صدرت ـ قبل أيام ـ عن دار أزمنة الأردنية رواية “كان عندي بيت” للدكتور صالح الشوره والأستاذ صالح الشرقي، جاءت الرواية في 145 صفحة من القطع المتوسط، غاصت في أعماق المأساة التي عاشها الشعب السوري نتيجة الأحداث المؤسفة التي لبدت سماءهم عقداً من الزمان، تقرحت فيه الجروح، وتعفنت فيه الجثث، وذهبت من أهواله العقول، مأساة عظيمة صادف وقت نشر الرواية انقشاع غمتها، وكأنها ساعة استجابة! قال الدكتور صالح في عبارته التي أهدى لي فيها الرواية: “وما يدريك لعلها تأتي فتستقر روح ساره”. بشراك دكتور صالح، أضنها دعوة لقيت منفذاً فسيحاً ساعة استجابة، اليوم استقرت روح ساره برمزيتها، وأملنا أن يتمكن رجالات سوريا وشعبها العظيم من إعادة بناء بلادهم التي هي رئة العالم العربي، وبسلامتها وتعافيها تكون أمة العرب بكامل عافيتها وسلامتها.

نكأت الرواية الجرح السوري الذي سبب تشرد أبنائها في أصقاع المعمورة، نتيجة الطغيان والاستبداد التي مورست بحقهم من جلادين اغتصبوا السلطة، وعاثوا في سوريا فساداً، حمّل الراويان ساره مسؤولية الحديث عن معاناة المهاجر السوري الذي شُرد من بلده بالملابس التي يلبسها هرباً من الموت إلى الموت “كنت أدرك وأخي بأننا نهرب من الموت إلى الموت ولكن مع القليل من الأمل، إذ لا أمل في الحياة لو بقينا في بلادنا” (ص: 64)، فاستجابت ساره، وكانت الرمزية المُعِينَةَ لهما لتفجير ما كبتت نفسيهما من ألم ومرارة يشعُرانها تجاه شعب الرحابة والحضارة الشعب الشقيق من الروح والجسد.
اقتربت ساره من أطراف السلطة؛ لتكون شاهدةً على غدر الدكتاتور والمتسلط لكل من عَرَفَ بسوريا، إن كان صديقاً، أو حبيباً، أو كان وسيلة من وسائل الابتزاز وفرض الواقع، فعند أعوان السلطة المتعطشة للدم والإذلال، لا قيمة لصديق أو حبيب يقف في غير الفئة الظالمة الغاشمة، بل إنه يرى في بيعه الصديق والحبيب قرباناً للنظام، وحفاظاً على مكتسبات الحزب والشرذمة الملتفة بعباءته، ولا تكون قيمة الفرد السوري الحر المخلص إلا وزن جسده دماً، قالت عن زياد الذي يقدس الطاغية وحزبه مع ظلمهم للناس، وقد تَقدَمَ لها على أنه الحبيب القريب أو كلّاب الموت إن لم تكن في تيار شقاوته وغروره “أقسم لي قبل أن تنبس شفاهنا بكلمة بأنه يحبني” (ص: 18)، قُتِلَ أبويها ردماً تحت الأنقاض بعبوة متفجرة كحال كل السوريين الذين تلقوا القذائف من جنبٍ، ومن باب الدعاء، ومن نجا من القذائف، مات في سجنه بعد أن مات من فنون التعذيب والقهر، وأسرعهم موتاً من غادر عقله جسده قبل أن تنسل من جثمانه الروح.
لم تنس ساره أن تقول لنا أن في سوريا رغم كل ما عاشت من قسوة الأسد ومن استتر بذيله، رجالاً ما تركوا من جهدهم شيئاً في لملمة جراح إخوانهم، فساعدوهم رغم كأس الموت الذي يرونه أمامهم لقاء هذا النبل وعظيم الشهامة، التي كان يراها فلول النظام خيانة لهم وللبلاد، فكان والديها رمزاً للمخلصين في عهودهم من أهل المهن الطبية التي لم تنثن عن القيام بواجباتها الإنسانية “قلنا لك يا دكتور لا تعالج أي واحد يأتي عيادتك إذا ما كنت متأكد إنه ابن بلد ووطني” (ص: 29)؛ “وما كنت أعلم أن أبي ذلك الطبيب الإنسان الرقيق وأمي التي شُقت من نور ملائكة كانا يشكلان عبئاً على أمثال هؤلاء” (ص: 52)، والعم أبو مصطفى الذي مثل سيميائياً شريحة واسعة من أحرار سوريا المخلصين للتعامل مع ظروف البلاد وتخليص أهلها من الشرور والطغيان بما أوتي من حيلة ووسيلة، مكنها أبو مصطفى من الهرب وشقيقها وتركهما على ساحل بحر الحياة، قالت ساره: “وصلنا إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط أو بحر سوريا كما يحب بعض السوريين تسميته لكثرة ما استغاثوا وصرخوا فيه ثم غرقوا وماتوا هناك. ومن ذات المكان، بدأت ملحمة البحث عن الحياة” (ص: 63).
