يمكن أن تكون هذه السيرة الاعتقالية هي الوحيدة التي تتحدث عن تحدي المحتل في رفض إجراءات الأسر، “كفاح الخطاب” أصر على أن يُعامل كأسير حرب، وليس كسجين أو معتقل أو مجرم، فهو كابين طيار فلسطيني، لهذا رفض أن يخض للعد الصباح والمسائي، وحتى ارتداء (الشاباص) ملابس السجن الخاصة بالفلسطينيين، وهذا الأمر تسبب له بأكثر من معاناة، معاناة الحبس الانفرادي، وألمه عندما وجد نفسه يتمرد على القادة “مروان البرغوثي، أحمد سعيدات” وغيرهم حيث كانوا يقفوا عند العدد ويرتدون ملابس السجن، بينما “كفاح” رفض، وهذا الأمر سبب له ألم نفسي، وألم جسدي، ومع هذا أراد الاستمرار في مواجه إجراءات السجان ورفضها جملة وتفصيلا.
إذن نحن أمام موضوع “السجن والأسر” ومواجهة العدو وسجنه، وهذا الموضوع قاس ومؤلم، ليس على الأسير فسحب، بل على المتلقي أيضا، من هنا ارتأى الكاتب إيجاد طريقة يمرر بها هذا الألم والمعاناة من خلال طريقة عرض للأحداث، فكان يشرك القارئ من خلال مخاطبته مباشرة بعبارة “عزيزي القارئ” وهذه الطريقة التي أستخدمها الكاتب أكثر من عشرين مرة في سيرته الاعتقالية، ساهمت في (تهدئة) الأجواء، وأيضا أعطت المتلقي جرعة من الراحة، وجعله يشعر بأنه قريب/صديق للكاتب، وهذا سهل عليه تناول الكتاب.
من هنا يمكننا القول إن كتاب “كفاح كفاح” جمع بين وطنية المضمون، وفينة التقديم، وهذا ما يعطي الكتاب قيمة معرفية ونضالية، وقيمة أدبية فنية.
سأحاول التوقف قليلا عند بعض المحطات في الكتاب، لإعطاء القارئ
صورة أوضح عما جاء فيه، فعندما قرر عدم الانصياع للعدد، لم يهتم “كفاح” لما سيحل به من أذى، بل كان همه موقف القادة منه: “أني سأكون محرجا وقت طقس العدد الذي سيكون في ذات الوقت الإفطار وسيكون مرون وكريم يونس وغيرهم موجودين، وسيبدو الأمر محرجا لهم لعدم وقوفي للعدد وهم الذين سيقفون على العدد كالآخرين” ص167، وهذا مؤشر على نبل “كفاح” وحرصه على مشاعر قادته، لهذا لم يكن يهتم لما سيحل به من سجن انفرادي، أو من ضرب، أو حرمان من الزيارة أو الكنتين، فكل همه مشاعر زملاءه الأسرى.
أما عن ألمه الجسدي الذي ترتب عليه رفضه الانصياع لإجراءات السجن، من امتناعه عن الوقوف عند العدد وارتداء ملابس السجن: “لكما حاولت إقناع الجندي بأني محصور وأريد التبول، إلا أن ويرد عليّ بجرافة رافضا، ليتساوق معه الكلب الراقد بجانبه الذي يفهم من لهجته أن ينبح عليّ مهددا ومتوعدا أن أصمت” ص384، ومع هذا استمر “كفاح” في الامتناع عن الوقوف عند العدد ورفض ارتداء ملابس السجن، رغم كل الطرق التي استخدمها السجان، إن كانت بالتهديد أو بالترغيب، بقي “كافح” مصرا على موقفه.
يذكر “كفاح” موقف “لأحمد سعادات” الأمين العام لجبهة الشعبية، عندما جاء مدير السجن ليتفاوض معه حول أضراب قام به الأسرى، فرد “سعدات” عليه: “لماذا تتعبون أنفسكم وتأتون للعنوان الخاطئ، هناك لجنة لقيادة الإضراب وتعرفونها، فلماذا لا تتوجهون إليها وما أنا إلا جندي تحت إمرتهم” ص198، هذا الموقف للأمين العام، يشير إلى نبل القائد وتواضعه، وعدم تجاوزه اللجنة رغم أنه أمين عام الجبهة.
رغم شراسة السجان ووحشيته في التعامل مع الأسرى، إلا أن العيد ممن كتبوا سيرتهم الاعتقالية كتبوا عن بعض السجانين بطريقة إيجابية، منهم “كفاح” الذي يتحدث عن نائب مدير السجن الذي وجد في “كفاح” حالة فريدة تستحق الاحترام، لإصرارها ورفضها الخضوع لإجراءات السجن، فهو أسير حرب وليس سجين جنائي، من هنا مد يده لمصافحته قائلا “أنا أحترمك” ص109، فتثبيت هذا الموقف في مؤلف أدبي يحسب للفلسطيني الذي يتحدث بموضوعية وحيادية حتى عن عدوه.
ونجد في الكتاب بعض الحكم التي تمثل رؤية الكاتب لتجربته في الأسر : من هذه الحكم: “المعرفة الحقيقية هي أن تعلم كم أنك لا تعلم” ص98، وهذا الحكمة يؤمن بها كل من يمارس فعل القراءة، فكلما قرأنا أكثر تأكدنا أننا لا نعرف شيئا، وإننا جاهلين وبحاجة إلى مزيد من المعرفة.
وعن تجربته في مقارعة السجان يقول: “أنا بخير ما دمت أعاند الباطل” 417، هذه الفقرة نثرها الكاتب في أكثر من موضع في الكتاب، وهذا يشير إلى أهمية المواجهة وعدم القبول بالواقع لأنه يتنافى مع إيماننا، مع قناعتنا.
الكتاب من منشورات الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، فلسطين، رام الله، الطبعة الأولى 2023.
الكاتب والناقد رائد الحواري