عازف الصحراء | قصة قصيرة للكاتب الهادي نصيرة

 

القمر ينشر ضوءه الشاحب فوق كثبان الرمل الممتدة بلا نهاية، وأنا متكئ على صخرة ناعمة، أنفخ في نايي ألحانًا منسية، يتردد صداها، في خفوت الليل، بين أحضان التلال البعيدة، وفي أعماق الصحراء، كأنغام همس حزين…

أرحت الناي، ووضعته جانبا، قبل أن أسحب كتابًا كنت قد خبأته بين طيات عباءتي.
على صفحة بعينها، فتحته وبقيت أحدّق في الكلمات، دون أن أقرأ حرفا واحدا، قبل أن أنسحب إلى أعماق ذاكرتي…
لم يكن هذا مكاني، لكنني، اليوم، صرتُ جزءًا منه. عامان هنا، بين الرمل والريح والسماء الممتدة بلا أفق… أبدأ صباحي بتفقد قطيع الغنم والماعز، أراقب رؤوسه المبعثرة بين العشب الشحيح، وأتساءل: هل كنت أتوقع يوما أن أصبح راعيًا؟
فيما ابتسامة فتاتي التي أحببتها، تحضرني كإشراقة شمس دافئة…

إلى جانبي، ابن صاحب القطيع، هذا الفتي الذي يتبعني حيث أذهب، ويقلدني في كل شيء، حتى في صمتي.
يحثه الفضول، فلا يني يحاصرني بأسئلته : لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا لا تعود إلى المدينة؟ ألم تتزوج بعد؟ هل كنتَ تحب فتاة هناك؟
أضحك أحيانًا، وأحيانًا أتظاهر بأنني لم أسمع…

وحين أفكر في أمره، أجده محقا في كل ما يطرح من أسئلة ؛ إذ كيف له أن يستوعب فكرة أن يفرّ شاب إلى الخلاء، تاركا المدينة وترفها وأضواءها المتلألئة ؟
ومحق أيضا، إذ ليس باستطاعته أن يتصور أن تكون الصحراء – بالنسبة لي – أرحم من الطرقات المكتظة التي مررت بها، حاملا شهادتي الجامعية التي ظننتُ أنها ستفتح لي الأبواب على مصراعيها… لكنني ظللت، لسنوات، أطرق تلك الأبواب حتى كلت قبضتي… وفي النهاية، اخترتُ الرحيل، هربًا من كل شيء…

قلت له ذات مساء، وأنا أجلس فوق كثيب رملي، ونايي بين يدي : “سأعزف لك الليلة لحنا جميلا ” …
لم يجب، لكنه جلس قربي، منصتا إلى اللحن، وهو ينساب هادئًا، في سكون الليل كوشوشة بعيدة…

كنت مغمضا عيني ، حين تراءت لي قادمة من بعيد. كان العطر يسبقها، كدأبه دائمًا…
في عينيها يشع بريق ناعم، وفي صوتها رجفة شوق يخالطها يقين اللقاء…
غير بعيد، يطالعني ظل أبي :
” لن تتزوجها ! “
قالها بحسم، فاندثر ما تبقى لي من حلم، ولم يسأل أحد إن كنتُ سأحتمل الحياة بدونها…

انقطع اللحن، وانقطعت أنفاسي معه…
كنت لا أريد أن أفتح عينيّ، لأنني أعرف أنها ستختفي، ولن أرى، حولي، سوى الصحراء المترامية، والقمر البعيد، وهذا الفتى الذي يراقبني بصمت…

 

الكاتب الهادي نصيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *