قبس من نور للكاتبة فاطمة وجى

لا رغبة لي اليوم في ترك الفراش، أطرافي وأحاسيسي تعبت من الركض وراء أحلامها الهلامية، لن أبرح مكاني وسأظل أتربص بها علّني أجد إليها سبيلا، أو أظفر ولو بشبح منها.
أممم، رائحة القهوة قوية جريئة، تقتحم رئتي وخلايا دماغي في ثورة على باقي حواسي المتخاذلة، لكن مهلا، من أخرس صوت فيروز؟ أ تراه خاصم القهوة وهجرها بعد طول وئام؟ لا أعلم، فالوصال بين الأحبة قد يغيب بقصد أو بدونه، ولا شك أن نبع الحنان أدرى مني بالقصة.
كصوت فيروز سأحاول بدوري هجران فراشي والغرفة. لا بأس، فقدماي مطيعتان كما عهدتهما، تحملانني إلى المطبخ كل يوم بعد أن تداعبهما أولى إشراقات الصبح التي تسلل خلسة إلى الغرفة.
رائحة المطبخ دفء وقهوة، وحنان أمي
-صباح الخير أماه.
أجابت بنبرتها الهادئة الرقيقة التي تنثر الود في أرجاء الفؤاد:
-صباحك فل وورد وياسمين بنيّ
سألتها في استغراب:
-ما بال قهوتك صامتة اليوم كغير عادتها؟
-يا ابني، ما إن أدرت زر التشغيل، حتى انطلق صوت المذيع يحصي ضحايا غارات الأمس، فما كان لي إلا أن أوقف صوت المذياع قبل أن يحوله والدك أجزاء لا تجتمع.
-آتنا به يا أماه، كي لا تغضب قهوتك أكثر وتذهب الوحدة بمذاقها.
شغلت أمي المذياع فصدح الصوت الفيروزي، ملأ الجو عذوبة، داعبت برفق مسامعي وصارت أحاسيسي ترنم على نغماته، خيّل إليّ أنني عدت إلى ملاحقة أحلامي…
أعادتني الوالدة إلى عطر القهوة بعد أن أبعدني عنها الصوت، قالت:
كنا اتفقنا أمس أن نذهب في نزهة إلى الجبل، لكن والدك غير رأيه، قال أن لا نبرح البيت اليوم.
قلت: -لا مشكلة، بالبيت أيضا يمكنني أن أشم الريحان والزعتر، سلمت يمناك يا نبع الحنان. أخبريني فقط كيف غير أبي رأيه وعدل عن الذهاب؟
-لا أدري ما أصابه، لكنه قلق بشدة.
-إلى متى سيظل يجتر ذكرياتنا الأليمة تلك؟ ما أصابني قد أصابني وكان قدرا قبل أي شيء، أنا الآن حي بينكم وهذا ما يهم.
-اِسأل له الهداية يا بنيّ.
طارت الولدة إلى سطح البيت، بعد أن سمعت حديث الجارتين، حان الآن وقت تبادل الأخبار المحلية والعائلية والأسرية والمطبخية و …و .. لذا حملت رفيقي المذياع واتخذت لي مكانا بين النباتات أنتشي عبقها الزكيّ.
ظللت على حالي، تسافر بي المحطات الإذاعية من بلدة إلى أخرى، ومن نغم إلى آخر، بينما انهمكت الوالدة في إعداد الطعام. أما سامي أخي الصغير، آخر العنقود ومدلل البيت، فقد اعتاد السهر إلى آخر الليل رفقة أقرانه في المقهى الشعبي، وها هو يغرق في نومه لا يستفيق قبل أن تتوسط الشمس سماء غرفته الصغيرة.
رجع أبي من دكانه مبكرا على غير عادته، دفع الباب بقوة وصرخ مناديا أمي التي أقبلت جريا لتسأله:
-ماذا هناك؟؟ أفزعتني يا رجل.
أجاب أبي بعد أن سحبها بعيدا عن باب البيت:
-المسؤولون أصدروا أوامر بتجنيد كل شاب قادرا على الالتحاق بالجيش، لابد أن يغادر سامي البيت قبل أن يأخذوه.
قال ذلك بلسان قلبه، لمست من نبرته الخائفة ألما يعتصره، وكأنه في مواجهة بركان ثائر. لا شك أن أمي كانت أشد خوفا، قد يكون الخوف ألجم لسانها، لكنها ظلت ثابتة حين قالت:
-الأمر ليس بأيدينا، وسامي له رغبة كبيرة في الدفاع عن الوطن.
-أي وطن هذا الذي سيسلب فلذة كبدي بعد أن أعاد لي أخاه الأكبر كفيفا، لا يرى النور إلا بقلبه الراضيّ.
-قضاء وقدر.
قالتها أمي بصوت خافت، بثّت فيه شكواها الصامتة. لطالما دفنت أمي الحزن في أعماقها، هي تعلم جيدا أن غضبها سيضاعف قلقي أو سيزيد من ثورة والدي، لذلك اختارت لهجة الكتمان وآثرت أن تلبس قناعا هادئا.
-لن أسمح لسامي بالذهاب أبدا، عليه انتظار موتي إن أراد فعلا الالتحاق بالجيش. تلك كانت كلمة أبي الأخيرة.
كان هذا اليوم مقدمة لفصل طويل من الحداد، أيامنا بلياليها ارتدت لون الحزن والخوف، أخي سامي يعيش بيننا في أمان ووالداي غارقان في بحر مستقبل مرعب، صرنا نترقب كل طرقة باب، تفادينا الخروج من البيت إلا لضرورة ملّحة. أخي أيضا حُكِم عليه بملازمة أسوار غرفته، مع أنه كان ليختار الجيش، لكن لا إرادة تعلو إرادة الوالدين.
تتوالى حلقات الأيام بنفس الرتابة، نفس الثقل يكتم أنفاسنا جميعا، عزاؤنا أننا لم نكن الوحيدين في هذا الجبّ، كل الأسر في ربوع الوطن يعيشون نفس الكابوس ويتوقون ليوم تضع فيه الحرب أوزارها.

الكاتبة فاطمة وجى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *