البت بسة للكاتب محمد فتحي شعبان

قبل الفجر بقليل في ( دغويشة الفجر ) تسير( زهور) في شوارع السوق حاملة فوق رأسها ( صنية ) الفطير ، تنادي بصوت ناعم ( فطير بالعسل يا عسل ) ، تنادي باسمي ( فطيرة بالعسل يا استاذ خيري) …أشير إليها بالإيجاب ، تأتي إلي المحل تناولني الفطيرة ..أري علي كفيها رسوم الحناء ، اسرح قليلا مع بياض كفيها و احمرار الحناء ، اسمع صوتها ( اتفضل يا استاذ ) اتناول منها الفطيرة مرددا ( مرحب يا نقراش الحنة ) تبتسم ثم تمضي .
في السوق متسع للجميع والكل ( بيسترزق ) البنت( بسة ) تبيع ارز باللبن لكنها مثل قطة شرسة تخربش كل من حاول التلامس معها لكنها تكون انعم من الحرير مع (السيد نقاوة ) ذو الرأس الضخم والأطراف الكبيرة ، الذي يرتب ادوار السيارات في الموقف ، يفرد عليها جناحيه ويحميها من اي أحد .
الشيخ( عبده المنفي) يظهر قادما من أحد الأزقة يدفع عربة الفول و البليلة أمامه يهز الجرس في يده ويردد كلمات غير مفهومة بصوته الجهوري ( أليلة لووووول ) ، احكي معه دوما في احوال الدنيا والآخرة فهو كما كان يقال عنه ( دارس في الأزهر أيام زمان ) …كان جده الكبير الشيخ إبراهيم بن محمد شيخ من شيوخ الأزهر وقد نفاه الأنجليز برة مصر المحروسة في الشام فصار المنفي لقب للعائلة ، ورجع من هناك وقد تزوج امرأة شامية حلوة كان الشيخ عبده يشبهها فكان صاحب ملامح شامية ، وعلي حد قول البنت بسة : (أبيضاني وحليوة وعيونه خضر ) .
المهم كنت متعلقا بزهور بائعة الفطير ذات الملامح الحلوة ( والتقاطيع المسمسمة ) بدوية كانت تتمخطر في مشيتها فيهتز قلبي مع كل اهتزازة في جسدها ، أحاول أن أبدو ( ثقيلا ) عندما تمر كل صباح و تناولني الفطيرة لكن رغما عني تلتصق عيناي بها وهي تحدثني ، عندما حدثت مشادة بينها وبين بسة علي الزبائن وحاول السيد نقاوة فرض سيطرته عليها تصديت له و تشاجرت معه رغم كل ما تلقيت من ضربات فوق رأسي ( روسيات ) إلا أني لم أتراجع و صمدت للنهاية ، كانت بسة كلما مررت امامها تنظر لي نظرات تقول الكثير من الكلام ، لكني لم اشغل بالي .
في المساء تقابلت مع الشيخ عبده المنفي علي المقهي في آخر السوق ، زيزة هكذا كان اسمها امرأة شابة في بداية عمرها …تقف أمام القهوة بفترينة سندوتشات كبدة …الريحة تهفهف تشعرنا بالجوع ، اكلت ستة أرغفة فينو والشيخ عبده اكل ثلاثة ، كانت مثل الذكر تلبس بناطيل وقمصان رجالي ، لكن يوما رأيتها خارج السوق فرأيت امرأة مليحة ، كانت زهور هي الأولي و تتبعها كل النساء .
بسة جاءت صباحا تريد مصالحتي و الاعتذار عما فعله نقاوة ، وضعت يدها فوق كتفي أمسكت بيدها أبعدها عن كتفي ، وجدتها ناعمة طرية فتركتها في يدي لكن بسة انتبهت و سحبتها من يدي وابتعدت مكررة الاعتذار ، مر نقاوة من أمامي ثم تقدم إلي واعتذر هو الآخر ، الحمد لله لم تخبره بسة اني أمسكت يدها ، لم تظهر زهور اليوم في السوق لكن لم استطع الذهاب إليها والسؤال عنها .
أحضرت بسة طبق أرز باللبن ولم تأخذ حسابه ، تأملت جسدها حين استدارت راجعة إلي مكانها ، تبدو مليحة هي الأخري لكن لم يهتز قلبي معها .
لليوم الثاني لم تأتي زهور لكن اختها مرت اليوم حاملة فوق رأسها صنية الفطير ، دفعت إلي فطيرة بالعسل ….سألتها عن زهور فردت ( مستاجعة ) مريضة هي إذن طلبت منها إبلاغ سلامي إلي زهور ، بسة كانت ترمي بنظراتها إلينا ، الشيخ عبده كان علي ناصية السوق اسمع صوته مرتفعا ألييييلة لوووول

عبده المنفي
مع صلاة الفجر تراه يدور في السوق بعربة الفول و البليلة
يدفعها أمامه في صمت ، يتركها امام المسجد ثم يدخل للصلاة ، عبده المنفي فارع الطول شديد البنية ورغم ما وصفته به البت بسة أنه ( أبيض وحليوة وعيونه خضر ) إلا أنه كان خشنا جهوري الصوت لا يتوافق شكله مع صوته وطريقة عيشته ، كان خليطا من البدو القريبين من مدينتنا وأهل الصعيد ، فقد عاش بينهم طويلا .
كعادته وجدت عربته امام المسجد مع صلاة الفجر ، عندما انتهي من الصلاة وقف في زاويته المعهودة ، ذهبت إليه ألقيت عليه التحية تهلل وجهه حين رآني وبدأ في أحاديثه الشيقة .
الصباح جاء يمشي علي استحياء …يسحب الليل عساكره ويمضي إلي رجعة قريبة ، الناس يتوافدون إلي الطريق وتبدأ المحلات في فتح أبوابها …. نادية العلمة قادمة من بعيد تمشي مستندة إلي عصاة خطواتها بطيئة ، سرحت قليلا ثم عدت إلي الأرض ، أتت إلي عربة الفول أعطاها عبده طلبها ثم مضت تسحب قدميها ، تبعتها عيناي حتي اختفت مع أحد منحنيات الطريق ، نظرت إلي عبده و كأنه فهم قصدي فأخذ في الحكايا عنها وأنها كانت راقصة تهز الافراح هزا بهز جسدها ، ركبت جواد الخيال و رأيتها ترقص كان الجواد جموح ابي أن يرينى إياها شابة لكن في نهاية الأمر ترك لي قياده ، رأيتها شابة بهية الطلعة تكشف من جسدها أكثر مما تخفي ، تتمايل و تتمايل معها القلوب و الأجساد وإذا هزت نهديها و أردافها ارتجت الأرض واهتزت ، حتي نظرات عينيها تتراقص

، تغمز لأحدهم يقفز قلبه من مكانه ويرقص حولها ، عاند جواد الخيال …رأيتها عجوزا تنظر إلي نفسها تحاول هز جسدها فتسقط منها العصا وتسقط أرضا ، هز عبده كتفي فوجدت أني ما زالت علي الارض .

الكاتب محمد فتحي شعبان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *