يقول جبران خليل جبران:
“ما زلت أؤمن بأن الإنسان لا يموت دفعة واحدة، وإنما يموت بطريقة الأجزاء. كلما مات حلم من أحلامنا، مات جزء. وكلما رحل حبيب أو صديق، مات جزء. وكلما انكسرنا بلحظة ضعف، مات جزء. فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة، فيحملها ويرحل.”
ما أروعك يا جبران! لقد استطعت أن تهزم الموت من خلال ما خلفت من مآثر أدبية وفلسفية للحياة، فستبقى أمجادك راسخة على صفحات الزمن.
لقد ارتكز جبران في تحليله للموت البطيء على أسس ذات أبعاد ومنظور فلسفي عميق، حيث إن جميع الوقائع والأحداث التي يتعرض لها الإنسان، خاصة تلك التي لها وقع سلبي على مجريات حياته، تؤثر فيه وتهزم جزءًا من كينونته. والفقد هنا يدعو إلى التأمل والصمت الطويل القاهر أمام الأحداث، دون أي رد فعل مقاوم لها، كونها أقوى من الإنسان، مما يترتب عليه موت جزء منه. قد يكون ذلك في سلوك ينطفئ فجأة، أو في شيء ما لا يستطيع العلم تحديده بالضبط أو معرفته.
الموت الجزئي في العلاقات الإنسانية
إن قصة الحياة وسيرورتها تحتم على الإنسان أن يصادف خلال مشواره القصير العديد من الأشخاص في مختلف مناحي حياته، حيث يبني معهم علاقات قائمة على الاهتمام والمحبة، يحيطهم من كيانه حسنًا ومعاملةً جيدة، ويحيطونه بالمثل. فإذا فقد عزيزًا عليه منهم، مات جزء منه على الفور، خاصة إذا كانت الفاجعة تخص أمه أو أباه أو أحد أبنائه أو زوجه، الذين يشكلون كل شيء في حياته.
إنهم الشعلة التي تذيب كل الأحزان التي يواجهها الإنسان، فهم القبس والمساند الذي يجلب الرجاء والأمل، وهم أشبه بعصا نبي الله موسى عليه السلام في صلابتهم ضد الانهيار المعنوي والضعف الجسدي. هم العيون المتفجرة حنانًا ورأفة، فإن فقدهم أو فقد أحدهم، مات نصفه.
كذلك، إذا تعرض الإنسان لظلم أو قهر، أو أُجهض حلم معين كان يراوده نتيجة شطط أو محسوبية أو زبونية، فهذه كلها تشكل موتًا جزئيًا له. والموت هنا، كما يعنيه جبران، ليس توقف نبضات القلب أو خلايا الدماغ، بل هو الموت الصوري، حيث تترك تلك التجارب القاسية جرحًا غائرًا في نفس الإنسان لا يندمل أبدًا.
يقول جبران في قصيدته “المواكب”:
والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قبروا
وأكثر الناس آلاتٌ تحركها
أصابع الدهر يومًا ثم تنكسرُ
فلا تقولنَّ هذا عالمٌ علمٌ
ولا تقولنَّ ذاك السيد الوقُرُ
فأفضل الناس قطعانٌ يسير بها
صوت الرعاة ومن لم يمشِ يندثر
التحولات السلوكية والموت النفسي
من هنا نلاحظ التغيرات الفجائية التي تطرأ على سلوكيات الإنسان، حيث ينتقل من حال إلى حال مناقض تمامًا، مما يدفع الآخرين إلى التساؤل عن سبب هذا التحول الطارئ، دون أن يجدوا تفسيرًا مقنعًا. لكن الأمر ببساطة ليس سوى حصيلة لما تعرض له الشخص من أمور سلبية قهرته.
وهكذا، يموت السلوك الفطري، ويحل محله طابع آخر، حتى يحين الموت الحقيقي، الذي يتدخل ليضع حدًا لمعاناة الإنسان المستمرة، إذ يصبح عرضة للنهب والنهش من طرف الوقائع التي يتسبب فيها الإنسان لأخيه الإنسان.
يقول جبران في سياق قصيدته “المواكب”:
والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا
بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا
فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغروا
والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا
فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ
وسارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر
وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ
ليس في الغابات عدلٌ.. لا ولا فيها العقابْ
الظلم والقهر: شكل آخر من الموت الجزئي
الظلم والقهر وانتهاك الحقوق، وغياب العدالة الاجتماعية والإنصاف، فضلًا عن الشطط والتسلط، وخلق أجواء الكراهية، كلها أوصاف أشد مضاضة على النفوس البشرية. وهي تؤدي إلى قتل ممنهج للحياة، لكنها ليست بالضرورة قاتلة للإنسان نفسه، فهو يستمر بالمضي قدمًا في الحياة، رغم ظلمة الموت الجزئي التي تنخره ببطء وصمت، على خلاف مظهره الخارجي.
ويختتم جبران قصيدته “المواكب” بهذه الأبيات:
والحرُّ في الأرض يبني من منازعهِ
سجنًا لهُ وهو لا يدري فيؤتسرْ
فإن تحرَّر من أبناء بجدتهِ
يظلُّ عبدًا لمن يهوى ويفتكرُ
فهو الأريب ولكن في تصلبهِ
حتى وللحقِّ بُطلٌ بل هو البطرُ
وهو الطليقُ ولكن في تسرُّعهِ
حتى إلى أوجِ مجدٍ خالدٍ صِغرُ
ليس في الغابات حرٌّ.. لا ولا العبد الدميمْ
إنما الأمجادُ سخفٌ.. وفقاقيعٌ تعومْ
فإذا ما اللوز ألقى.. زهره فوق الهشيمْ
لم يقلْ هذا حقيرٌ.. وأنا المولى الكريمْ
أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا مجدٌ أثيلْ
وأنين الناي أبقى.. من زنيمٍ وجليلْ.
الكاتب عبدالسلام اضريف