هذه المرة الثانية التي أقرأ فيها رواية “اليسيرة”، حيث جذبني حجم التوظيف الأسطوري المتداخل مع التراث الشعبي الفلسطيني، والممزوج بالواقع المباشر، أو من خلال الرمز، فمن خلال هذه الرواية استطاع “صافي صافي” أن يثبت بأن التاريخ الأسطوري الكنعاني والتراث الشعبي الفلسطيني يمكن من خلالهما تقديم عمل روائي مميز، وفي اعتقادي أن هذا التخصيب للنص يعد مسألة في غاية الأهمية، وذلك يعود لطبيعة الصراع على الأرض والوجود الإنساني الفلسطيني.
يبدو السارد وكأنه يقول: بأن مثل هذا الإرث الأسطوري والشعبي لا يمكن لأي قوة أن تلغيه، فهو يعد تراثا إنسانيا خالدا، لامتداده إلى حقب زمنية بعيدة، ولتواصله واستمراريته في الذاكرة الشعبية للإنسان.

الرواية تتحدث عن مكان “اليسيرة”، أحيانا تكون فلسطين، وأحيانا قرية من قراها، هناك شخصية “الظبع”، الشخصية المهيمنة على الأحداث الروائية، ويتبعها، “أبو عمي والمختار أبو مسعود، والحاج مسعود، والواوي والشيخ عبد الغني”، أما النساء فهناك “فظيعة، وجليلة ومظوية”، وقد أعطى السارد أدوارا متساوية بين الرجل والمرأة، فكلاهما كان يقوم بدوره في الأحدث الروائية، ومن هنا يمكننا القول إن الرواية تساوي بينهما، ولا تسيد الرجل على المرأة.
سنحاول تناول بعض الجوانب الفكرية والأدبية التي تناولها السارد في الرواية، حيث إنها مترعة بالأسطورة والتاريخ والتراث.
ارتباط الشخصيات بالتاريخ العربي قبل الإسلام يعد أمرا حيويا في الرواية، فهذا يشير إلى استمرارية وتواصل للإنسان على هذه الأرض، فهو وجود لم يكن عابراً أو مؤقتاً، فشخصية “أبو عمي” تنسب إلى: “إنه محمد احمد سليم عبد الجليل سعيد العابد سلام الخزاعي، أصله من العرب الأقحاح جاؤوها من اليمن على شكل موجات إثر خراب سد مأرب متنقلين كقبائل عربية وصلت إلى بلاد الشام” ص 5، بهذه الكيفية ربط السارد شخصيات الرواية بالتاريخ، وكأنه يؤكد لنا بأنها الأصل السلالي والعرقي هو نقي يمتد إلى جذور عربية أصيلة، وأن هذه الشخصيات لها تاريخها ومعروفة تاريخياً.
الأسطورة والتراث
ربط المكان بالأسطورة الكنعانية يعد ردا بليغا على القول التوراتي بأن هذه الأرض لبني إسرائيل، السارد ربط اسم “اليسيرة” “بأشيرة” الربة الكنعانية التي توازي عشتار بعطائها وصفاتها: “يقول المثقفون بأن اسمها الأول كان أشيرة، وهي زوجة أيل بمعنى الله، وهي أم لأربعين إلها وإلهة، وهي خالقة الآلهة، وهي “أشيرة البحر” أي الربة والسيدة العظيمة، وعندما احتل البعل مكانته الرفيعة وأصبح خليفة، أصبحت زوجة له بحكم الإرث، ومعنى اسمها المشي والخطو المتئد، … اسم اليسيرة مشتق من كلمة السهل، … ربما جاء من اليسر بمعي البركة والسهولة… وأن أهل اليسيرة من السهل التعايش معهم… وأهل اليسيرة هم أسرى بلدتهم… وهم بالفعل كريمون، لا يردون ضيفا” ص 26، 27، 28.
فيما سبق، أسهب السارد في الحديث عن معنى وطبيعة الاسم، وكيف يرتبط بالأسطورة الكنعانية التي تتقدم كثيرا على تلك التوراتية، كما أن وصف سكانها وأعطاءهم صفات وطبائع يعد ترسيخا للترابط بين الإنسان والمكان/”اليسيرة” على مر الزمن.
الجنس والتراث
لقد تعامل السارد مع الجنس بطريقة لافتة، وقدم لنا ليلة الدخلة من خلال أغنية شعبية، يرددها الكبار والصغار:
واوي أتجوز واوية”
الواوي مثل الطبلية
واوية قالت : يا بيي
واوي شو هالهية
واوية رايحة جاية
والواوي بستنى في العلية
ولما اجت واوية
هجم الواوي بحمية
قالت له استنى شوية
واوي على مهلك علي
قال: هيك الجيزة الجيزية
وإلا بتروح علي” ص35.
إن استخدام الأغنية الشعبية كان يضيف تحسينا آخر على النص الروائي، فمن خلاله نستطيع أن نعرف كيف كان الناس يفكرون بليلة الدخلة، وما هو المطلوب من الرجل، فهو سيد الموقف، وليس المرأة.
الجنس والأسطورة
لم يكتف السارد بربط الجنس بالتراث الشعبي، بل توغل أكثر عندما ربطه بالنص الأسطوري الكنعاني، فهناك نص أسطوري يسمى بالزواج المقدس يتم بين الكاهنة العظمى وبين الملك، ويشارك فيه الحضور، من خلال المشاهدة وأيضا من خلال القيام بطقوس الزواج.
هذا الأمر قام به كل من “الظبع وأبو عمي” عندما تزوج “الظبع” من “جليلة” “وأبو عمي من فظيعة”، فكان وصف الزواج كما يلي:
“لأسبوع كامل قبل العرسين والناس تحتفل، كان الناس يأتون بعد العصر زرافات ووحدانا، جاء كل أهالي القرى المجاورة الرجال في المقدمة وأولادهم يجرون كبشا أو شاة، الرجال يغنون أغاني السحجة والنساء وراءهم يحملن على رؤوسهن الرز والخبز وهن يغنين: وإحنا مشينا من بلد لبلد” ص 60. إذا عدنا إلى النصوص التي تناولت طقوس الزواج المقدس سنجد بأن السارد قدمها لنا من خلال هذا الوصف، تنظيم المواكب وما تحمله كل مجموعة وما يقومون به من غناء يكاد يكون صورة طبق الأصل للنص الأسطوري، كما أن الصور المنحوتة التي تركها أسلافنا تتماثل مع هذا الوصف، فالشعائر متطابقة تماما.
لنستمع إلى بقية طقس الزواج المقدس: “زغردت النساء، ودفعن جليلة التي كانت قد أتت من قريتها، دفعنها لترقص أمام الحاضرين، فأمسك الظبع بيدها ورقص، فإذا بأبو عمي يأتي بفظيعة ويرقص معها هو الآخر… انتشى الظبع بما رأى، شاش مزاجه فحمل جليلة وفظيعة، كل منهما بيد، وطلب من أبو عمي أن يعتلي كتفه، فاعتلاه، ورقص، ورقص، ورقصوا جميعا.
أكل الضيوف اللحم والرز، ووزع الحليب على الجميع فشربوا، وعلى مدار الأسبوع غنوا ورقصوا، والتقى الأحباء، واختلى الشباب بالشابات” ص 60، 61.
في المشهد السابق نجد اشتراك الزوج والزوجة في الرقص والابتهاج، فالفرح لم يكن للرجل وحسب بل للمرأة أيضا، كما أن استمرار العرس لمدة أسبوع يماثل الفترة الزمنية في الأسطورة، كما أن عرض قوة وخصائص العريس “الملك” كان يعد مسألة أساسية ومن أهم الأمور في ذلك الزواج المقدس، فبدا المشهد وكأن السارد قام بنقل الزواج المقدس من الماضي البعيد وقدمه لنا على شكل تراث معاصر.
السارد يكمل طقوس الزواج المقدس:
“وكانت كأس الظبع وأبو عمي قد ملئتا وأفرغتا أكثر من مرة… وكانت فظيعة وجليلة قد جرعتا أكثر من كأس… فبادرت جليلة وخلعت ثيابها أمام الجميع قطعة قطعة وهي ترقص وتتمايل، وفعلت مثلها فظيعة، ونزل الظبع عندهن وفعل مثله أبو عمي وبدءا بخلع ثيابهما قليلا قليلا وهما يتحنجلان حولها، ويقال بأن أبو عمي قد رقص يومها رقصة المباوبة مع فظيعة” ص 65، فهنا يتم استكمال الطقس الأسطوري بكل حذافيره، وهذا يعد أمراً توثيقياً له، وأيضاً تأكيداً على الربط والتواصل بين الفعل الأسطوري والحاضر، فحفل الزواج لم يكن حفلاً عاديا، كما يقوم به الناس، بل فعل أسطوري تماما، فكان يمكن الاكتفاء بالحديث السابق حول الطقوس الاحتفالية للزواج، لكن السارد أراد أن يؤكد مسألة الترابط بين النص الأسطوري و”اليسيرة”
“اليسيرة” والفكرة التوراتية
كما قلنا سابقاً، عمل السارد في روايته على الجمع بين ثلاثة مستويات، الأسطورة، والتراث، والحاضر، من هنا قدم لنا ما يجري في “اليسيرة” من محاولة محو لجذورها الغارقة في التاريخ التي تمتد إلى ما قبل وجود التوراة وأصحابها، فهناك صراع على الاسم ومحاولة سرقته من قبل اليهود: “اليسيرة القديمة حتى لو كان اسمها الأول يسورا، وحتى لو كان جبل عجيز يحمل اسما آخر هو بابون. فهم الآن يعرفون أن التاريخ بدأ قبل مجيء الخزاعي إلى هذه الأرض” ص82و83.
الصراع هنا ليس على الجغرافيا وحسب، بل على الاسم أيضا، وهنا تكمن أهمية تناول السارد للنص الأسطوري، فهو يقول بأن الأسطورة ـ التي تعد ذات أهمية كبرى في تاريخ الأمم ـ تؤكد بأن هذا “اليسيرة” لا ترتبط أبدا بتلك الخرافات التي تسميها “يسورا” ولا عن الخرافات التي تتحدث عن وجود أجداد خبير الآثار فيها.
“اليسيرة” والحاضر
الربط بين العناصر الثلاث يعد أحد الميزات لهذا العمل الروائي، فالسارد يرضي كافة الأذواق من خلال تقديم أفكاره بهذه الطرق، وللمتلقي أن يختار الأنسب لذوقه، من هنا كان الرمز حاضراً بالإضافة إلى الحدث الواقعي، فيقول عن هجرة أهل اليسيرة بعد أن أمسوا بلا وطن: “… يقول لابنه: سأشتري لك في العيد لاجئا تلعب عليه” ص 90، هكذا أمسى واقع أهل “اليسيرة” بعد أن طردوا من وطنهم، ويؤكد السارد واقعية الحدث عندما قال: “إذا كان الجبل بهذا الضخامة وهذا الارتفاع، لماذا لم يستعمله الجيش لمحاربة الأعداء؟ هل كان باستطاعتهم مراقبة العدو من هنا وتوجيه الضربات له؟ وإذا لم يكن ذلك ممكنا فهل من الممكن أن يفعلوا ذلك الآن؟!” ص 89، من يعرف جغرافية فلسطين يعرف حجم المؤامرة التي حيكت ضدها، فدون التآمر العربي قبل الغربي ما كانت لفلسطين أن تحتل، فهي محصنة جغرافيا، ويضيف السارد عن واقعية الحدث في “اليسيرة”: “ويقول أهالي اليسيرة بأن اليهود قد قتلوا كثيرين على الحدود، وأمسكوا بالبعض ووضعوهم في السجن، ويقولون بأن الجيش العربي أمسك بآخرين ووضعهم في السجن بتهم مختلفة منها التجسس للصالح الأعداء” ص 91، بهذا الإبداع ثلاثي الأبعاد استطاع السارد أن يقدم لنا شكلا روائيا جديدا، فالرواية لم تكن مجرد سرد عادي، أو حدثا عاديا، فهناك التنوع والتشكيل في السرد، مرة يكون الكاتب هو السارد، وأخرى يعطي الدور لأبطاله، مرة يكون الحدث منطقياً، وأخرى يتحول إلى تراث شعبي، أقرب إلى الخرافة، وأحياناً أخرى يكون نصاً أسطورياً بامتياز.
الكاتب والناقد رائد الحواري