من ثقل أوجاعنا. فحاجتنا إلى الحديث تعادل حاجتنا إلى التداوي من ثقل الكلمات المحتجزة في حناجرنا.
إننا نلج للنص من بوابة العنوان، والعنوان يحمل لنا الحياة في برها وبحرها وجوها، ويحشد معها شبكة من التواصل بين الشاعر وبين الكائنات من حوله.
تُرى، هل يتراسل كل فصيل بمفرده، كل قطيع وحده، أم يتجاوز التراسل الجنسَ لغيره من الأجناس والنوعَ لغيره من الأنواع.
إننا إزاء حوار طويل، متشعب، متجذر، متجدد، متلاحم، إنه حديث الكائنات.
ولنطرح عدة تساؤلات بين يدي العنوان، قبل الولوج إلى النص؛ لعلنا نجد في النص جوابًا شافيًا عنها.
فنسأل عن فحوى التساؤلات، وطبيعتها، وكنهها ومدارها.
ونسأل عن تلك الكائنات التي تشاركت في صنع الحديث. وبأي لغة كان تواصلها وتراسلها وحديثها. وهل لا يزال الحديث مستمرًا؟ أم انقطع بانتهاء شحنة النص عند آخر تفعيلة فيه؟ وهل هو حديث ميتافيزيقي؟ أم واقعي، أم ما كنهه؟
بين يدي النص:
يقابلنا ذلك الزخم من الكائنات التي يقترب بعضها من الشاعر إلى حد أن تكون جزءًا من تكوينه ويبتعد البعض بأن يكون إطارًا لهذا العالم الذي يتفاعل فيه الشاعر ويتراسل معه.
ويلاحظ أن الترتيب لتلك الكائنات جاء منطقيًّا متسلسلًا يسلم الأول إلى الثاني في سيمفونية يتواصل لحنها يعلو ويهبط إلى أن يخفت في نهاية القصيدة صوت النغم، عندما يتحدث الموت.
إن الحديث من الكائنات للشاعر، هي تقول وتتحدث، وهو ينصت في تسليم وخضوع.
إن الهيمنة في النص للكائنات/الآخر، والذي يمثل جانبان جد متباعدين: الأول أنها معادل موضوعي للشاعر، وهنا يبدو الحديث وكأنه حديث البوح والفضفضة، والجانب الآخر يمثله القدر والتنبؤ بالآتي، أو قل هي خبرات ترسلها الكائنات للشاعر مما خبرته من ملايين التجارب لملايين البشر عبر مئات السنين.
إنها قصة تتكرر كل وقت وحين. ولذا كان الزمن السائد في الحوار هو الزمن الحاضر من خلال تلك التيمة الأثيرة لبنية الحوار “تقول لي”، فهناك طرفان ورسالة، والهيمنة للطرف الأول، والذي يملك زمام الكلام.
وتشير الدلالة الزمنية لفعل الحوار إلى تكرره وكثرة وروده، إنه حوار مع الحياة ومع الموجودات، حوار بين الشاعر وبين الكائنات التي يعايشها، يختلط بها، يمتزج بها وتمتزج به، إلى حد التماس في المشاعر، إنها تشعر به تحياه، تعيشه، وتنصحه وتوجهه، وربما تخيفه وتنذره.
الحديث الأول للبحر:
والبحر عنوان للتقلب، وهو من الاتساع بحيث يأتي على كل شيء، ولا يبالي إن توارت الأشياء في أحشائه. لذلك كانت حكمة البحر، والتي افتتح بها الشاعر النص، هي سرد واقعي لحال البحر:
(لا شيء يبقى على حاله
كل شيء
من الغيب يأتي
إلى الغيب يمضي)
والبحر، هو ذلك المتسع من الماء المالح، والذي يقف على طرفي نقيض من البر.
والبحر كذلك يستدعي بتداعي الأفكار وجذب الفكرة لأختها، بحر الشعر، فكلاهما مأوى، الأول تأوي إليه الكائنات، والثاني تأوي إليه الكلمات.
ومن البحر المائي إلى البحر العروضي، يكون خطاب القصيدة لشاعرها:
(تقول القصيدة لي
صغتني
من حناياك برقا
أنارك حتى احترقت
لينتصر الشعر
بالطعنة القاتلة)
إن القصيدة تتشفى من الشاعر، كأنها دخلت في صراع معه، وكان لها الظفر، وكان للشعر النصر، ولكن الثمن كان تلك الطعنة القاتلة، والتي أودت بالشاعر في صراعه مع الكلمات، فالشعر قد نال من شاعرنا حتى مسه منه الحرق. وهنا تأتي المسافات بما تمثله من الرحيل وما توحي به من البعد، تأتي للتشفي وليس للتداوي، ولتحول بينه وبين ما يرتجيه، فيكون مسيره ابتعادًا، وبعده لها راحة، وانكساره لها انتشاءً ونصرًا.
إنه صراع الشاعر مع المسافات، والتي حالت بين قلبه وما يشتهيه. إنه البُعد بزمكانيته، كلما أوغل في المكان تناءى في الزمان، وعندها في نشوة المنتصر تجابهه المسافات:
(ستسعدني دمعة العجز
في عينك الذاهلة)
إن الأرض قيد، والشاعر قد انهزم في سعيه الأرضي، ولذا أنصت بكليته للريح، وهي تقول له:
(طر للأعالي
تحرر من الخوف والأمنيات القديمة
واختر لنفسك منفاك بين الجهات
وكن ما تشاء)
إن التحرر مقرون بالتخلي، والانسلاخ من الماضي بمخاوفه وأمنياته، أعني التحرر من الانتماء إلى اللاانتماء. وكأني بالشاعر وقد اختار من بين الجهات منفاه، ونبت من جديد عبقًا يطلق للعابرين عبيره، ولكنه كتلك الوردة التي تخاطبه، يوشك أن يهزمه الجفاف:
(يعصر العمر كالوردة الذابلة)
ويستدعي الحديث عن الورد الحديثَ عن الشوك الذي يحمي الورد من عبث العابثين، فينصحه قائلًا:
(صن سر قلبك
لا تفتح الباب
كي لا تدوس على جرحك القافلة)
إن البوح هلاك، ولذا تحتم عليه أن يوصد كل النوافذ والأبواب.
ويشي حديثه مع الحبيبة بالغربة والاغتراب معًا:
(من أنا
ومن أنت
هل نحن
رجع الصدى
من زمان الغناء)
وقوله:
(غريبان نحن
فمن يمنح القلب تذكرة للرجوع)
وهنا يتضح زيف المشاعر والوهم التي أنفق فيها الشاعر عمره، حين يخاطبه قلبه معاتبًا:
(أتعبتني في انتطار الذي لا يجيء
وبددت عمرك
لم تلق الا السراب الذي يخدع الروح
والأوجه القاتلة)
وتتجلى حيرة أخرى من حديثين، أحدهما للرمل، والآخر للجبل، حين يحيله الرمل على الجبل:
(لا تتشابه
وكن جبلا
لا يبالي
بخطو الليالي
وأحمالها المثقلة)
ولكن الجبال بحملها تنوء:
(تعبنا
الم يحن الوقت كي نستريح)
ولكن رحلة الشاعر لمَّا تنته بعد، فترسل له القطارات رسالة فحواها:
(درب على الفقد قلبك
كي لا تفاجئه بالرحيل المحطات)
وكأني به يستعيد حديث المسافات، فالقطار يوغل به في البعد الزمكاني لرحلته:
(عوده
أن يقبل البعد
في اللحظة الفاصلة)
فالمحطات كما تحكي هي عن نفسها:
(انا محض وهم
لكي تخدعوا نفسكم بانتهاء الرحيل)
فكل محطة هي فاصلة زمانية ومكانية معًا:
(بين رحيلين
ما كان
ما سيكون)
ويأتي الحديث الأخير للموت، وهو المهيمن على النص من أوله إلى منتهاه. إن كل بُعد موت وكلَّ رحيل موت، وانتهاءَ كل محطة موت، كما أن ذبول الأزهار موت.
وها هو الموت يجلس قابعًا في انتظار نهاية تلك الرحلة الطويلة:
(أنا في انتظارك
اعددت حفرتك المستطيلة
ثم استرحت على مقعدي
كامنًا في شقوق التفاصيل
منتظرًا
نهايتك المقبلة)
إنه الموت قابعًا يطالعنا عن كثب، يترقب خطانا، منظرًا اللحظة الحاسمة التي ينقض فيها علينا مسدلًا الستار على رحلة المسافات الطويلة، والتي أبحر فيها الشاعر من خلال بحر المتقارب، قارب فيها بين الكائنات التي تعيش في عالمه وواقعه، مجسدة من مجموع أحاديثها معه رحلة عمره.
لقد حضرت الكائنات كمعادل موضوعي للشاعر، فهو المتحدِّث والمتحدَّث إليه. ومن خلال بنى التضاد المتناثرة عبر النص، شيَّد الشاعر بنيان هذا النص الذي تتصارع في الكائنات والكلمات على مسرح القصيدة، ما جعلها ـ القصيدة ـ عدْوًا سريعًا تمثل في سرعة بحر المتقارب، زاد منها القبض مغلبًا الحركات على السكنات؛ ليزيد من سرعة اللهاث، راكضًا بالقصيدة من مبدئها إلى منتهاها في رحلة بدأها بالبحر بما يمثله من فضاء لانهائي، وانتهى بها عند الموت، بما يمثله من السكون والعدم، فيحط الشاعر رحاله ويخلد للسكون.
د. سعيد محمد المنزلاوي