الصالة واسعة والاضواء خافتة… نظرت حولي فلاحظت أنني الوحيدة التي تجلس بمفردها بدون صديق، أو بعبارة أدق بلا حبيب. سحابة من اليأس اعترتني، ولأخرج نفسي من هذه الحالة السوداوية، أخذت أتأمل المكان بكل تفاصيله بدءا من الطاولات والكراسي الخشبية المصنوعة على الطراز القديم الى الستائر المتهدلة الرقيقة التي لم تستطع أن تخفي وجه القمر المتوهج… لم أره في حياتي بمثل هذه الروعة.
شيئا فشيئا زال يأسي واضمحل… صوت الموسيقى الهادئة اعتق روحي، وحملها مع اللحن الحنون الى البعيد، حتى ظننت أنني أتجه بخطى خفيفة نحو القمر لأعانقه و أحضنه… تلاشيت ولم أعد أشعر بشيء.
صوت ذكوري أعشقه لملمني رغما عني. هذا الصوت الذي يستطيع كعادته ان يحتويني في ثوان ويبعثرني في لحظات.
ها هو واقف أمامي. لا تفصلني عنه سوى طاولة صغيرة وأيام طويلة من الهجر والنكران. لا يبدو أنه تفاجأ بوجودي والأهم أنه لم يكن برفقة أحد.
ألقى التحية.. كانت تحية عارية من كل شيء سوى من سطوته التي تربكني وتفقدني صوابي. لم أقم من مكاني. حاولت أن أظل متماسكة كي لا يكتشف أنه لا زال يسكن بداخلي. مد يده مصافحا، لاحظت أنه لم يشد على يدي كعادته، لم يمسكها مطولا كما كان يفعل. لقد كانت مصافحة سريعة، رسمية إن صح التعبير، وهو الذي كان يكره كل الحواجز التي تفصلنا ويدك كل الاسوار التي تفرقنا.
كان رجل ساعاتي النفيسة، وكنت امرأةلحظاته العابرة. كان لي رجلا من نار وكنت له امرأة من ظل. تنبهت الى أنني أستعمل كلمة ‘كان’… نعم كان وكان وكان… وكنت وكنت وكنت يوما بين كان وكنت.. اسئلة كثيرة لم أجد لها جوابا يشفي غليلي ويعزي كبريائي.
“مرحبا…” قالها بلا حرارة في الوقت الذي بدت فيه تعابير وجهه تنطق بما لم يقله أو ربما بما أراد قوله. شعرت بغصة، فلقد بدا لي بعيدا وغريبا كشبح خارج من عتمة القبور.
“يا لك من غبية. لو كان يشعر بشيء تجاهك لم يتركك كل هذه السنوات.. قلت ذلك لنفسي كي لا أتفوه بكلام قد أندم عليه لاحقا في ساعات وحدتي.
كل ما فيه يصعب علي الأمر، عطره الذي بدأ يطغى على كل العطور، ووجوده الذي يخترقني ويحرقني جملة وتفصيلا… لم يكن أمامي من حل سوى الالتزام بالصمت.
“لم أعهدك هكذا من قبل… استجمعت شتاتي ورسمت ابتسامة على شفتي وقلت له:” أنت قلتها، من قبل… لقد مر زمن طويل. أليس كذلك؟ لقد كبرت وأصبحت أكثر نضجا. “
كنت أود أن أسأله عن قصده، ولكن الاحتياط واجب كي أضمن عدم الانزلاق الى متاهاته التي لم انج منها يوما.
احتواني بنظرة عميقة وكأنه يريد أن يختبر نضجي الذي صرحت عنه صرحت عنه، شعرت بأنه يشرحني قبل أن يرفع كتفيه بحركة لم أفهمها. جلس قبالتي بدون أن يطلب الإذن مني، تأملته… لا زال ذلك الرجل المغرور. وكم كنت أود أن أحرق صوره، أن أمزق هداياه، أن أغير تسريحة شعري التي أحبها، أن أغير لونه، أن أفعل أي شيء يدل على أنني لم أعد كما كنت… لم أعد تلك المرأة التي عرفها يوما وحفظها عن ظهر قلب، ولكنني لم استطع أن أكون سوى ما كنت عليه وما أرادني أن أكون عليه.
“هل أنت على ما يرام؟”
“أنا بأفضل أحوالي. هيا قل لي لم عدت؟”
“أنا لم أذهب مطلقا.”
ها هو يتلاعب بي مجددا. يا له من حقير. الكل يعرف أنه كان في “انكلترا” حيث الشمس شاحبة كالمشاعر التي في قلبه.
“من المؤكد أنك لست هنا لتعتذر”
” ومن أتى على ذكر الاعتذار”
كرهت نفسي لأنني ضعفت، لأنني لم انسحب ما إن رأيته، لأنني لم أمنعه من الجلوس الى طاولتي. ربما خالجني بعض الأمل. تناولت جزداني الصغير وقمت من مجلسي بسرعة. توقعت أن يستوقفني ولكنه لم يفعل. سرت مبتعدة عنه… توقعت أن يناديني ولكنه لم يفعل.
خرجت من المقهى… توقعت أن يعترضني ولكنه لم يفعل.
فتحت جزداني بعصبية… وقع مفتاح السيارة على الارض، توقعت أن يلمه عني ولكنه لم يفعل. أخذت نفسا عميقا، لن أتركه يتلاعب بي على سجيته. سأجابهه وأواجهه. سأقول له كم أمقته وكم أكرهه. عدت الى طاولتي والغريب أنني لم أجده. كان هناك عاشقان متيمان ينظر كل واحد منهما الى الآخر بشغف كبير. كنا نحن كما كنا.
أهرع،أهرول وأركض بأقصى سرعة نحو عتبة داره التي تحرقني. أطرق طرقات عنيفة… طرقات مجنونة… أتعب، أهوي على الارض. تنطفئ أنوار منزله،ولا أسمع سوى قهقاته تتردد في ظلام الليل. وكمن يختار كفنه ويحفر قبره بيده، أراني أنتظره لينحرني من جديد ليقتلني مرارا وتكرارا.
الكاتبة زينة الغول