في الغربة وظف الروائيان عدداً من الشخصيات مثلت حالة التعاطي الخارجي مع المواطن السوري الفار من القهر بحثاً عن السلامة والاستقرار، فتغشاهُ الصعاب كسحاب ساقه ريح في ليل بارد، فيبحث حينها عن مكان يؤية وصديق يشعر به، وصدراً يُسند إليه هامته لتتفجر العيون دموعاً تمحُ ما لاث في النفس من يأس وكدر، لهذا كان دور كل من صديقتها فريدة وزميلها رامي أصدقاء الصدق في وقت الأمن والسلام، وأصدقاء المواقف الصعبة في زحام الحياة القاسية على مغترب لا يجد مأوىً، ولا سنداً، ولا حتى عقلاً قادراً على التفكير والخروج من حالة الغلق التي كبلت الفكر والجسد، فتتنفس الصعداء برؤية رامي الذي حفظ لها لوحتها التي تعبر عن معاناتها ومعاناة شعب هُدّمت بيوتهم على رؤوسهم لأنهم نظروا إلى السماء طلباً للحرية، وتأويها صديقتها فريدة في بيتها مع أسرتها وتقاسمها مساحة الأمل الذي وَسِعَهُ صدر أُمِها وحنو والدها على ابنة البلاد التي هامت على وجهها هرباً.
لم يتجاوز الراويان فكرة استشراف المستقبل السوري، وكانت رمزية الرواية تحدثنا أن الخروج من القبضة المحكمة على الشعب السوري من النظام المستبد تحتاج التعامل مع أطراف خارجية قادرة على تحريك المشهد وتغيير واقعه والتأثير في مجرياته، لهذا كان تعامل ساره مع سماسرة البشر، وتعاملها مع الانتهازيين، والأجانب لتتخطى القيود المفروضة عليها للوصول إلى حالة الاستقرار التي تنشدها مدركة الصعاب والعواقب لهذا التعامل، وهذه المخاطرة، لكن تغيير الحال يتطلب ركوب المحال. وتحدثت الرواية برمزيتها عن بارقة الخير التي نفثتها أرواح عشاق الحياة والخير والإنسانية من السوريين المهجرين في أكناف الدنيا التي طافوها في رحلة التهجير القسري فكان لهم وشماً على وجنتي كل منزل نزلوه. جاءت ثمرتها بمساعدة السيد هنري الذي مثل المساعدات الأمريكية للسوريين برمزية ذكية من الروائيين تمثلت أحداثها بتدخله في تصويب وضع إقامتها في أمريكا، ودوره في استقدام شقيقها سامر الذي ابتلعه البحر في رحلة العبور من سوريا إلى اليونان، وبمشهد لقاءها بشقيقها تكون وصلت الرواية إلى خاتمتها السعيدة المتفائلة بعودة سوريا إلى الحياة من جديد لتُعمّر بيوتها، وتقف في مصاف الدول الحاملة لشعلة الحضارة الإنسانية. “نعم لوحتي كان اسمها كان عندي بيت ولكنني غيرت اسمها الآن إلى صار عندي بيت”.
تمكن الراويان من توظيف فنون العمل الروائي (أحلام لصناعة مدخل تصوري للأحداث، رمزية شخصيات وارتباطها بالأحداث السردية، رمزية العنوان المستمدة من لوحة كان عندي بيت التي تمثل الأمل، وكانت تتوارد صورتها وذكراها في أحداث الرواية، وكانت شاهدة على انقلابات الأحداث السردية، وتمكنهم من تقديم السردية الروائية بطريقة أدبية جميلة سهلة تفاعلية) الرواية نجحت في أن تجعلني أتفاعل مع فكرتها وسرديتها تهانيّ للروائيين على هذا العمل الفني الجميل.
د.كايد الركيبات