قصة قصيرة كريم العنصرين للكاتب سيد جعيتم

استيقظت على اهتزاز الأرض تحت أقدام متزاحمة تتدافع في اتجاهات مختلفة بلا رؤية واضحة، ألم شديد في عظام مقعدتي من تعاريج بلاطات الرصيف، قام بعض المتواجدين بسحبي برفق، وأسندوا ظهري إلى الحائط.

سعيت إلى حماية قدميّ من وطأة أقدام الحشود، نظراتي تتنقل تائهة بين الوجوه التي تعج بها الساحة.
رائحة الغاز تجثم على أنفاسي، وصداع شديد يفتك برأسي، والهواء يراوح ولا يدخل صدري، سالت دموعي وإفرازات أغشيتي المخاطية، والصور أمامي متداخلة ومترنحة. ورغم برودة الجو، بلّل العرق الغزير وجهي وملابسي.

كادت رائحة الغاز أن تزهق روحي، فتحت عيني، ما زالت صور الميدان مشوشة. اهتزاز الأرض من تحت أقدام الجنود ينتقل إلى أقدام المتظاهرين، ونداء الله أكبر يمتزج بنداء عيش، حرية، عدالة اجتماعية.
يرفرف علم مصر فوق الميدانين.

أعلم أني إذا ظللت في مكاني فسأكون ميتًا لا محالة. حاولت القيام مستندًا إلى الجدار، لكن الدوار أقعدني، الصور تتباعد وتختلط في رأسي، يد (سمعان) رفيق سنوات الانتظار في الخندق تحتضن يدي، تشدني للصعود إلى الساتر الترابي ندك مواقع بارليف، تنبهت… أيادي شباب وشابات تتشابك، تحملني إلى الجهة الأخرى من الميدان، غسلوا وجهي بالمياه الغازية، خفت آثار وأعراض الغاز.

أدرك سبب نزولي إلى الميدان، لكني لا أتذكر اسمي. أرهقني البحث داخل عقلي، فسألت بصوتٍ مسموع:
– من أنا؟
تاه صوتي وسط الزحام! أقدح زناد فكري لأتذكر، وأخبطت بيدي على جبهتي دون فائدة.
تملكني شعور بالاغتراب، نفس الشعور الذي انتابني يوم عدت إلى وطني بعد طول غربة، واحتجزت لأيام لتشابه اسمي مع إرهابي. أصابتني الذكرى بالرجفة، فناديت بصوتٍ مرتعش:
– من أنا؟

الكل يركض دون هدى في جميع الاتجاهات.
أنصت إلى الأحاديث الدائرة بين المتجمهرين؛ التقوا في الميدان دون ترتيب مسبق، مطالبهم هي التي توجههم، لا قائد لهم، ولا مخرب بينهم.
غارق في الحوار داخل عقلي:
– من أنا؟
حُرِم رجال الشرطة من الاحتفال بعيدهم، لم تُعزف موسيقاهم كالمعتاد في قلب الميدان، صدرت الأوامر بعدم الاحتفال،”فضّوا التجمهر، اخلوا الميدان”.
. زاد التدفق، وامتلأ الميدان بالمصريين رجالاً ونساءً من كل الأعمار، مشكِّلين درعًا قويًا يحمي الميدان.
منصات تقام وشاشات تبث برامجها من قلب الميدان، وجوه من مُحترفي السياسة تندمج وسط الجماهير، تصعد المنصات، تلقي الخطب، وتشعل الحماس بشعارات مسجوعة تغنيها الجماهير. ركبوا الثورة ونصبوا أنفسهم زعماءها.
ارتفع سقف مطالب المتظاهرين:
ـ أرحل.

بجوار قاعدة التمثال وسط الميدان، تعزف موسيقى الشرطة:
ـ اسلمي يا مصر إنني الفداء
إنني أرجو مع اليوم غدًا.
في رحاب احتفالهم ألبست حبيبتي عقدًا من الفل، والتقطت لنا الصور وأنا أحتضن يديها وكلمات الحب تتدافع وتنثر السلام على قلبينا.
ـ أشتاق إليكِ حبيبتي، لتناديني باسمي فأتذكر هويتي.
أجول بعيني في الميدان، أصاب التعب المتظاهرين ورجال الشرطة. هدأت نقاط التماس وساد الهدوء، وبدأ الكثيرون في الانصراف.
موجات جديدة تدخل إلى الميدان لها هدف محدد، انتشروا في نقاط الاحتكاك، عادت الاشتباكات من جديد.
تاه شعار (عيش حرية عدالة اجتماعية) وسط الشعارات الجديدة.
يدوي هتاف أصحاب اللحى في قلب الميدان، وتعلو الهتافات من خارجه لركاب الحناطير القادمين من الكاتدرائية. ضاع صوتي وأنا أحذر من خطر الانقسام.

تنطلق رصاصات وحجارة من أسطح المنازل ومن أعلى كوبري عبد المنعم رياض، نحو المتظاهرين ورجال الشرطة. يدور حديث عن عربة تحمل أرقاماً دبلوماسية تدهس الناس. يقتحم راكبوا الجمال الميدان، هزموا زولوا مدبرين .
اختلط الحابل بالنابل. خيام تنصب ودورات مياه متنقلة تُقام، الاعتصام هدفهم. مخطط الاستيلاء على الثورة بات واضحًا.
في خضم تقاذف الشعارات والحجارة، دخلت دبابات الجيش للميدان.
عدت إلى منزلي أحمل علم بلادي.
بقلم: سيد جعيتم
جمهورية مصر معلم العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *