القراءة +++++++
مرض التوحد بين الطيف و التطير في الأدب الحديث
- العنوان قصة مكتملة مكتنزة مشوقة ؛
ورد مركبا نعتيا معرفة فالقاصة تهتم بإصبع معين موصوف بصفة نكتشفها ثني القصة ،بينما الرقم أو العدد الرتبي الخامس يفتح أبواب التخمين والتأويل على مصراعيه فخمسة وخامس وخميس وخمس رمز في المخيال الشعبي والعقدي رقم اكتمال اليد و جمالها وفاعليتها المادية والمعنوية والمعدود الإصبع من ضمن أعضاء الجسد فلكل إصبع دلالته وإيحاؤه و دوره ،لكننا لم نجد تحديدا بالاسم لهذا الإصبع ( الخنصر ،البنصر،الوسطى،السبابة،الإبهام ) ليس مهما أيهم ، الأهم الرقم خمسة ،اكتمال نجمة الإسلام ،الفروض الخمسة، أركان الإسلام …. لن يرفع سبابته لأخذ الكلمة أو لن يشير بإبهامه للمجاملة والموافقة ،أو لن يحمل خاتم زواجه ،لن يشير بخنصره لتواصل حالات الصلح ….لا نعرف أي المهام تعطلت لكن نعلم فقط أن الرقم أربعة قد حل محل الخمسة بيد السارد المريض النفسي وهذا ليس بالهين كإيحاء لتوجه جديد أو انتماء جديد …
الغريب أن رقم أربعة في اليد أصبح نذير شؤم لهذا السارد ، إذ حمل معه كل شيء سلبي ،غياب الطمأنينة والأمان والفرح و السعادة ،فهل الشر كامن باليد والساعد أم بالتفكير أم بالنفس الأنانة اللوامة أم بالأقدار ،حيث يصبح كسر الرقم خمسة نحسا على السارد وعلى عائلته رابطا ماضيه بحاضره و طفولته بطفولة ابنه حتى يتحول إلى عراف أو شواف أو فكاك طلاسم ، إنه ينشر نبوءة كبيرة ” حافظوا على الصلوات الخمس والأركان الخمسة و العائلة و الوقت و الطفولة والعائلة لأن أي نقص يصيب أي عضو يحدث خللا ويحمل الخراب .
لعبة رياضية تدخل مهووس الرياضيات في حالة فوبيا الرقم خمسة وكل قواسمه وضواربه ككل الفلكيين الذين دائما يربطون الكهانة بالأرقام ؛ تاريخ الميلاد والزواج و عدد الأولاد والسفر وووو
التطير هنا تجاوز المعهود السائد ، كتير علمي رقمي هو ارتقاء بالفكر البشري من الموجودات الحسية والمعتقد البدوي البسيط إلى الفكر الرياضي يعطي لمحة عن وعي السارد المبكر بما تحمله الأرقام من طاقة و ذبذبات طاقية فارقة ،يريد أن يرسخ معتقده الذي يحيلنا إلى طيف التوحد و خوفهم من الأرقام وتكرر الأحداث والظواهر … منذ الطفولة حتى الكهولة وهو يحاول إقناع نفسه بأنه يدور في دائرة مغلقة هوة النحس و السوء ظهور الرقم خمسة أو ما يحيل إليه ،حريص على العد بعد خمسة أشهر ،بعد الذكرى الخامسة ….
- فكرة النص أعمق من مجرد سرد للأحداث ،ربما هي نقد للفكر البشري الذي يصنع الغول ثم يخشاه ويرهبه حتى يكبر ويكبر فيلتهمه .
أو ربما نقد رصين لحالة من يهمل العلاج حال ظهور المرض وتوغله بالجسد ، فيكتفي بالتشخيص الذاتي والهروب دائريا حتى يصاب بالدوار فيسقط في حالة التدهور/ الجنون/ الموت المعنوي أو المادي … دعوة للخروج من كل الدوائر المغلقة و كل الأرقام .
نجحت القاصة في خلق التوتر الارتدادي حتى عايشنا لحظة بلحظة حالة الدوار حيث بنت نصها في مقطعين أو مشهدين تكراريين متقابلين في حركة ساعة عقاربها متعاكسة ، في تضارب .
الأول منذ بداية القصة حتى قولها : الرقم
والثاني عند قولها : شريط طويل ….حتى النهاية
الحبكة المميزة عايشت حالة القلق التكراري المضطرب .
- السردي الغير الخطي انطلق في المقطع الأول من الحاضر رجوعا إلى الماضي في شكل تداع حر للأحداث والمشاعر و الأقدار مع ثبات نفس الرقم الطائر خمسة وتتصاعد الأحداث للعودة إلى الزمن الحاضر مع حلول الطفل الخامس و عودة السيارة الحاملة للرقم المشؤوم . سرد لكل لحظات الانهيار النفسي والتشاؤم الأسود الرقمي حيث يتعاظم الوهم .
( حاضر/ ماض/ حاضر )
في المقطع الثاني سرد تصاعدي صرح به السارد في قوله (شريط طويل من المآسي بدأ منذ بدأ ولادتي مارا بمحطات حياتي المرعبة….
وكأن المقطعين متقابلان في حركة انعكاسية لإعادة فهم ما يقع من أحداث فقد و حزن بحثا عن حل ،فهل عثر السارد عن مخرج لهذا المأزق.
كان السارد يعيش وحيداً في عالمه الخاص التشاؤمي الرقمي ولم ينسق معه أحد من الشخصيات الفاعلة ، لا الأب أو الأم أو الزوجة شاطروه شكوكه ومخاوفه من ذاك الرقم.
لماذا ؟
لأنهم ببساطة لم تصبهم فوبيا هذا الرقم ،لم يلتبس اكتشافهم للرقم خمسة في الخامسة من العمر بالسيارة خمسه بكل شرور العالم ولم يفقد غيره إصبعه الخامس .
إذا تجسد هاجسه النفسي جسديا أضاع ذلك الإصبع ومعه أضاع جزءا من طمأنينة الحياة .وولج مرحلة الصراع الذاتي مع الرقم المنحوس . - المعجم متقن الاختيار يضفي على النص مسحة تشاؤمية مرضية حتى تتماهى حالة القارئ بحالة الشخصية ،فيتجسد المرض شخصية من شخصيات النص الظاهر الخفي وتشوقنا القاصة للحظة اغتيال هذا الوحش الخامس الرهيب الذي دمر حياته : (ثرت،بكيت،فشلك،وحدتك،توفى،توفيت،فقدت،ذعرت،المآسي،المرعبة،السقطات المتتالية .. .)
ما من شك أن ثيمة النص النفسية الشعورية التشاؤمية قد طوعت لها القاصة حبكة مخصوصة ومعجما مناسبا محفوفا بالتكرار التواتري والفشل و الحزن كموسيقى داخلية ،كجرس إنذار للتدهور نحو خاتمة مقنعة جدا في علاج من نفس الداء خمسة جرعات مهدئات لطمس هلوسات الرقم المنحوس..
- عمق خوفه حمل ابنه الخامس نفس السيارة الحاملة لنفس الرقم هو خوف من توارث نفس المصير وموته بعد خمسة أشهر وتوالي المصائب ….سيطر في الأخير على وضعه وألقى بالسيارة والرقم خارج بيته وحياته إذا العلاج قدم نتيجة إيجابية . وانغلق النص بالتفاؤل و النور.
- الشخصيات : في صراع وتنافر خارجي لكن باطنيا هناك توادد وحب مسكون بالخوف و السواد.
_ الابن المريض / الزوج البطل التراجيدي
الأب و الأم و الزوجة شخصيات مساعدة
يظهر أن تأخر العلاج ساهم في تأزم الحالة النفسية ، تبدو الزوجة هي المنقذة عند استنادها للحلول الطبية العلاجية
وكأن القاصة تريد أن تبعث برسالة لمن لا يزال يتشبث بالوهم و الخرافة ، هي واقعية جدا وعملية أثبتت للزوج أن كل ما أصابه كان صدفة كيف لا وهي أم لخمسة أطفال تستمر معهم الحياة دون تشاؤم ، أثبتت أن معاناته فردية ولا أساس لها من الصحة .
+مهارة وتمرس بالأدب النفسي وتقصي دهاليز النفس البشرية وخباياها بعين الفنان و العالم و الطبيب والفلكي .
+لغة راقية شفيفة مرهفة حاولت فيها التعاطف مع المريض دون جرحه أو السخرية منه كطبيب معالج يعي ما يفعل . + سرد سلس منساب إيحائيا . فيه تلاعب صارخ بترتيب الأحداث تماشيا مع حالة السارد ..
نجحت الكاتبة في رسم مشاهد صراع الذات مع ذاتها أكثر من نقل صراع الذات مع الآخرين .
صراع الرقم خمسة / السارد مع بقية الأرقام ( الأب والأم والزوجة والابن ) انتهى بفوز الإنسان الذي يتخلص من مخاوفه و يواجه العالم بوعي و دراية الزوجة المتفائلة.
صراع الآن مع الماضي يشكل خطرا على المستقبل تلك هي القضية التي أرقت السارد وتؤرقه استمراريا .
لكن صراع الرقم خمسة مع بقية الأرقام لن يغير الأقدار والحقائق.
بوركت جهودك أستاذة ريم ودمت مبدعة.
القصة ++++++++
” الإصبع الخامس “
لم أكن في يومٍ من الأيام بحالٍ أفضل ممّا أنا عليه الآن، فمنذُ أن كُتِبَ عليّ الولادة في هذا الزمن وهذا التاريخ، وحمل كل تلك الحمولات التي تؤرق مستقبلي وأنا أعاني من السقطات المتتالية…
في البداية ثُرت وبكيت، ثم امتثلت لنصح والديّ وبعض الاقارب:
- هيي بني، لاتتطيّر من أشياءٍ ورموز فوق طاقتك وقدرتك الاستيعابية، هذا ماقاله أبي لي عندما كنت في سن الخامسة.
- حبيبي، وما معنى ذلك !
هذا ليس مبرراً لفشلك ووحدتك، وليس من المعقول أن تحمّل دوماً كل شيء للقدر، ذلك ماقالته لي أمي في سن العاشرة.
ثم توفي والديّ، وبعد خمسة أشهر توفيت والدتي، وفي الذكرى الخامسة لوفاتهما فقدت إصبعي الخامس إثر سقطة من باص النقل الدّاخلي وأنا أهمّ بالنزول بعد أن دفعني شخص ما كان يحمل مصنّفاً حفظتُ رقمه جيّداً وذُعرت كثيراً عندما رأيته…
لكن اكثر ما أثار رعبي آنذاك، وأرجف فؤادي هو دخول زوجتي بعد الذكرى الخامسة لوفاة والديّ، وهي تحمل ولدنا الخامس بين ذراعيها وقد أحضرت له سيارة عليها ذلك الرقم…
شريطٌ طويل من المآسي بدأ منذ ولادتي ماراً بمحطات حياتي المرعبة التي تحتفظ بذلك الرقم بين ثنياتها.
زوجتي والتي ضاقت ذرعاً بمخاوفي، كنت كلما أخبرتها بحادثة من تلك الحوادث والتي تحيلها بذكاءها الأنثوي للصدف، وأحياناً تذهب لمسافة أبعد من ذلك، وتطلب مني مراجعة طبيب نفسي.
أذكر أنها في إحدى ليالي الصيف الحارقة، في اليوم الخامس من الشهر الذي أخاف أن أذكر رقمه، وفي الساعة الخامسة، حضر خمسة من أقاربها بينهما طبيب، هذا استنتجته بعد أن بدأ يلاحظ تعرق جبهتي واضطرابي وحركات يدي العصبية وهي تبحث عن الإصبع الخامس والذي كنت أتسلى بتفقده عند ارتيابي، عندها انتفضت وقلت بأعلى صوتي:
-لست مجنوناً فلم أحضرتهم؟
عيب عليكِ يازوجتي!
ولم يخفّ توتّري إلا بعد أن دقّت السّاعة الثانية عشر لتعلن مضي ذلك اليوم …
أقنعتني زوجتي المصون بتناول خمسة عقاقير مهدئة بالتناوب، وبمراجعة قريبها بعد خمسة أشهر،…
ازداد جنوني ولكني ضبطت انفعالاتي وقررت أن أمتثل لأوامرها حتى لا تذهب أبعد من ذلك …
هاقد مرت خمس سنوات منذ تلك الحادثة، شربت خلالها العقاقير خمس مرات متتابعة، ونمت أكثر بمقدار خمس مرات كذلك، ولم أستطع محو ذلك الرقم من ذاكرتي،
لكنّ دخولها عليّ بهذه الطريقة، ومعها طفلنا الخامس وهو يحمل تلك السّيارة وعليها ذلك الرقم مجدداً، أفقدني صوابي وأعادني إلى ذلك اليوم عندما كنت بين ذراعي أمي وأحمل تلك السيارة وبذات الرقم وفي نفس التوقيت والتاريخ بفارق وحيد فقط، فحينها كانت أصابعي مكتملة…
هرعتُ بسرعة إليهما، سحبت السّيارة من يده وقذفتها من النافذه بسرعة، ولم أتفطن وقتها إلى ضرورة عد أصابعه.
ريم محمد
الأحد ٥/ كانون الثاني/ ٢٠٢٥/
الكاتبة سيدة بن جازية