صفحات التاريخ مَلْأَى بمطارح كانت حاضنة لنفايات نماذج بشرية وحضارات صنعت مجد تفوقها المالي والاقتصادي والعسكري على أنقاض أرواح وأشلاء مجتمعات بشرية أخرى كانت تعيش في أراضيها بأمنٍ وأمان، حتى جاءتها فجأة ومن مكان بعيد مطارح بشرية أخذت على نفسها مسؤولية شرف احتضان مجازر ضدها، إبادات ذكرتها فصول الذاكرة العالمية، وبهذا الصدد نطقت ألسنة أمواج التاريخ بشهادات حية عن تلك الممارسات التي كانت عبارة عن دنايا، بعيدة كل البعد عن الكرامة البشرية:
تقول الشاعرة (كريستو) من هنود مينوميني:
“حدثيني يا (جدتي العجوز)، إن كل من شاورتهن من بنات جنسنا يخفن أن يكن هنديات. لأن رجلاً أبيض اغتصبهن، أو قتل أخاهن، أو طاردهن في الطرقات، أو إخوانهن، أو فعل كل هذه الموبقات بهن. هذا خبزنا، خبز البغضاء. نأكله (منذ مجيء الإنسان الأبيض) كل يوم. حتى أنا صرت أكره في بعض الأحيان أن أكون هندية”.
ويقول (مايكل هولي إيجل)، من نشطاء الهنود الحمر:
“تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين. ويا الله، ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون كذلك.. إن جلّادنا المقدّس واحد”.
إن الذاكرة التاريخية حُبلى بالعديد من الشهادات والحقائق الصادمة التي نشأ عليها أجداد عرَّاب الناقة السوداء.
فإذا كان (أبرهة الأشرم) الذي سعى يوماً ما إلى تهديم الكعبة المشرفة لم يخطر بباله إطلاقاً تهجير سكان (أم القرى) وترحيلهم خارجها بعد أن يتم مشروعه، فإن حكمة الأقدار كانت فوق مشروعه ومشروع أي كان. حتى الذي تربى في أحضان بيئة كان أجداده قد مارسوا القمع والتقتيل ضد شعب مسالم، فأبادوا من خلاله الآلاف من الهنود الحمر، واغتصبوا النساء الهنديات وطاردوهن في الطرقات، ومارسوا عليهن كل أنواع البطش والعنف.
لذلك، ليس غريباً أن يتجرأ على التفكير كما كان أسلافه، حيث هيأ له خَبَله أن سكان القطاع أشبه بالهنود الحمر، فتجرأ حين كان الأمر الناهي في المرحلة الأولى له على تدبير الشأن العام على اتخاذ قرار صفقة القرن بتغيير معالم خارطة طريق الشرق العربي، وجعل من القدس عاصمة أبدية لأولئك الذين قالوا لنبيهم:
“اِذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون”.
والآن، هو يحاول تهجير سكان القطاع.
إن سكان القطاع ليسوا لقمة سائغة تلوكها أنت وغيرك كيفما تشاؤون. كلا وألف كلا، لقد أخطأتم العنوان، فسكان القطاع لديهم من الخلفيات العقائدية ما ليس عند الهنود الحمر.
سكان القطاع جيل تربى في حاضنة سامية سلوكاً، ثقافة، علماً وأخلاقاً، شعب من سلالة أكاديمية كان على رأس عِمادتها رجال لا يخافون وحوش البراري، ولا البحرية السادسة، ولا ربيبتها السداسية، فقط يخافون من الصمد الذي لم يلد ولم يولد.
فالحياة والموت بالنسبة لهم سواء، شعب يعد جزءاً من نبات تلكم التربة الطاهرة، النقية، تلكم الأرض التي رضع من ثديها، واستحم بترابها، وعشق زيتونها وقواريرها، كَفَرَ أرضها، سقى بدموعه أغراسها، حصد سنابل قمحها بأسنانه، ونقش أغراسها بأظافر حرائرها، وعصر زيتونها برَحى صنعها من صخور رحم أمجاده.
فالإنسان الفلسطيني والأرض توأمان، كشقائق النعمان، يمتازان بوحدة عضوية ونفسية وموضوعية. والتفكير في تهجير الفلسطيني دون هذه الأرض، أمر يمكن إعداد صاحب الفكرة بأن به مساً من الشيطان، أو لفحة من شمس الخريف المؤذية أحياناً.
وعليه، فالمجتمع الدولي مطالب أدبياً بإخضاع الرجل للعلاج النفسي، لكون ما يدعيه يعتبر ضرباً من الخيال الممزوج بالحقد والكراهية والتعصب الناتج من غطرسة تفوق مكانة حضارة مدنية تعتبر نفسها رائدة عالم الديمقراطية.
عالم كان من رواده ما أخبرت عنه عالمة الإنسانية (مارجريت هدجن) بأن أول كتاب إنجليزي عن الهنود الحمر تم نشره سنة 1511م حيث:
“وصف الهنود بالوحوش التي لا تعقل ولا تفكر وتأكل بعضها، بل إنهم كانوا يأكلون زوجاتهم وأبناءهم”.
الكاتب عبدالسلام اضريف