قصة قصيرة للأطفال الباب العتيق للكاتب إيهاب خضر

له هيبة وشموخ؛ اكتسى حلة الزمان وجمال المكان. اشتراه جدي في شبابه من قاهرة المعز من تاجر للأبواب الأثرية، فكأنه قد فرّ من عصر المماليك إلى أيامنا تلك بنقوشه البديعة، فاستقرّ به الحال، وارتاح من ذُلّ الترحال في كفر غبريال.
ذات بهجة مقمرة بالشرفة، وعطر الياسمينة يفوح ليكلل جلستنا بالبهجة، أخبرنا أبي أننا سوف نعود لزيارة الجد والجدة صباحًا، وعلينا الاستيقاظ مبكرًا فالمسافة بعيدة، بينما أمي تسطر تعليماتها المعتادة فوق رؤوسنا بمنظومة وترتيب حفظناه عن ظهر قلب، وإن لم نكن نطبق حرفًا مما يقال: “الحذر الحذر من السقوط في الساقية، السير على ضفاف الترعة دون حذاء، اللعب بالقواقع فهي تحمل البلهارسيا التي بسببها يعاني أكثر الفلاحين.”
تلك الزيارات هي المحببة لقلوبنا، فبفضلها تنتقل الولاية إليهما، خاصة جدتي، حيث ترخي لنا حبال التمرد لنفعل ما نشاء، أما جدي فهو كثير السفر لأعمال تجارته.

أخي الكبير مراد لم يتجاوز الرابعة عشرة، وأنا أتبعه بعام ونيف. وبمجرد أن أُذِن لليل بالرحيل، كنا قد ارتدينا أجمل ما لدينا وأيقظنا والدينا استعدادًا لرحلتنا المنتظرة بين الحقول. ولا ننسى “بعرور”، ذلك الحمار المغرور، الذي يشقى معنا ليل نهار حتى يكاد أن ينهار، ولكنه يسعد بما نقدمه له مما لذ وطاب من جزر وحفنة من السكر.

تراءت لي تلك المشاهد وأنا أسابق السيارة التي تقلنا للكفر حيث باب السعادة: باب الدار.
كنت دوماً أول من يصل وأجاهد لدفعه فأجد الجهد، فهو في ثقل الفولاذ. فأكتفي حينها بالطرق بمقبضه الحديدي الذي كان على هيئة رأس أسد، حتى يصل أبي ويقول مازحًا: “مالك يا معاذ؟ ألم تخبرنا أنك على دفعه قادر؟” ويدفعانه معي مصدرًا ذلك الصوت الموسيقي في أذني. وبمجرد أن ولجت، وجدتُ جدتي في صحن الدار تُشرف وتوجّه هذه وتلك من بنات عمي. وحين رأتنا، تهللت أسارير الفرح على وجهها الوقور، مستقبلةً أبي بالبِشْر، بعد أن تعاتبه على تأخره في الزيارة. وهكذا تفعل كل مرة، وإن قصرت المدة. بعد أن أرتمي في أحضان جدتي، أغرق في قبلاتها وأسلم على الجميع، أنطلق بشوق ولهفة لأتفقد ذكرياتي في كل قاعة ومندرة. هذه قاعة الضيوف، وتلك قاعة مخصصة للعلف والتبن للمواشي، وأخرى تستخدم للخبيز. أما القاعة الضخمة التي تُعرف باسم “الزريبة”، فهي حظيرة المواشي التي تقع في الجهة الجنوبية من الدار، مطلةً على الحقول الخضراء الشاسعة بجمالها الآسر.
أترك كل هذا وأصعد الدرج سريعًا نحو الطابق الثاني، حيث الحجرات الخاصة بالنوم من جهة، ومن جهة أخرى الفناء الفسيح في الهواء الطلق. تقف به صوامع الغلال شامخة، والنخلة الباسقة يتدلى منها سباطة البلح الحياني أنهل منه كيف أشاء.
كل شيء هناك كان ينعش الروح والفؤاد. كنت وأخي نُعّد لمغامرات كثيرة وما سوف نفعل في تلك الأيام القليلة.
قضينا اليوم نمرح في الفَسَحة مع بعض الصبية من أبناء عمومتنا، حتى أتى جدي من بعيد وقد كسته حلة الوقار. فالكل أمامه بالطبع صغار. قمنا جميعًا بتقبيل يد جدي، وعلى رأسنا والدي، وقد هلل لنا مرحبًا.
أخذ والدي يقص على جدي حكايات نَمَلُّ منها نحن الأطفال، حتى أشار لنا ابن عمنا الكبير صفوان بإشارة نحو الزريبة، وبها الصديق بعرور. فقمنا سريعًا لنمارس هوايتنا الجميلة بالركوب على ظهره العريض ولف الكفر به ما بين الحقول على مشارف الترعة وظلال أشجار الكافور.
في تلك الليلة أحضر لنا صفوان حمارين آخرين، فأصبحنا ثلاثة فرسان نمتطي ظهورها، تتقاطر السعادة من قلوبنا، ونحن ننتقل بين أروقة الحقول.
أثناء السباق، انطلق بي “بعرور” بجنون، وكأنه قد تلبّسه شيطان عنيد. كان الليل قد أرخى سدوله، وغمر المكان بظلامه المهيب، حتى وجدتني واقفًا بين القبور. هناك، كان أحد القبور مفتوحًا، يتصاعد منه دخان أزرق اللون، تنبعث منه رائحة أشبه برائحة البخور، وكأنها تحمل سرًا غامضًا من عالم آخر.

لا أدري لحظتها لِمَ انقبض قلبي، حين دفعني الشغف، وجعلني أقترب رويدًا رويدًا على حذر. وكلما اقتربت سمعت صوتًا لا هو صوت البشر ولا حفيف أوراق الشجر، يبدو كمواء القطط المذعورة. وعلى بابه وجدت حجرًا من الجرانيت له شكل سداسي منتظم يلمع في ظلمات ليلٍ دون قمر. تجرأت وحملني الفضول أن أمسكته بيدي، فانطفأ بريقه، واختفى الدخان، وسكت الصوت. هدأت نفسي قليلًا، ثم سمعت صوت ابن عمي يأتي من بعيد ينادي عليَّ وقد علا صوته ملامح الخوف. لحظتها دسست قطعة الحجر في جيبي وكأنه كنز حصلت عليه وحدي، ثم ناديت قائلًا: “أنا هنا يا صفوان.”

أتى سريعًا بمفرده، وسحب لجام بعرور دون أن ينطق حتى خرجنا من حرم المقابر. ثم انفجر بي قائلًا: “كيف تأتي إلى هنا؟ هذه المقابر ملعونة، ولم يعد يُدفن بها أحد منذ زمن. لقد ظللنا نتبعك إلى أن اختفيت فجأةً، ولولا أن رأيت ذلك الدخان واقتربت مناديًا وأجبتني، لما عرفت مكانك.”

أخبرته أنه لا حيلة لي في الأمر، فقد انتابت بعرور فجأة حالة من التمرد وأخذ يعدو سريعًا، حتى صرت هنا ورأيت الدخان وسمعت صوتًا مريبًا. وحين اقتربت، اختفى الصوت.
قال صفوان: “يكفي هذا. فأخيك مراد ينتظرنا على أول الطريق. هيا لنعود حتى لا يقلق من في الدار، ولا تحكِ لأحد بما حصل؛ فساعتها لن نستطيع الخروج حتى على أعتاب الباب.”
لم أقص على أحد ما رأيت. ذهبنا جميعًا للنوم بعدما تناولنا ما لذ وطاب من أصناف الطعام المحببة إلى قلوبنا. وظللت طوال الليل أفكر فيما حدث. وبعدما نام الجميع، نزلت إلى ساحة الدار وكأن هاجسًا يناديني.

حينها تذكرت الحجر، فأخرجته من جيبي. وقد انطفأ بريقه، لكن حدث شيء عجيب: كلما اقتربت ناحية الخروج من الدار يبدأ الحجر في اللمعان، وازداد أكثر فأكثر حين دنوت الباب.
تنبهت لأمر مدهش: الباب العتيق عليه نقوش تشبه الحجر كثيرًا. أخذت أنظر إلى الحجر وأتفحص الباب، حتى رأيت في ناحيته العلوية صفًا من رَسْمته تمامًا.

ازداد شغفي بعدما امتلك خوفي، فأحضرت سلمًا، وصعدت لأرى تلك الصفوف. فوجدت في أقصى اليسار مكانًا لحجرٍ ناقص. قربت الحجر أكثر من ذلك التجويف، فصارت حوله هالة من نور وعاد الدخان والرائحة. ثم فجأة اندفع الحجر من يدي بقوة سحرية واستقر مكانه. ليتحول الباب العتيق إلى باب من ذهب نادر الوجود.

انتابني الذعر والدهشة ولم أدرِ ما أفعل، سوى أنني أخذت أتمتم بما أحفظ من آيات القرآن الكريم فهدأت نفسي. ثم استولت شجاعتي على راحتي ونزعت الحجر من مكانه فعاد كل شيء لوضعه الطبيعي. أخذته مرة أخرى ودسسته في جيبي، وصعدت إلى حجرتي، ذهبت إلى فراشي وأنا أحاول فك طلاسم ما حدث. تراءت الأفكار لي، وعزمت أن أعرف من جدي تفاصيل هذا الباب العتيق. ثم ما لبث أن غشاني النوم، حتى استيقظت على صوت أخي يوقظني بيديه صائحًا: “لقد انتصف النهار وأنا أحاول إيقاظك مرارًا، إلا أنك لم تصحُ، وقد أضعت اليوم سدى!”

انتبهت وقمت سريعًا. وقد ظننت ما مر بي وكأنه حلم، تحسست جيب سترتي ووجدت الحجر. فأدركت أن كل ما حدث كان حقيقة.

بعد الإفطار، قصصت على أخي القصة تفصيليًا. صار في البداية يظن أنني أصطنع قصة من الخيال، إلى أن أخرجت له الحجر. بدا الذعر والخوف على تفاصيل وجهه، ثم قال: “علينا أن نخبر أمنا بما حدث، فأبانا في الخارج مع أبناء عمومته يتفقد الأراضي الزراعية.”

لكنني قلت له: “محال! لو علمت أمنا بتلك الأخبار، فسوف تمنعنا من الخروج إلى أن يحين ميعاد الرجوع.”

فكان قرارنا انتظار جدنا وإخباره بكل التفاصيل، لعل في جعبته ما يفك تلك الألغاز.
في ذلك اليوم، تعجبت أمي كثيرًا من مكوثنا بالبيت. فتعللنا بطريقة باهتة أننا نود أن نبقى بالبيت لنراقب أعمال الخبيز.

في المساء، وبعد استمتاعنا بالوجبة الرئيسة من المحشي الناضج على (الكانون) والأوز الفلاحي الشهي، أخبرنا جدي خلسة أننا نريده في أمر هام. فطن جدي سريعًا، فقد كان يمتلك ذكاءً فطريًا حادًا. ثم دعانا أنا وأخي لنجلس معه في المندرة. وحينها لا يملك أحد أن يسأل الجد.
قصصت عليه القصة بحذافيرها، و بادرت بإخراج الحجر. صمت جدي طويلًا، وأخذ يداعب لحيته وكأنه يحاول التذكر. احترمنا صمته، حتى نطق وقال:
“منذ ذلك اليوم الذي اشتريت فيه الباب، ما يربو على الأربعين عامًا، تحدث أمور غريبة معي. كنت أظنها أوهامًا، ليست بما حدث معكم نهائيًا، بل ذلك الصوت ” الأنين” الذي كنت أسمعه عند العودة للدار متأخرًا بعد منتصف الليل. لذلك حين قصصت عليَّ يا بني قصتك، تأكدت أن لهذا الباب شأنًا آخر.
عندما اشتريته، أخبرني أحد العمال العجزة في المتجر أن لهذا الباب قصة عجيبة، وأن الكثير من المشترين كانوا يهمّون بشراءه، لكنهم يتراجعون قبيل دفع المال. وقد ظننت أن هذا العجوز يقول ذلك ليعطي انطباعات زائفة عن هذا الباب الأثري ليأخذ المزيد من البقشيش. ولكن يبدو أن الباب كان يرفض بطريقة ما الانتقال إلا إلى كفرنا، حيث الحجر الناقص ينتظر من يعيده لمكانه.
اتفقنا أن ننتظر حتى ينام الجميع، ثم نكرر ما فعلته من قبل بصحبة جدي. بينما خاف أخي وآثر السلامة.
دنا منتصف الليل كالسلحفاة العرجاء، حتى صرت أنا وجدي عند الباب. وحدث ما قصصته عليه. انتزعت الحجر مرة أخرى، لكن هذه المرة دون خوف، هدأت الأمور وعادت كما قبل.
أخذ جدي يقرب المصباح نحو كل جزء بالباب، إلى أن وجد أسفل المقبض جزءًا غريبًا قليل البروز. انتزعه جدي بصعوبة، فظهرت أسفله ورقة مطوية كالبرديات القديمة مكتوبة بلغة غير مفهومة. أخذها جدي وقال لي: “سيظل هذا الأمر سرًا بيننا حتى أذهب غدًا لذلك المتجر، لأتقصى منه أي معلومة. ثم أعرج على أحد أبناء إخوتي، حيث يعمل أستاذًا في كلية الآثار، لأعرف منه تلك اللغة المكتوبة على البردية. لعلنا نصل لحقيقة الأمر.”

عاد جدي بعد ثلاثة أيام. ولا أحد يعرف سر ذهابه سوانا. كنت وأخي متلهفين لنعرف ماذا فعل، لكنه أومأ إلينا أن ننتظر.
مساءً وبعدما خلد الجميع للنوم قال الجد:
“ذهبت للتاجر الذي اشتريت منه الباب، لكنه قد غير نشاطه. سألت عن ذلك الرجل العجوز، فأخبروني بأنه قد مات. فلم أجد مبررًا للمكوث. ولم يتبقَ لي سوى الذهاب لابن أخي، لأخبره بعثوري على هذه البردية في أحد أركان الباب حين هممت بصيانته. طلب مني الانتظار ليوم أو يومين، حتى يعرضها على أحد زملائه المتخصصين في علم اللغات القديمة.
أخبرني بعدها بكلام عجيب:
أن البردية مكتوبة باللغة الهيروغليفية، توضح أن هذا الباب قد عكف على صناعته أحد الجان في أحد القصور القديمة. وقد شيده صاحبه لبيت محبوبته، وهو من الذهب الخالص. إلا أنه إذا استُخدم لغير الغرض من صنعه، تتغير طبيعته لتصبح من الخشب والفولاذ.
وقد شيدت له طلاسم لعنة إذا ما حاول أحد غير صاحبة الباب أن ينتفع بذلك الذهب.
ثم أردف أن هذا الكلام لا يعلم صحته، لأنه لم يتحقق من صحة البردية، ويثبت كونها أثرية أم لا. وهذا يلزم لجانًا للدراسة. لكنه أضاف أنه إذا كان هذا حقيقيًا، فإن هيئة الآثار المصرية ستأخذ هذا الباب.”
فطن ابن أخي لخطورة الموقف، وأخبره أن هذا قد يكون مزحة من أحد أبناء صاحب البيت. فاللغة الهيروغليفية القديمة صارت معروفة ومتاحة لدارسيها في الجامعات. وطلب منه أن ينسى الأمر تمامًا، ثم أخبر جدي كل تلك التفاصيل.
أخذ جدي الحجر حتى لا يحدث لأحد أي أذى بعدها. وأوصى أن يظل هذا الأمر سرًا بيننا.
بعد عدة أيام، هاتف جدي أحد الأشخاص. وأخبره أنه صديق لصاحب المتجر الذي اشترى منه الباب. وعَلِم من أحد العمال بزيارته. و قال له إن الباب ملعون، وهو يعرف أحدًا من الأشخاص يبحث عنه حتى الآن لغرض لا يعلمه. وقد عرض هذا الشخص مبلغًا كبيرًا من المال يفوق التوقع.”
أخبرنا جدي بهذه المحادثة ونحن نحزم الحقائب للعودة. فلم ندرِ كيف نقنع أبي بالبقاء. لكن ما حدث بعدها كان أغرب من الخيال، يصعب تصديقه.

الكاتب إيهاب خضر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *