المجموعات في القص الموجز قصة نصيب للقاص والناقد المبدع الأديب عبد المجيد بطالي قراءة للكاتب حيدر الأديب

 

“المجموعات” هنا تشير إلى تجمعات أو كتل سردية صغيرة ضمن النص، تخدم أهدافًا محددة أو تتفاعل مع بعضها البعض لتشكيل معنى مركزي. بمعنى اخر هي وحدات بنائية في النص تتألف من عناصر مترابطة (كالأحداث، الصور، أو الدلالات) التي تعمل معًا لتحقيق غاية سردية أو دلالية.

وتعمل أيضا على خلق دلالات في اللحظة السردية عبر تفاعلها الداخلي ومع السياق الكلي للنص.  ووظيفتها الأساسية هي التكثيف والإيضاح، إذ تسهم كل مجموعة في تقريب القارئ من المغزى والمعنى المركزي.

تمارس المجموعات وفق طبيعتها عملية التأجيل الذي (هو عملية دلالية تعتمد على تأخير الكشف عن المعنى النهائي للنص، مما يخلق سيرورة مستمرة) كذلك من جهة أخرى نرى ان التأجيل هو عملية يُنجزها ذهن المتلقي عبر تأخير إدراك المعنى النهائي بسبب إشارات النص الغامضة أو المؤجلة.  المجموعات هنا تقوّض هذا التأجيل عبر آلياتها البنيوية والدلالية، حيث:

  1. التكثيف الدلالي: كل مجموعة تحتوي دلالات مكتملة جزئيًا، مما يمنح المتلقي إشارات واضحة تُحد من احتمالات التأويل المفرط.
  2. التتابع الوظيفي: تترابط المجموعات في سلسلة تؤدي إلى تراكم المعنى تدريجيًا، مما يقلل الحاجة لترك الفراغات التأويلية مفتوحة.
  3. التوجيه الداخلي للنص: النصوص التي تعتمد على المجموعات تُوجّه القارئ نحو مغزى محدد عبر توزيع ذكي للدلالات، مما يُضعف من مساحة التأجيل الذهني.

رغم ممانعة المجموعات للتأجيل، قد يتم استخدامه بجرعات صغيرة ضمن النصوص القصيرة جدًا لخلق مفارقة او صدمة حيث يستخدم التأجيل يُستخدم في النهاية المفاجئة ويترك النص بعض الإشارات مفتوحة (إرجاء محدود) لإثارة القارئ وإشراكه في عملية التأويل.

 

لفهم مفهوم “المجموعات” في القصة القصيرة جدًا بشكل أعمق، يجب أن نغادر السطحية المتمثلة في تسميتها أو مجرد وصفها، والدخول في تحليل عملي يكشف كيفية بنائها، وكيف تعمل داخل النص، وما طبيعتها الأساسية. في السرد القصير جدًا، تعتبر المجموعة وحدة حيوية تسهم في تركيبة النص، وتؤدي وظيفة معينة تساهم في توليد المعنى الكلي رغم التكثيف المفرط للغة.

المجموعة هي بنية سردية دقيقة، تحمل دلالات متعددة وتلعب دورًا رئيسيًا في بناء المعنى العام للنص. قد تظهر المجموعات على شكل مشهد كامل ينتمي إلى السياق العام للنص، أو دلالة تتشابك عبر كلمات وجمل تحمل إيحاءات أكثر من التصريحات المباشرة. قد تكون المجموعة صورة ثنائية أو مفارقة تعكس التوترات الكامنة وتكثف الفكرة الرئيسية.

المجموعة في هذا السياق تشكل عنصرًا متماسكًا، ربما حدثًا صغيرًا، وصفًا، أو دلالة رمزية، وتكون مدخلاً لفهم التحولات داخل النص. على سبيل المثال، في نص قصير جدًا، قد تبدأ المجموعة الأولى بتقديم صورة مشهدية، مثل “حبةُ سُكّرٍ على الطاولة”، حيث يُقدّم للقارئ عنصرًا بسيطًا لكنه محمل برمزية تفتح مجال التأويل. في المجموعة الثانية، نرى حدثًا صغيرًا لكنه محمل بالدلالة، مثل “تسقطُ نملةٌ في حقلِ اللذةِ”، حيث تبرز الإشارة إلى الصراع بين الرغبة والخطر، وتبدأ الحركة السردية في التصعيد. أما في المجموعة الثالثة، نجد القفلة التي تحمل مفارقة قوية، “غدًا سيمطرُ المكانُ عتمةَ جنازتها”، مما يخلق شعورًا بالحتمية المأساوية لتلك اللحظة.

هذه المجموعات، رغم كونها جزئية ومكثفة، تعمل معًا لتشكيل بنية سردية متكاملة. فكل مجموعة تحمل فكرة جزئية تعمل على تطور النص وتُضيف طبقات من المعنى. المجموعات في السرد القصير جدًا تُنظم وتترابط، إما بشكل تكاملي أو متناقض، مما يُكسب النص ثراءً دلاليًا رغم اقتصاره. حيث يتحقق التفاعل بين المجموعات عبر الصمتات بين السطور، مما يفتح المجال لتأويلات متعددة ويثير تساؤلات القارئ.

النص الذي يقدمه المثال (“حبةُ سُكّرٍ على الطاولةِ.. تسقطُ نملةٌ في حقلِ اللذةِ.. غدًا سيمطرُ المكانُ عتمةَ جنازتها”) هو نموذج مثالي لاستكشاف المجموعات في القصة القصيرة جدًا. حيث يمكننا أن نرى بوضوح كيفية تكامل المجموعات الثلاث لبناء تجربة سردية عميقة ومركبة. تبدأ المجموعة الأولى بوضع المشهد عبر وصف بسيط يحمل دلالات رمزية قوية؛ فحبة السكر على الطاولة لا تمثل مجرد عنصر مادي بل تمثل بداية الإغراء واللذة. في المجموعة الثانية، يتصاعد السرد، حيث تسقط النملة في حقل اللذة، مما يعكس خطر الانغماس في الرغبات غير المحسوبة. أما في المجموعة الثالثة، تأخذ القصة منحى مفاجئًا بتقديم نبوءة مأساوية، حيث تُمطر المكان عتمة الجنازة، فتتحقق النهاية الحتمية للنزوة.

المجموعات في هذا السياق لا تقتصر على تقديم صور أو أحداث، بل هي بنية ديناميكية ترتبط ببعضها البعض وتشكل نصًا ذا طبقات دلالية معقدة. كل مجموعة تعمل كجزء من مجموعة أكبر، حيث يتداخل الزمن والمكان والرمزية، ويعتمد النص على الفراغ بين هذه المجموعات لفتح المجال لتأويلات غير مرئية.

إجمالًا، لا تُعتبر “المجموعة” في القصة القصيرة جدًا مجرد وحدة سردية أو جملة وظيفية، بل هي بُنية تُساهم بشكل أساسي في خلق المعنى المركب داخل النص، وتعمل على استفزاز القارئ فكريًا وعاطفيًا. من خلال التكثيف والرمزية والمفارقة، تفتح المجموعات في السرد القصير جدًا أبوابًا لفهم أعمق للنصوص، مما يجعلها أداة قوية في التعبير عن الأفكار المعقدة في شكل مختصر ومؤثر.

 

فاعلية المجموعات في دحض مقولة “موت المؤلف

  1. الاختيار الواعي للمجموعات:
    كل مجموعة تظهر في النص تعتمد على قرارات متعمدة من المؤلف، سواء كان ذلك في اختيار الكلمات، الرموز، أو التراكيب. هذا الاختيار الواعي يناقض فكرة أن النص يمكن أن يوجد دون تأثير المؤلف.
  2. التوجيه الداخلي للنص:
    • المجموعات تعمل كبنية مترابطة تحمل دلالات مركبة.
    • حتى لو حاول القارئ فك شفرة النص بطرق مختلفة، يبقى المنطق الداخلي للمجموعات (الذي صاغه المؤلف) إطارًا حاكمًا.
  3. تداخل المرجعيات:
    الرموز والموضوعات التي تظهر في المجموعات تستند غالبًا إلى مرجعيات ثقافية واجتماعية تعكس بيئة المؤلف وخبراته. القارئ قد يستقل بفهم النص، لكن لا يمكنه تجاهل بصمة المؤلف في اختياره لهذه المرجعيات.
  4. التكثيف والإيحاء:
    • المجموعات في القص الموجز تُكثف المعاني وتترك فراغات تأويلية، لكن هذه الفراغات مصممة عمدًا بواسطة المؤلف لتوجيه التأويلات في نطاق معين.
    • هذا يجعل النص انعكاسًا مزدوجًا: بين حرية القارئ وتأطير المؤلف.
  5. الذاتية الإبداعية:
    حتى عندما يغيب صوت المؤلف الواضح، يبقى النص انعكاسًا لذات المؤلف وفرديته. النصوص التي تعتمد على مجموعات رمزية أو شعرية تُظهر أثر المؤلف بوضوح عبر أسلوبه الخاص.

 

 

تطبيق مفهوم المجموعات عمليًا على القصة الموجزة نصيب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النص

خَرَجَتْ تَتَمَطَّى بَيْنَ الأَشجار الوارفة وهي تُشَاكِسُ الظلال وتُغازِلُ أَشِعَةَ الشَّمْسِ، جَذلى تَرْقُصُ لِأُغْنِياتِ الطيور من حولها … انجذبَتْ تُجاه الوادي لتروي عطشها … ظهرت لها صورتها الفاتنة تتمايل صافية متلألئة تحت شفافية الماء، أخذتها الغواية، هامت في حوار نرجسي فاتن بداخلها، غفتْ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَفاقَتْ على صَوْتٍ غَرِيبٍ وَهِيَ تَتَخبَّطُ فِي بَطْنِ تمساح شرس.

تحديد المجموعات في النص وفاعليتها

  1. المجموعة الأولى: “الخروج والبهجة
  • النص: خَرَجَتْ تَتَمَطَّى بَيْنَ الأَشجار الوارفة وهي تُشَاكِسُ الظلال وتُغازِلُ أَشِعَةَ الشَّمْسِ، جَذلى تَرْقُصُ لِأُغْنِياتِ الطيور من حولها…”
  • وصف المجموعة:
    تمثل هذه المجموعة لحظة انطلاق الذات في بيئة مليئة بالحياة والطاقة، وهي مجموعة تصويرية ورمزية تعكس النقاء والطبيعة غير الملوثة للرغبات.
  • فاعليتها:
    هذه المجموعة تبني شعورًا بالإيجابية والانطلاق، لكنها في الوقت ذاته تلمح إلى حالة من الانغماس في اللذة والاندماج الحسي مع الطبيعة.

    • دلالياً: هذه البداية تعدّ أرضية للتوتر بين الحرية والمتعة من جهة، والعواقب الكامنة من جهة أخرى.
  1. المجموعة الثانية: “الانعكاس والغواية
  • النص: ظهرت لها صورتها الفاتنة تتمايل صافية متلألئة تحت شفافية الماء، أخذتها الغواية، هامت في حوار نرجسي فاتن بداخلها…”
  • وصف المجموعة:
    الانتقال هنا من التفاعل مع الطبيعة إلى الانجذاب نحو الذات من خلال صورة الماء. تتكثف هذه المجموعة حول فكرة الانعكاس كمرآة نرجسية.
  • فاعليتها:
    هذه المجموعة تُبرز لحظة الصراع الداخلي. تعكس الغواية هنا تحذيرًا ضمنيًا من الانشغال المفرط بالذات، مما يفتح باباً لفهم الصلة بين اللذة والمخاطرة.
  1. المجموعة الثالثة: “المواجهة مع الخطر
  • النص: غفتْ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَفاقَتْ على صَوْتٍ غَرِيبٍ وَهِيَ تَتَخبَّطُ فِي بَطْنِ تمساح شرس.”
  • وصف المجموعة:
    هذه المجموعة تمثل ذروة التوتر والتحول الدرامي في القصة. الانتقال من النشوة إلى الخطر يتم بسرعة صادمة تعكس طبيعة القص الموجز.
  • فاعليتها:
    • دلالياً: التمساح هو رمز للعقاب أو النتيجة الحتمية للغواية، مما يجعل القارئ يعيد التفكير في السرد بأكمله.
    • سردياً: هذه المجموعة تكثف الحدث النهائي وتدفع بالنص نحو الخاتمة المفاجئة.

كيف تعمل هذه المجموعات ضد مقولة “موت المؤلف”؟

  1. التخطيط البنائي للنص:
    المؤلف قسم النص بدقة إلى ثلاث مجموعات سردية مترابطة تخدم غرضًا فكريًا ودلاليًا. حتى لو حاول القارئ تأويل النص بحرية، يبقى البناء السردي وصياغة المجموعات علامة على وعي المؤلف وسيطرته على النص.
  2. الرمزية المُتعمدة:

-استخدام الماء كمرآة للطبيعة الداخلية، والغواية كفعل إنساني مرتبط بالتأمل الذاتي، والتمساح كخطر يختبئ خلف الرغبات، هي خيارات رمزية واضحة من المؤلف.

-هذه الرمزية تُبرز البعد التأليفي للنص، وتُبطل فكرة أن النص يُخلق ويُقرأ بمعزل عن المؤلف.

  1. التداخل بين الذات والطبيعة:
    المؤلف ينسج بين اللحظات الحسية والطبيعية ليبني رؤية فلسفية حول العلاقة بين الإنسان وبيئته. هذه الرؤية لا تظهر دون تدخل المؤلف.

التفاعل بين المجموعات والمعنى

القصة تعمل من خلال مجموعات مترابطة، كل واحدة تفتح بابًا دلاليًا:

  • الأولى تقدم بيئة ملهمة، مشحونة بالحرية والمتعة.
  • الثانية تبني لحظة الانعكاس والغواية.
  • الثالثة تؤكد على الفجوة بين الرغبة والعاقبة.

المؤلف هنا هو القوة المحركة التي تتحكم بهذه المجموعات وتنسجها معًا في نص موجز يحمل معاني متعددة. بهذه الطريقة، تثبت القصة دور المؤلف الفاعل والمستمر في بناء النصوص الموجزة.

 

نصيب

خَرَجَتْ تَتَمَطَّى بَيْنَ الأَشجار الوارفة وهي تُشَاكِسُ الظلال وتُغازِلُ أَشِعَةَ الشَّمْسِ، جَذلى تَرْقُصُ لِأُغْنِياتِ الطيور من حولها … انجذبَتْ تُجاه الوادي لتروي عطشها … ظهرت لها صورتها الفاتنة تتمايل صافية متلألئة تحت شفافية الماء، أخذتها الغواية، هامت في حوار نرجسي فاتن بداخلها، غفتْ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَفاقَتْ على صَوْتٍ غَرِيبٍ وَهِيَ تَتَخبَّطُ فِي بَطْنِ تمساح شرس.

الكاتب حيدر الأديب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *