دراسة نقديّة للكاتبة سمية الإسماعيل لرواية معركة الذئب / الهوّة للأديب طاهر عدنان عصفور

يقول سيدنا يعقوب و هو ينصح أولاده ” يا بنيّ لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ و ادخلوا من أبواب متفرّقة…” سورة يوسف الآية 67
ها هو الأديب ( طاهر عدنان عصفور) يدخل علينا من أبواب متفرّقة تناول فيها صراع الخير والشر كعنوان واضحٍ أدرج في مضمونه الكثير من القضايا/ اللغة/ العلم/ الجهل/ الفقر/ السلطة و الحب مازجًا بين الواقعيّة reality، الفانتازيا fantasy ، أو الغرائبية ،الخيال fiction و الأكشن ، مع التركيز على الجوانب الفلسفية، النفسية، التاريخية، والاجتماعية.. هذا التمازج الذي أنتج الواقعيّة السحرية في سردٍ تمتّع بالسلاسة و الأناقة، و الانسيابية و التشويق.

فالواقعية السحرية لم تكن أبدا بعيدة عن التراث العربي، بدءا من قصص “ألف ليلة وليلة” الأسطورية والحكايات الشفهية المتوارثة بين الأجيال وحواديت الأمهات والجدات؛ إذ كانت العجائبية وعوالم السحر الممتزجة بالفولكلور الشعبي عنصرا أساسيا في كتابات عربية، “حيث الأسطورة تقع في بداية الأدب وفي منتهاه”، كما يقول الروائي خورخي لويس بورخيس.

وفي قراءةٍ لرواية “معركة الذئب / الهوّة” التي يجمع الروائي فيها بين الواقعي والسحري والتاريخي والأسطوري في تداخل وانفصال و تفنيدٍ و تأثيثٍ ، ناقش طاهر عصفور التحول من الواقع التاريخي للعالم السحري عندما ينطلق بطل الرواية في رحلة بحثٍ عن الوجود، عن هدفٍ يجعل لحياته معنىً و سمة .. متجهًا إلى جبل قافر، الرحلة التي اعتاد أن يقوم بها مع والده ( الطيب فاروق) صغيرًا دون أن يعرف غايتها، لكن الأخير كان يؤثث له إرثًا تاريخيًا عليه أن يكمل مسيرته، و منه إلى بوابةً تنقله داخل دهاليز مظلمةٍ تعشعش فيها الخفافيش، برمزيّة للارهاصات التي تواجهها الأمم في بحثها عن الحقيقة المتمثلة بالنور في نهاية هذه الدهاليز كاستشرافٍ أولي، ثم النهاية الحتميّة في آخر الصراع .. ينقلنا فيها الى عالمٍ من الغرائبية و الفانتازيا لنعيش معه مغامرات الفرسان و صراع الممالك مما يخلق أجواءً من التشويق يجعلك تتابع الأحداث حتى منتهاها.
يزجّنا أ. طاهر في الرواية بأسلوب المخاطبة أولًا إما ليكسب تعاطفنا أو ليجعلنا كقرّاء ننضّم إلى شخصيّات الرواية و نعايشهم أحداثها .. هكذا بدأ
” ربما هذا هو المأزق الذي وضعني فيه حسن الطيب فاروق، حيث أصرّ إصرارًا عجيبًا أن أنطلق في قصته من هذه النقطة….” ص4 حين بدأ بمعاناة حسن مع رؤاه و أحلامه ..
حسن الطيب فاروق، الحامل لإجازةٍ في التاريخ، الموظف المهمل في قسم الأرشيف في البلديّة، يعيش حياةً رتيبةً خاليةً من الإثارة ، يتفاجأ بمرض والدته الذي شخّص أول الأمر على أنه سرطان، هذا الأمر دفعه للتفكير في كيف ستكون حياته بعد رحيل والدته، و هنا بدأت أول طلائع أفكار البحث عن الذات.
عماد و جلال و سائد هم الشخصيّات الوحيدة التي كانت تؤنس حياته، لكنها مع ذلك لم تعفه من سؤال ظل يراوده :
” من أنا ؟” …..لتبدأ الرحلة التي أدخلنا في تفاصيلها المثيرة الكاتب طاهر عصفور
إنه ليس صراعًا لامتلاك مفاتيح السلطة ، و ليس صراعًا بسن الخير و الشر و ليس صرًا لاستعادة الأمجاد، إنه أيضًا صراعُ وجود..

السؤال الوجودي :
-من أنا؟ هل أنا حسن الطيب؟ و هل الإسم يكفي؟ ماذا أحب فعلًا؟ و ماذا أكره؟ لماذا جئت لهذه الدنيا و لماذا عشت فيها؟ جئت لهذه الدنيا عشت فيها كما شاءت الظروف و كما شاء والدي. فأين إرادتي من إرادتهم

و في مقام آخر يقول:
ظن أن الحلم هو ما يكدره، ولكنه اكتشف بأن حياته كلها بلا هدف
حسن الثائر ، الباحث عن وجوده و كينونته في هذا العالم، نظره متعلّق بالشرق حيث جبل فاقر ، و نوايا خفيّة تتلاعب فيه

في حديثه مع جلال ، تظهر روح الرفض، و التمرّد الداخلي على حياته الرتيبة المرسومةً مسبقًا، و كأنهم خلقوا بلا إرادة:
” و لكننا موتى ، فالمستقبل معروف سنعيش موظفين نكرات ، و نتزوج نساء مسكينات قلبلات حظ، ننجب أطفالًا و عندما يكبرون يصبحون مثلنا نكرات ، فكلنا فئرانٌ تلد فئرانًا”
إنها الجمرة التي تستعر تحت الرماد، الذي بدأت تذروه رياح البحث عن الذات، ليعلنها..
” لن أبقى موظفًا”

تمر الصفحات الأولى و هو ينثر لنا الحب كي نلتقطه كأيّ طائرٍ جائع ثم يودي بنا لا إلى القفص، بل إلى عالمٍ من العجائب و الغرائب. فالرجل الغريب الذي زاره في مكتبه في الأرشيف ليبلغه أن أمه ستشفى، لنكتشف معه لاحقًا أنه ( لاهز) كبير قادة الجيش في مملكة فرقان. و الملاك الراقص الذي كان يأتيه في الحلم.. ثم عندما يقصّ على والدته الأمر ، تعرف أنه قد أختير للمهمة، و أنه مغادرٌ إليها و لكن كما قالت ” إنها مسألة وقت”لها تقدمات يبتغي بها الكاتب تجهيزنا للأحداث التالية

تتوالى الإشارات واحدةً تلو الأخرى و كلها تقدمات يبتغي بها الكاتب تجهيزنا للأحداث التالية

فما سرّ التوافق إذًا بين رؤيتي حسن و جلال.. على اختلاف طريقة الرؤية لكنها انتهت بنفس الصرخة” لا يا حسن”

يقول : “رأيت حسن يهبط درجًا حجريًا طويلًا و متعرّجًا و مظلمًا..و صوتٌ في أسفل الدرج أجوفٌ غريب يناديه يا حسن يا حسن.. و جلال يحاول منعه.. و استطاع أخيرًا ان يستجمع قوته و يصرخ بأعلى صوته ” لا يا حسن!” ثم يأت تفسير عماد لتوافق الرؤيتين بقوله : “هذا ليس حلمًا ، هذه رؤية و إشارة، هناك شيئما يجب أن تتحققا منه “ص27-28

رؤية حسن للملاك الراقص يشير إليه و إلى أعلى الجبل مرةً بكفه و مرّة بأصابعه الثلاث السبابة و الوسطى و البنصر و في المرّة الأخرى بالسبابة و الوسطى.. أهي دلالات الوقت الذي تتناقص أيامه ، و يقترب فيه موعد “المهمّة”
-رد فعل أم حسن اتجاه أحلام حسن ، ” هي الإشارة لا ريب… اللهم احفظه يا حفيظ..”
و يردف الكاتب، ” كانت تردد ذلك و هي تعلم أن مغادرة حسن لها مسألة وقت” ص25

كما قال جلال: “ربما هي إشارة أو ربما لأيام تتناقص لحدوث شيء ما أو مهلة لحدوث شيء ما ..”
ظهور والده على نفس الجبل ، أيضًا دلالة أخرى..
وعندما أخبر حسن والدته أنه سيذهب لجبل قافر ، يقول الراوي ” لمعت عيناها و كأنها تُغالب دمعة ما”

فرحلة لم تكن اختيارًا خارجًا عن إرادته، كما رُسم له لإتمام ما بدأه والده – لإنقاذ ما جاء به القادمون الأوائل، بل هي رحلة بحثٍ عن الذات ، فمن عرف ما كان يعتمل داخل حسن ، يعرف بأنه لم يُخلق ليكون شخصًا عاديًا، فهو” يرى في داخله عملاقًا مكبلًا بقيود الظروف و الوضع الاقتصادي”

إنه المنتخب، الذي يرى في نفسه ما لا يراه الآخرون ، يقول:
” مذ كنت صغيرًا و أنا أشعر أني أغرّد خارج السرب، لا أنتمي إلى العامة…..لا أهتم بما يهتمون به …”ص25
ينقضي الوقت….


ندخل مع حسن مغامراته ابتداءً من تلقّية لرسالة والده التي توكل إليه اتمام ” المهمة” و كان في ذيلها ( ليس الجميع هنا زاجل).. هذه الرسالة الغريب التي فتحت أمامه آلاف التساؤلات ، و من ثم صراعه و رفاقه جلال و عماد مع مجموعة الذئاب البيض، يفقد على إثرها صديقيه.. إلى لقاءه بسلاف و عائلتها الذين عالجوا جروحه و على أيديهم تم استشفاؤه فانطلاقه في رحلة البحث عن الحقيقة ليجد نفسه أخيرًا في مملكة ” فرقان” و في محاولة منه التسلل إلى الحصن، تم زجّه في السجن و تعرّضه للتعذيب، ثم يتغيّر الحال عند معرفة لاهز أنه يحمل خاتم مخلب الدب.. ثم تكليفه كسفير مملكة رفقان إلى دولة صاعب ، برفقة سلاف التي تم اختيارها له كزوجة – لأن السفارة تقتضي أن يكون السفير متزوجًا- إلى مدينة صاعب لاستعادة كنزهم الذي هو سرّهم و سرّ قوتهم ( الكتاب ) و لكن أيّ كتابٍ هذا الذي يستدعي حربًا ضروس.. هناك، في مملكة رفقان بدأت أولى خطواته في تحقيق ذاته، عندما اختير للسفارة، اكتشف في نفسه ذاك الفارس الكامن، واظب على دروس القتال بوحشيّة، أتقن علم التخاطب.

أ لأجل كتابٍ – أو مجموعة كتب – تقوم كل تلك الصراعات ؟!
“من امتلك العلم امتلك القوّة ” كما قالت ملكة صاعب ( أندورا) الساحرة الشريرة التي تعلّمت السحر على يد الساحرة الكبرى في القارة الجنوبية-بلاد الظلام الداخل فيها مفقود، و الخارج منها، إن خرج… خرج فاقدًا لعقله كما حدث مع “حامد” الفنان المرهف الحس، صانع الجمال و الزخرف في قصور الملوك، اراد أن يستكشف الغرائب، ذهب الى القارة الجنوبية فعاد مجنونًا.


و العلم موجود في الكتب، و هذه الكتب هو إرث القادمون الأوائل أسلاف حسن و والده ( الطيب) من قبله.. هؤلاء هم فقط يمتلكون القدرة على فك رموزها.. لأنهم هم فقط يتكلمون لغة هذه الكتب، أيّ لغة؟ إنها العربية. هؤلاء “المسلمون” الذين فتحوا الأندلس و أسسوا فيها دولةً أثرت العالم بعلومها ، من هناك قدموا و معهم حملوا حضارة شاملة من العلم و هندسة العمران و الدين و الشعر و الأدب.. إنه التوكيد على تاريخٍ مجيدٍ، و رحلةٍ لاستعادة مجدٍ تليد، بالعمل لا بالتغنّي به.


تقول أندورا “”اقتربت أندورا من الكتب الموضوعة الطاولة الخشبية و أشارت إليها فانطلق التصفيق و التهليل من العامة: هذا هو نصرنا الأول و طريقتا للمجد و السؤدد” ص203
و هناك في صاعب،أثبت جدارته، رغم محاولته الهرب بادئ الأمر، الأمر الذي عرّضه للسجن مرّة أخرى، و هناك اكتشف من خلال كتابته لجملةٍ ذيّلها له والده في نهاية رسالته له ” لا أحد هنا زاجل” على جدار السجن، و بحديثٍ جرى بينه و بين أندورا انتبه للأحرف الأولى التي تتشكّل منها الجملة، لتنتهي بإسم ” لاهز”
و هنا تم الاتفاق بين اندورا و حسن على أن يقوم حسن بتعليمهم اللغة العربية-لغة الكتب- مقابل العفو عنه و تسليمه الكتاب و الذي اكتشف لاحقًا أنه كتابٌ واحد بعدّة مجلّدات و لدهشته التي اغرورقت لها عيناه، كان كتاب (مسند بقيّ بن مخلد) بأجزاءه الأربعة و عشرون.{ مسند بقيّ بن مخلد هو أكبر كتابٍ موجود في الدنيا للأحاديث النبويّة بإسنادها المتّصل، وهو مسند مفقود }،و في اجتماع تقديمه لشعبها و نقل

البشرى لهم ، تقول أندورا ص203
” أبشركم أننا وجدنا المعلّم، ذلك الرجل الذي سيأخذنا إلى أول الطريق، أول الطريق إلى المجد و القوّة”

كم يذكرني هذا باتفاق رسول الله صل الله عليه و سلم مع أسرى بدر عندما قايض سراحهم بتعليم المسلمين القراءة و الكتابة .
و عرف حسن لاحقًا مما حدث معه أثناء محاولته الهرب، و رؤيته للصوص الذي سرقوا العربة و من كان فيها، حين سمع تعليق أحدهم عن استخدامه الحيلة في إيقاع الآخرين، عرف أن ما لا يؤخذ بالقوّة ، يؤخذ بالدهاء، و السياسة.. فالحياة دروسٌ و طوبى لمن حفظها و أتقن تطبيقها.
على المنصّة تنقلب الموازين، تبدأ معركة الذئب، الذي تجسّد في حسن، و ملك زمام عقله، فتدرك أندورا الخديعة، و ينقلب السحر على الساحر :


“حانت التفاتة منها و ابتسمت بعد أن أدركت الخدعة، أين مظاهر الخنوع و الانكسار و التملّق التي كانت تظهر منه؟ تبخرت و حلّ محلّها قوة و ثقة و عزيمة، أدركت أندورا في آخر لحظات لها في الدنيا أنها خدعت ، تظاهر بالضعف و هو يخفي في نفسه وحشًا ما ، نظرت مليًا نحو حسن ثم ردّدت بينها و بين نفسها( نعم إنه يشبهه، يشبه ذلك الذئب) ص208
ينتصر الخير و يندحر الشرّ، و لكن هل هذه هي النهاية السعيدة؟ أم أن للباطل جولة أخرى و للحق معه جولات..
فها هي اندورا و مهيار و هما في أسوأ حالاتهما يختفيان عن عيني حسن، و ها هي قبيلة الخناجر بقيادة زعيمها يبايعونه حاكمًا، لكنّه يختار أن يكون معلّماً ، و بينما هو يعطي وعده الذي بدا و كأنّه الخلاص،
” سنبني صاعب من جديد قوامها العلم و العمل و الحق و العدل و الرحمة و الخير و…”
بينما الناس معقودو اللسان مشدوهون إلّا سلاف كانت في وسط المنصّة تمدّ يدها تحاول إمساك طيفٍ متلاشٍ “
و كما بدأنا نعود، يستيقظ حسن من إغفاءته، و كذلك يفعل جلال و عناد، لنكتشف جميعنا أننا كنّا نعيش في عالم من المتخيّل أو الحلم.. أم أنها الحقيقة؟


هكذا كان حسن يسأل الذئب، الذي ما هو إلّا والده الطيّب.. أم أن هذا أيضًا خيال حسن؟
ما بين كرٍ و فر تقوم هذه الصراعات بين الممالك، منها من يحمل شعلة النور مملكة ( فرقان) و منها من هو غارقٌ في ظلمات الجهل و السحر و الشعوذة ( صاعب) .. و ما بينهما تقف ( هجاج) و قبيلة ( جسمان ) المسالمة في شمال صاعب، (جزيرة الخنجر) المرتزقة، اليد التي توصل راغبي السلطة إلى مبتغاهم.

تقنيّات السرد


ما بين الواقع و الفنتازيا يقسّم لنا الراوي روايته إلى سبعة فصول، كل فصلٍ إلى سبعة مشاهد بعناوين فرعيّة، محققًا مزيجًا بديعًا، فعالم الواقع الذي عرّفنا فيه على حسن/ والدته و أخته/ جلال و عناد و سائد أصدقاءه، أضفى عليه الخيال من خلال الرؤى / الرجل الذي زاره في الأرشيف- الملاك الراقص- والده من عالم الأموات. نقل فيه الصراع في سياقات فلسفيّة تارةً و نفسيّة تارةً أخرى، معتمدًا لغةً بسيطة استمد بعضها من القرآن و بعضها الآخر ضمنها لغة شعريّة عندما كانت الرومانسيّة تفرض نفسها. مقدّمًا لكل مشهدٍ مقطعًا من الواقع قبل انتقاله إلى عالم الخيال الذي يسرد فيه الأحداث.


السياق الفلسفي:


نلاحظ الفكر الفلسفي في السرد الروائي للأديب.. و التي تشكّل العمق الفلسفي للصراع الأزلي للقوى المتناقضة،حريّة الإرادة أو مفهوم العدالة .. فهو يحلل لنا الموقف و يضعنا أمام حلّ معضلةٍ ما تواجه الشخصيّات و تؤثّر على نفسيّة القارئ، بطريقة عرض النظرية الفلسفية التي توائم الحدث و تعطيه تفسيرًا بأسلوبٍ غير مباشر :
-” نظرية السدّ” ص109
-نظرية نشأة الدولة أو نظرية العقد الاجتماعي: و التي تنصّ على أن “الدولة مخلوق بشري و ليس إلهي و تعود إلى الفلسفة اليونانية و خاصة كتابات ” سمت أو جستني” و ” توماس الاكويني” “هوبز” و غيرهم
أو وفقًا لـ ” نظرية القوّة” و التي ترى أن الدولة نشأت نتيجة الصراعات و علاقات القوّة التي تسعى دائمًا لإخضاع الضعيف لصالح القوي..
وذلك في حديثٍ بين لاهز و حسن ص109-10-11-112
و نرى ذلك في نشوء دولة صاعب على يدي ” اندورا” الساحرة الشريرة و كذلك نشوء دولة “الخنجر”
إضافة إلى بعض الحوارات كما جرى بين لاهز و حسن في حديثٍ عابرٍ عن اللحم المدخّن:
“-لماذا لا تقوم باستدعاء الطاهي إلى مطبخك إذًا، لماذا تكلّف نفسك عناء القدو إلى المطعم، بإمكانك أن تجعل المطعم يحضر إليك.
-أين المتعة إذًا، إن بعض الأشياء يُفضّل أن تتعب لأجلها”
-علاقة الفرد بالكرسي/ السلطة ص114 -فلسفة الخدم / الأسياد


السياق النفسي :
في صراع مركبيّ الخير و الشر، قدّم لنا ذلك الكاتب عبر رسم شخصيّاته
حيث ظهرت بعض الشخصيات “خيّرة” ينبع خيرها من التضحيّة و الفضيلة ، أم حسن/ والد حسن/ حسن/ سلاف/ أم رفيق/ رفيق/ قبيلة جسمان/ نادرة ..

-الخير المركّب الذي يتضمن أخطاءً ، و ذلك في سلوك بعض الشخصيّات… مهيار ، وزير أندورا في مملكة صاعب : فالشرّ لديه ليس متأصلًا، لكنّه متوّلد عن الشرّ الأكبر و هو الفقر
الخير الدفين و الشر الظاهر عند والد نادرة / قبيلة الخناجر بشكل عام التي أظهرت أفعالها الخير مشوبًا ببعض الأخطاء..
-الشر ّ: متمثلًا بالساحرة الكبرى لاهز / أندورا/ أثيلة/سجّار / أظهر فيها الكاتب الأبعاد النفسيّة لهذه الشخصيّات الأحاديّة.. و التي قد وضع لها تبريرًا نفسيًا – مع التحفّظ أنه ليس مقبولًا- متمثلًا بسلوك أندورا التي شهدت مقتل قبيلتها على يد (لاهز) و جيشه.. أثيلة التي عانت من بطشه في قتله لوالدتها و هي طفلة ، الأمر الذي ترك لديهما الأثر النفسي، فخلق منهما شخصيتين تضمران الشر كنوع من الحصانة لبقائهما.
-اعتماد التخاطر (telepathy ) كنظريّة نفسيّة في التواصل بين الشخصيّات .ص137 و أيضًا 139-140 و التي استطاع فيها أن يدعم حركة الشخصيّات و الأحداث.
و في مقام آخر:
” الألم يُغيّر رؤيتك للأشياء أيضًا، الشجرة تبعد عنك عدّة خطوات لكن الألم يريك ذلك كقطع مغازةٍ شاسعةٍ دونها الموت المحقّق”
التأثير النفسي للحب على سلوكيّات الأشخاص و ردود أفعالهم، عندما سمع حسن شخير سلاف و هي نائمة في العربة ، قال جملة غايةً في الرومانسية ( ما نستقبحه الناس من الغرباء نجده جميلًا فيمن نحب) ص145

السياق التاريخي والاجتماعي:


• وضح الكاتب لنا كيف يعكس الصراع بين الخير والشر أوضاعًا اجتماعية و تاريخية، مثل الحروب، الطبقية، أو الانقسامات العرقية.
لم تعكس الرواية عصرًا معينًا أو واقعًا معاصرًا لكنه بربطه الواقع بالمتخيّل، و الحاضر بالماضي-حضارة الأندلس- استطاع أن يستعرض لنا وقائع و أحداثًا و لعب على وتر مخيالنا كي نقوم بعملية الاسقاط..
• و قد عمل على تقديم القوى المتصارعة كرموز لأنظمة سياسية، اجتماعية، أو اقتصادية. صراع الدول و الممالك في تاريخنا القديم. شخصيّات شخصيات الملوك التي بدت أنها تملك و لا تحكم ، فالقائمين على السلطة و التحكّم بها شخصيّات أخرى تبدو في شخصيّات الظل لكنها الأساس في الحكم أمثال لاهز / أندورا/ أثيلة/ مهيار/ سجّار كبير الحرس.. فهذه أمثلة لرموز من واقعنا المعاصر.
من ناحيةٍ أخرى، استعرض الكاتب العلاقات الوجدانيّة بين الشخصيّات و التي جسّت روح التعاطف الإنساني من جهة ، في علاقة حسن بوالدته، علاقة سلاف مع أخيها بحر ، علاقة الصداقة القائمة بين حسن و جلال و عماد، و حسن مع أخيه سائد.
و في حديث والد ” نادرة” معها بعد عودتها إلى الجزيرة:ص199
“تسقط كل القوانين يا ابنتي إذا أرادت أن تفرّق أبًا عن ابنته و أخًا عن أخته-يقصد بها سلمى ابنته التي غادرت القبيلة-

الالتزام الأخلاقي، كمحاولة دولة رفقان استخدام الوساطات السلمية مع دولة صاعب لاسترجاع “الكتاب” لتجنيب شعوبهم الحرب
مناصرة قبيلة الخناجر لـ” رفيق” عندما استجار بهم :
“هل يستجير بنا شخص و نقتله؟ ماذا ستقول عنّا الناس؟ الخناجر لا عهد لهم و لا ذمّة؟ ثم أين المروءة و الأصول التي أورثنا إياها اجدادنا الثلاثة”
” لا يا سيدي، لا نقتل من استجار بنا، بل نؤويه و نؤمنه و ننتقم له أيضًا”

الغرائبية والفانتازيا مقابل الواقعية:
• أظهر السرد كيف يستخدم المؤلف الفانتازيا والغرائبية لإبراز صراع الخير والشر.
• المزج بين العالم الواقعي والعوالم الخيالية حيث استطاع الكاتب يجعل العالم الفانتازي انعكاسًا رمزيًا للواقع.

الشخصيات :


عمل الكاتب على رسم شخصيّات روايته، بحيث تجسّد الصراع القائم ، فكانت متلونة بين الشخصيّات الطيبة و الشخصيّات الشريرة، و التي وقفت بين بين.. لكن مأخذي كان على أن عمق رسم تلك الشخصيّات و قوتها الفكرية التي تستدعيها بعض المواقف و الحركيّة ما بين فعلٍ و رد فعل بدا غير متناسب و نوع الصراع، و تفاقم حدّة الحدث، فلم تدعم حركتها الزخم المتوّقع للأحداث، فأضعفت نوعًا مسارها و تأزمها المتوّقع.

-حسن الطيب فاروق: الشخصيّة الرئيسة في الروابة، لم تتّضح معالمها إلّا عندما دخل عالم المتخيّل في رحلته الى اكتشاف الذات و انجاز المهمة الموكلة إليه.


-سلاف سالم دمران : فارسة في فرقة نساء فرقان الخاصة، “تمتلك عقلًا تكتيكيًا و مهارة عاليةً في استخدام السيف و القتال” زوج حسن و شريكته في السفارة و العمل


-سجار: رئيس الحرس في فرقان و هو من عائلة غنية و مدلل


-لاهز بن فردان/ يلقبونه بابن الخنجرية ( القتلة): قائد جيوش فرقان والده كان أشجع فرسان المدينة و هو من

الشخصيّات التي تتمتّع بشرٍ وافر.
-أندورا: حاكمة ريمان عاصمة صاعب ساحرة مرعبة

-أثيلة: صديقة أندورا و يدها اليمنى أينما كانت أندورا تجدها


-مهيار: وزير عند اندورا يتصف بالدهاء الذي يجعله يتقلّب في ردود أفعاله بين القسوة في معاملة الحمالين و الرقة و الأدب في معاملة حسن و سلاف.. و أحيانًا يتصنّع البلاهة


شخصيّات أثثت للأحداث و ساعدت على جريانها، لكنّها لم تكن تمتلك القوّة الفاعلة في التأثير على سير هذه الأحداث
-أم حسن : امرأة عطوفة لكنها عندما يتعلق الأمر بابنها تصبح وحشًا/ ابنة زعيم
بنان : عقيد في فرقة النساء ذات أنفة و ترفّع و تعشق الانضباط حد الهوس يقول عنها ” لطالما رأت سلاف أنها تملك قسوةً لا يملكها بعض الرجال تحاول وأدها بكل طاقتها”
-الطيب فاروق: والد حسن رجلٌ متحدّث ذو مكانة بين أبناء مدينته
-جلال صديق حسن و زميله في العمل رفيق حسن في رحلته
-عماد : دكتور و هو صديق حسن و جلال / سمين و يمتاز بطيبته اعتاد أن يتنمر عليه زملاءه في الصف .. رفيق حسن في رحلته
أم حسن


-سائد: أخو حسن يبدو أنه لديه إعاقة ، يصفه حسن ص151
“منذ كنت صغيرًا بأن سائدًا مختلف، دورانه المستمر حول نفسه رفرفة يديه، قلّة كلامه، لعبه بلعبةٍ واحدة لساعات طوال بلا كلا أو ملل. دموع أمي حاضرة دائمًا حين تراقبه، كانت تحتضنه و تحتضني أيضًا…… لطالما أوصتني بسائد دون أن تلفظ كلمة واحدة، ……. تمسّد على شعري: ربما تطن بأن سائدًا حملٌ ثقيل؟.. هل يكون الأخ حملًا و عبئًا!
هذه الشخصيّة اللاحركيّة و المحرّكة للدوافع النفسيّة و الأخلاقية عند البطل” حسن”


-بحر: أخو سلاف.. و هو فارس و حصانه اسمه /غيداء/
-بنان ممرضة في الأصل، و لكنها الابنة الوحيدة بين اخوتها ، الذين كانوا و والدها كلهم فرسان في جيش فرقان، و لأنها تشبه والدها كثيرًا علمها القتال و ركوب الخيل.. فأظهرت مهارة بهما..


-مازن: مدرب التخاطر الوحيد في رفقان.. ضعيف البنية/ تائه النظرات/ بارز الأنف
-سائق العربة: أحول بصوت أجش


القبطان : مريب


-شهوان : ملك صاعب : ابيض البشرة ، أسود الشعر ممتلئ الجسم ، حسن الهندام.. كان يتميّز بالطيبة .. مزواج


-سرور : كبير الخدم في قصر شهوان ملك صاعب.. نظيف / أنيق/ حليق الذقن


حامد: الفنان المرهف الحس، اراد أن يستكشف الغرائب، ذهب الى القارة الجنوبية فعاد مجنونًا …………


-رفيق: ينتمي لقبيلة جسمان التي تسكن الجهة الشمالية لدولة صاعب حيث تتعرّض بكاملها للمحرقة بأمرٍ من أندورا لعدم موافقتها على الانضمام معها في حربها ضد دولة فرقان


-نادرة: زوجة رفيق ، تنتمي لقبيلة ( الخناجر- التي عرفت بسطوتها و قوتها و قوانينها الصارمة


-والد نادرة: تتراوح شخصيّته بين القسوة و الرقّة و الحنان .. وفقًا لقوانين القبيلة تارةً و قوانين القلب تارةً أخرى

هذه الشخصيّات تبرز البعد الإجتماعي و الأخلاقي و يمكن مقارنتها بشخصيّات في الواقع المعاش من خلال مواقف متعدّدة نراها مثلًا في حوار الشخصيّات: حسن / جلال/ عماد عن الهموم المجتمعية، ابتداءً بالاكتظاظ السكاني/ الى القفز فوق وهم اليوتوبيا ، سواءً في طريقة ممارسة الحياة “لوعرفوا مكان الجبل لرأيته مكتظًا بالناس و قاذوراتهم و بمحلات الأكل و غيره/ في حديث عماد عن مهنة الطب التي أصبحت تجارة و الرضى هم سلع و قد فقدت قدسيتها.

الراوي:


• ظهرت الرواية بضمير الغائب. بحيث وقف محايدًا في تقديم الصراع؟
• كان الحوار مقتضبًا لكنّه أدى دوره في السرد

اللغة والأسلوب:


• استخدم الكاتب اللغة لتوصيف الخير والشر، حيث تختلف فيها النبرة بين لحظات الصراع والأحداث الهادئة.
• استخدام الصور البلاغية والتشابيه والاستعارات، خاصة في تصوير العالم الفانتازي.
-“بعض الخفافيش تطير لتلعن من دنا من بيوتها”
” كان الوقت يمر بطيئًا كسلحفاة هرمة “
“ينسلّ الثلاثة من فرجةٍ و ابتسامتهم لا يخطئها ذو بصر ، و فرحهم لا يشك به ذو بصيرة “

اللغة الشعريّة: الشاعر ابن زريق البغدادي
ما آب من سفرٍ إلّا و أزعجه
رأيّ إلى سفر بالعزم يزمعه

“فتساقطوا كأوراق الشجر في يوم خريفيّ كئيب”
الأخطل:
يشق سماحيق السّلا عن جنينها
أخو مرّ بادي السغابة أطحل
السجن لو كان هناك تعريف له الآن لكان “الحياة المتسرّبة من بين أصابعك،و الموت حنينًا”
تتضّح اللغة الشاعرية في المواقف الرومانسية

-التكرار في بعض المفردات.. “الارتطام”ص 61
التكرار لجملة : ” ثم بدأت خلية النحل بالتجوال في عقلها”
اليد اليمين
” تنظر إلى أعلى متجهةً ناحية اليمين..”

“و بينما كانت سلاف تنظر إلى الجهة اليمنى من الشارع” ربما أراد بها الكاتب أمرًا ..
-لغة القرآن
” أراد أن يواري سوءة صديقيه”
“لكنه لمح من طرفٍ خفيّ….”
إضافة لذكر بعض المظاهر الدينيّة التي طفت على روح السرد، فشخصيّات الكاتب الطيبة متعبّدة ” تصلّي” و تقرأ القرآن

البناء السردي:
• الرواية خطية في مسارها العام لكنّها تعتمد أيضًا على الفلاش باك؟ السرد الأفقي تارةً
التداعي الحر: الاسترجاع
المونولوج
• يتوزع الصراع فيها بين البداية والذروة والنهاية بحيث أعطى فيها الكاتب البداية hints أو إشارات تراكميّة قادت إلى الدخول في هذا الصراع الذي حلّته النهاية

الإيقاع:
• استخدام الكاتب الأكشن لتسريع السرد، ابتداءً من السقوط في عمق الجبل فمواجهة الذئاب البيض و انطلاقًا إلى كل الأحداث التالية التي احتدمت تباعًا ، قام الكاتب بموازنتها مع المشاهد التأملية أو النفسية.


الوصف:


لعب الوصف دورًا بطوليًا في الرواية تمثّل بالتركيز الشديد على أدقّ التفاصيل، مما يدلّ على أن للروائي قدرة هائلة على الوصف و الغوص إلى أعماق دقائق الأشياء، سواءً تفاصيل الحياة اليوميّة أو الطبيعة أو الأمكنة، الحمامات، وصف اللباس، و صف الأشخاص حتى وصف الفرس.. و أكثرها واقعيّة وصف السجن ص 92-3-4
هذه الدقّة في وصف التفاصيل يشعرنا بأننا لا نقرأ روايةً ، بل سيناريو ، و لوهلة تشعر بأنّك أمام شاشةٍ عملاقةٍ و قد فتحت عدسة الكاميرا على اتساعها.

الرمزية في الرواية


• الرموز المستخدمة لتجسيد الخير ( الذئب الأبيض/ الغزال/ مخلب الدب) و أخرى لتجسيد الشر: الخنجر/ السجون، السحر
• هناك رمزية دينية و أسطورية (مثل النور مقابل الظلام)
• تُستخدم الأماكن كرموز للصراع (مثل القارة الجنوبية كرمزٍ للشر أو مدينة الخير: دولة فرقان)؟
رمزيّة الكتاب: القوّة / التقدّم/ التفوّق
تشكيل الذئاب تموضعها على شكل رقم ثمانية ٨ رمزٌ للانتظام و اتّباع القائد
رمزيّة مخلب الدب : إنه خاص بالملك و عائلته و وزرائه


رمزيّة الذئب الأبيض، دليل على الصديق و العون عند الحاجة، قوّة حسن الخفيّة


رمزيّة الغزال الذي كانت تراه سلاف في الحلم، دلالته ” حسن”


رمزية اختيار تسمية دولة ( صاعب) بهذا الإسم: ص 152


“عذرًا يا مولاتي، لكنني أردت أن أقول لكما إن هذه البلدة لها من اسمها نصيب، كل شيءٍ فيها صعب حتى التنفّس”
جيش ( هجاج): رمزٌ للخيانة و الانهزامية حين ترك الملك لوحده في المعركة.


الخنجر: يرمز إلى سرعة نفاذ الأمر، سطوته و قوّته: يقول الكاتب:ص196
“لن تشعر بوجود الخنجري إلّا بعد مغادرته”
“اختفى كخنجر”
“غير مأمون الجانب كخنجري”
كتاب ( مسند بقيّ بن مخلد): رمزيّة الكتاب تشير إلى عظمة الإرث الذي تركه أجدادنا العرب، و فيه الأحاديث النبويّة كلّها بإسنادها المتّصل. . مسند بقيّ بن مخلد هو أكبر مسند موجود في الدنيا وهو مسند مفقود إلى الآن

النهاية المفتوحة
• انتهاء الصراع، تاركًا لنا الأبواب مفتوحةً بتأويلاتٍ عدّة،
• مالت النهاية إلى انتصار الخير أو الشر، لكن اختفاء اندورا و مهيار، جعل من هذا النصر ، نصرًا مشروطًا و قابلًا للنقض، يعتمد ذلك على ما تفرضه الوقائع لاحقًا.
• فالنهاية مفتوحة تدعو للتفكير والتأويل، و طرح العديد من الأسئلة.. أكان ما قرأناه حلمًا أم حقيقة! هل يعود الصراع من جديد؟

نهاية أقول..
( معركة الذئب / الهوّة ) لكاتبها الأديب الأردني ” طاهر عدنان عصفور ” روايةٌ تستحق القراءة لما فيها من اللعب المتقن على مخيال القارئ حتى لكأنك تشاهد نسخةً جديدة من رواية:
‏“ The lord of the king “/ سيد الخواتم.. لـ جي آر آر توركين أو “حكايات الملك آرثر و فرسان المائدة المستديرة “- ميلوري
أو حتى في أدبنا العربي حكايات ” ألف ليلة و ليلة” .

الكاتبة سمية الإسماعيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *