تدوير للأديب نزار الحاج علي

 

أقفُ الآن محاصراً وجسدي يستند مهزوماً على الجدارِ الحجري البارد، تتجهم تعابيرهم ويحدقون في عينيَّ.

تتجسّدُ كلُّ الذكريات في مخيلتي مثل شرارةٍ من جمر.
منذُ اللحظة التي خاطبتني زوجتي العروس بتودد:
_تَبقّى لقمة صغيرة في الصحن، مدّت يدها إليّ…أرجو أن تأكلها.

لكنّ أسناني كانت أسرعَ من طلبها، انتزعتُ اللقمة بقوةٍ، لم أنتبه أنني التهمتُ إصبعها دون قصد. ضحكتُ على دمها يسيل. لم تطلب مني شيئاً بعدها.

سرعان ما انتشر الخبر: “احذروه.. يلتهمُ حتى اليد التي تمتد له بالطعام!” قالوا إنني ذبحتُ بقرةَ الجيران وشربتُ دمها. لم أنكر، بل أضفتُ للقصة فصولاً: أصرخُ في منتصف الليل: أنا جائع، أطعموني أو سألتهم أحشاؤكم! ثمّ أعويّ كذئب.

منذ ذلك اليوم، صاروا يتركون طعامهم أمام باب بيت، كقربانٍ لاسترضائي.
أضحك حتى أنقلب على ظهري: انظروا.. هذا ما يفعلُه الخوف!

سرعان ما عبرتْ سمعتي أسطح القرميد الأحمر لمنازل قريتنا، لتمطتي أجنحة صقر الوادي، الذي حطَّ بسرعة على الجدران الحجرية للقصر، فتمّ استدعائي للخدمة هناك على عجل.

أدخلوني من الباب الرئيس، أول ما لفتَ نظري هذه الساحة الكبيرة المرصوفة بالحجارة الصامتة مثل واحة هادئة، لكن سرعان ما تسرب إلى أنفي الرائحة الكريهة التي تفوح من أقبية القصر، وصولاً إلى قاعات الاجتماعات المغلقة، ولم تنجُ منها غرف النوم الأنيقة المكسية بأجمل الأسرّة وأجمل الجاريات.
لم تُفاجئني رائحةُ الموت. الرائحةُ ذاتها كانت تفوحُ من قريتي الخَرساءَ التي ركعت تحت أقدامي لسنوات.
مدير القصر قال لي: المعلم يبحث عن وحشٍ مثلك ليكون مسؤلاً عن السجن، هناك ستأكل البشر!
ضحكتُ كالمجنون وأنا أتبعه إلى غرفة تحت الأرض، فيها شاشاتٌ تُظهر أقفاصاً مليئةً بوجوهٍ شاحبة. همسَ في أذني: هؤلاء ليسوا بشراً…فقط أعداء. مهمتك أن تنظف’ البلاد منهم. أومأتُ. لطالما كنتُ ماهراً في ذلك.

في الليلة الأولى، أمرتُ بإحضار أحد المعتقلين، وصحتُّ:من يأكلُ لحمَ هذا الخائن…يُعطى قطعة خبز! فوراً بدأوا بالتهامه، ضحكتُ حتى انهمر الدم. بحلول الفجر، لم يبقَ منه سوى عظام.

أجفلتني الصورة، عندما أدركت حجم المهمة الملقاة على عاتقي؛ رسمتُ في ذهني خطةً استمرّتْ لسنوات.

يبدأ طريقي من عند القصر بأبراجه الشامخة وقبابه اللامعة تحت أضواء النهار، مروراً من تحت أسواره الحجرية_لطالما أسعدتني فكرة هذا العبور دونما تفتيش من أبراج الحراسة المنتشرة على أسواره الباردة_ نزولاً ‏عبر المدينة الكئيبة أعبرُ مسايراً الوادي، على ضفة النهر اليمنى أنعطفُ لاهثاً، ثُمَّ أشقُّ طريقي جنوباً باتجاه البحيرة الحمراء بلون الدم، الآن عليَّ أن أفرغ حمولتي؛ تتعالى الأصواتُ من الأسفل متوسلة، بقايا أرواح مسكينة تعومُ في القذارة، و تفوحُ منهم رائحةُ الموت.

و بينما أنا أصعد تراودني رؤيا أصواتهم تتعالى مستنكرة ينعتوني: بالقاتل المأجور…وبالتشبيح
تنفسّت ذلك الهواء لسنين، و بمرور الوقت تضاعف أعداد الجثث والأجساد، كان بمقدوري سماع أصواتهم الحزينة، ورؤية أجسادهم تتلوى، كذلك كان بإمكاني رؤيتهم كيف يلتهمون بعضهم بعضاً.

مرت السنوات وأنا “أنظف”. كل ليلةٍ أخرجُ حمولةَ السجن من جثثٍ وألقيهم في البحيرة الحمراء. ذات مرة، بينما أدفعُ جثةً طفلة صغيرة، كان وجهها يحدّق في عيني.
سمعتُ صوتها يصرخُ: “عمّو…رقبتي عم توجعني”
لطالما طاردتني تلك اللعينة في أحلامي بلا هوادة.

أثناء مهمتي الأخيرة تتطاولت أذرعهم لتمسك بساقي الباردة،
حاولتُ الهروب إلى حافة البحيرة، لكن أصواتَهم كانت ما تزال تلاحقني.
_لماذا يطاردوني أنا مجرّد عبد مأمور أنفّذ الأوامر.

نظرتُ إلى الماءِ فوجدتُ وجه الديكتاتور وهو يضحك باستهزاء، والوجوه الغارقةَ في الدمِ كانت تصعد كفِيَضان، لتسحبني إلى القاع.

حثثتُ ساقيّ للعبور في الطريق الذي أعرف أنّه لا رجعة منه، خرجتْ من صدري دون أن أحاول لجمها:

_ناكروا الجميل ألا تعرفون ما قدّمته لكم؟!.

_أيُّها الجهلة ألم تدركوا جمال ما فعلته لكم؟!.
_ألم أخلّصكم من الجحيم الذي كنتم تعيشون به.

اقتربتُ من الحافة أكثر، على مسافةٍ بعيدة في الأسفل رأيتُ أسطح القرميد، و بنت القريةِ تميلُ بجرّتها نحو النهر المسرع، من خلف سور القصر سمعتُ ضحكات الجواري الماجنة؛ انتابت جسدي رعشةُ برد.

أشحتُ بنظري عنهم إلى الأفق، رفعتُ يديَّ عالياً، تضرعتُ للمرة الأخيرة… خطوتُ خطوتي الأخيرة…أفزعني رؤية وجهي من خلف الظلال في بحيرة الدم.

الأديب نزار الحاج علي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *