ولادة من رحم الألم للأسيرة المحررة الإعلامية دينا جرادات

بعد أن استنزفتني وعكة صحية قاسية، حطمت قواي، عدتُ إلى الحياة مجددًا. لم أكن أعلم أنني سأدخل في معركة جديدة مع الحياة. بعد ساعة واحدة من وصولي إلى المنزل، حيث كانت العائلة والأصدقاء ينتظرونني بلهفة، كنت بحاجة إلى شيء واحد: الهدوء. وصلت إلى المنزل وذاكرتي تتقطع كالسكين تذهب وتجيء، وصداعٌ وفيٌ يلازمني. استقبلني الجميع بفرحة النجاة، لكن داخلي كان غارقًا في الظلام.

طلبت الذهاب إلى غرفتي، وهناك بكيتُ بصوت موجوع، بكاء طفل أعياه الألم. فجأة، شعرت بتخدير في جسدي ولم أستطع الحراك. هرع شقيقي ليحملني بقلب مفجوع إلى المستشفى، حيث تبين أنني أعاني من جلطة دماغية تهدد حياتي. لم تحتمل العائلة فكرة الانتظار، وقرروا نقلي إلى مستشفى آخر في سباق مع الزمن لإنقاذ حياتي.

|رحلة العلاج |
في المستشفى، بدأت رحلتي مع الألم والدموع. كان الجميع حولي يبكون بحرقة؛ بعضهم يتمسك بأمل عودتي، وآخرون يهمسون بوجع: “الله يختار لها الأحسن.” في قاموسنا الفلسطيني، “الأحسن” يعني الرحيل عن هذه الحياة. أما والدتي، فكانت تمسك مسبحتها، عيناها غارقتان في الدعاء، تناجي الله أن ينجيني من بين براثن الموت. وأنا؟ كنت في معركة مع جسدي وروحي، أحاول الصمود رغم الألم الذي ينهشني. وسؤال يحاصرني: أيُعقل أن دينا المحبة للحياة التي قاومت المرض لسنوات تهدمها أيام قليلة بين جدران السجن ومضاعفات مرض وعملية دون تخدير؟ رفضت الاستسلام.

في اليوم الأول، نمت لساعات طويلة، كنت أستيقظ على صوت والدتي المكسور وهي تتساءل بدموعها: “شو عملوا فيك؟ يما؟ شو أعطوك؟” ولم أكن أملك أي إجابة.

في اليوم الثاني، بدأ الزوار يتوافدون للاطمئنان على صحتي، وجوههم تحمل مزيجًا من القلق والرجاء. كانوا يتحدثون إليّ بحب وشوق، لكني لم أتعرف على أحد منهم. كأن ذاكرتي مغلقة، أبوابها موصدة أمام تلك الملامح التي كانت يومًا مألوفة. شعرت بالارتباك، بالخجل من أنني لم أستطع منحهم ما ينتظرونه؛ ابتسامة أو كلمة “أنا بخير”.

وعندما وصل الصحفيون لإجراء مقابلات معي، كنت عاجزة عن ترتيب أفكاري. تلعثمت مرارًا وتكرارًا، وصوتي بالكاد كان يسمع. أعادوا التسجيل مرات كثيرة، وكل مرة كان الأمر يزداد صعوبة. شعرت وكأنني غريبة عن نفسي، كأن من يتحدث ليست دينا التي يعرفونها، بل شبح هزيل يحاول أن يتمسك بالحياة.

لم يكن ذلك فقط؛ فقد كنت وسط حديثي أغفو دون إرادتي. ربما كان ذلك بسبب الأدوية التي تغلغلت في جسدي، أو ربما كان هروبي الوحيد من ثقل اللحظة. كنت أرى أعينهم المليئة بالشفقة، وأشعر بيد والدتي تمسك بيدي لتطمئنتي، لكنني كنت غارقة في عالم بين الوعي واللاوعي، بين الحياة والموت.

في اليوم الثالث، بينما كان الدوار يُثقلني ويجعل كل حركة أشبه بمعركة، شعرت بحاجة ملحّة للذهاب إلى المرحاض، لم أستطع الاعتماد على نفسي، وكنت بحاجة لمن يسندني. عادةً كان هناك أكثر من شخص يساعدني، لكن في تلك اللحظة كان شقيقي وحده بجانبي. شعرت بخجلٍ عميق يجتاحني، خجل من وضعي الذي لم أعتده، ومن ضعفي الذي كان يثقل على أحبتي. لكن شقيقي، بحنانه الذي يشبه حنان الأب، حملني بين ذراعيه وكأنه يحمل قلبه، رابتًا على كتفي برفق وكلماتٍ مطمئنة: “بكرا بتصيري أحسن، تخافيش”. في تلك اللحظة، لم يكن حمله لي مجرد دعمٍ جسدي؛ كان دفعة أمل في روحٍ أرهقها الألم.

وليلتها، خضعت لعمليةٍ عاجلة لسحب السوائل الزائدة من الدماغ. وعندما صحوت صباحًا، بدأت أستعيد أجزاءً صغيرة من الذاكرة، وكانت ابتسامة والدتي هي النور الوحيد في تلك العتمة. أما أنا، فقد كنت غارقة بين شعورين: “أنا ما زلت على قيد الحياة”، وبين الألم الذي لا يرحم.

| رحلة التعليم |

برغم الألم والمعاناة، لم أسمح لأحلامي أن تموت. كنتُ الأسيرة الطالبة التي أُبعدت قسرًا عن مقاعد الدراسة، لكنني بقيت وفيةً لحلمي. بعد اعتقال دام فصلًا دراسيًا كاملًا، عدتُ لإكمال دراستي. أصررتُ على تقديم امتحانات الفصل الأول من سنتي الأخيرة، رغم غيابي الطويل عن المحاضرات. كافحت وسط الصعوبات، وتمكنت من تجاوز الامتحانات بفضل دعم زملاء وأساتذة أوفياء.
ومع بداية الفصل الثاني، ازداد إصراري على النجاح. كنتُ أعيش بين المرض والاعتقال، لكنني وجدت قوتي في مشروع تخرجي، الذي تناول تجربة قاسية عشتها وعاشتها كل أسيرة فلسطينية داخل معتقلات الاحتلال.
قاتلتُ بكل ما أوتيت من عزيمة، وحققت الحلم أخيرًا. برغم الجسد المنهك والروح المثقلة بالجراح، انتصرتُ على الحياة مرة أخرى.

هذه أنا، دينا، وُلدتُ من جديد. خرجتُ من بين الألم والحطام، ومن أعماق المعركة التي كادت أن تسرق حياتي. عدتُ أقوى، رغم الضعف الذي أنهكني، وأكثر إصرارًا على البقاء، لأظل وفيةً لأحلامي، حارسةً لأملي، مهما اشتدت المعارك من حولي.

الأسيرة المحررة الإعلامية دينا جرادات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *