المَثَلُ في اللغة مأخوذ من الجذر الثلاثي “مَثَلَ “، والذي منه المِثالُ ومعناه: الشّبَه والنظير، وقد عدّ البلاغيون كلمة “مِثْل” من أدوات التشبيه، التي توضع للماثلة بين شيئين، كالكاف، وكأنّ، وأشْبَهَ .
أما في الاصطلاح فهو قول موجز قيلَ في مناسبة ما وأصبح يُتمثلُ به للتعبير عن كلّ حالة تشبه تلك المناسبة التي وُجِد فيها. وقد ساق الميداني في مقدمة كتابه ” مجمع الأمثال” عدداً من آراء اللغويين والبلاغيين في المثل؛ كقول أبي العباس المبرّد:” المثْلُ مأخوذ من المِثال وهو قولٌ سائرٌ يُشبّهُ به حال الثاني بالأول. والأصل فيه التشبيه “. وكقول ابن السكِّيت: ” المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شبهوه بالمِثال الذي يُعْمَلُ عليه غيره ..” ويرى ابن عبد ربه في العقد الفريد ” أن الأمثال وشي الكلام وجوهر اللفظ وجلي المعاني، وهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة، لم يَسرْ شيءٌ مسيرها ولا عمّ عمومها حتى قيل: أسْيَرُ من مَثَل” .
والحقُّ أن الأمثال فنّ نثري قائم بذاته من فنون الأدب كالشعر والخطابة والرسائل والمقامات.
وقد لقي عناية العلماء القدماء أمثال الأصمعي والنضر بن شميل وأبي فيد السدوسي وابن سلام والمفضل الضبي وغيرهم كثير، لكن أكثر كتب الأمثال شيوعاً هي كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري ومجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني. وقد اشتمل القرآن الكريم على نحو سبعة وثمانين موضعاً ورد فيها كلمة:” مَثَلُ – مِثْلَ – أمثال – الأمثال – مَثَلاً ..” كقوله تعالى:” واضربْ لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ” [ يس 13] ، وقوله تعالى :” وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه ..” [ يس78] وقوله تعالى :” وتلك الأمثالُ نضربها للناس لعلهم يتفكرون ” [ الحشر 21] وغير ذلك كثير.
وللمثل خصائص تميزه عن غيره من الكلام أوجزها إبراهيم النّظام -وأوردها الميداني في مقدمة كتابه -بقوله:” يجتمعُ في المَثَلِ أربعة لا تجتمعُ في غيره من الكلام وهي: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية.”
ولعل المثل يسهم في إثراء المعنى وتقريبه إلى ذهن السامع، لذا استعمله الكتّاب والخطباء عبر القرون، تقوية للحجة، ودفعاً للتهمة، وقرعاً للخصم، وقد قام ابن أبي الحديدي بدراسة للأمثال في كتاب نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب، فإذا بها تربو على ثلاثمائة مثل، ما يدل على أهمية المثل في فن الخطاب.
وقد كتب أمين اليزيدي رسالة دكتوراه في الخصائص الفنية للحكم والأمثال العربية في السودان عام 2005م، ورأى أن المثل من أبرز وأقدم فنون القول لما يشتمل عليه من بذور الفنون الأخرى كالإيقاع والخرافة والحكاية على لسان الحيوان.
والقارئ للأمثال العربية القديمة من حيث دلالاتها يجدها غزيرة الدلالة؛ فهي لم تقل من فراغ، وإنما أمْلَتْها التجربة وطول الفكرة، وكانت زبدة المقال في المقام. لذا نرى بعضها يبدأ باسم التفضيل ” أشجعُ ، أجبنُ ، أعزُّ ، أهونُ ، أبخلُ ، أكرمُ …” أو أسماء الشرط المعروفة أو النفي ، وهي في مجملها إما تحذير من أمر ما كقولهم ” قد شمّرتْ عن ساقها فشمّري ” يضرب في الاستعداد والتحذير من الغفلة ، وكقولهم :” هذا أوان الشدّ فاشتدي زِيَم ” وزِيَم اسم فرس ، وكقولهم :” هُدنة على دَخَن” أي على فساد ، وهذا تحذير للتنبه عند المصالحات ووقف القتال ، والدّخنُ تغير الطعام مما يصيبه من الدّخان ثم استعير لفساد الضمائر ، وكقولهم :” الندمُ على السكوت خير من الندم على القول ” وفي هذا تحذير من كثرة القول فيما يعرف ولا يعرف ، ومثله :” لا تهرف بما لا تعرف “، ومثله :” المكثار كحاطب ليل ” أي المكثار من الكلام فيما لا يعرف كالذي يحتطب في الليل ، فربما لدغته أفعى أو لسعته عقرب وهو لا يعرف وغير ذلك كثير . وبعض هذه الأمثال علامة على التصاق الفعل بصاحبه أكثر من غيره ، وبخاصة تلك الأمثال التي تبدأ باسم التفضيل ، كقولهم :” أكرَمُ من أسد وألأمُ من ذئب ” لأن الأسد إذا شبع لم يكترث بما يمرّ به من حيوانات ، أما الذئب فإنه طوال وقته يتعرض لما يعرض له ، وكقولهم :” أعدى من الشنفرى ” لسرعته في الجري ، وكقولهم :”أعزّ من كليب وائل ” فكان من عزته أنه حمى الكلأ فلا يقرب حماه أحد، ويجير الصيد بأرضه فلا يُهاج ، وكقولهم :” أبصر من زرقاء اليمامة ” وكقولهم :” أخطبُ من سحبان وائل ” لشهرته في الخطابة ، وقولهم :” وأجهلُ من فراشة ” و ” أجبنُ من نعامة ” و ” وأجود من حاتم ” و ” وأشأمُ من البسوس ” وغير ذلك كثير . وبعض هذه الأمثال وضعت موضع النصيحة والإخبار ليتعظ بها كقولهم :” سبق السيف العذل ” وكقولهم :” سُبَّني واصدقْ ” يضرب في الحث على الصدق ، وكقولهم :”لا يفلّ الحديد إلاّ الحديد ” وقولهم :” الشماتة لؤم ” وقولهم :”أحبب حبيبك هونا ما ” وقولهم :” خالف تُذكر” وقولهم :” خير مالك ما نفعك ” وقولهم :” ربّ ساعٍ لقاعد ” وقولهم :” ربّ أمنية جلبت منية ” الغضبُ غولُ الحلم ” أي مهلكُهُ ، وقولهم :” من لاحاك فقد عاداك “وقولهم :” من مأمنه يؤتى الحذِرُ ” وقولهم :” الملك عقيم ” لأنه يقطع الأرحام ويفرّق الجماعات فلا يبقي أحداً ، وقولهم :” المنيّة ولا الدنيّة ” وغير ذلك كثير ..
والصحيح أني قرأت كثيراً من الأمثال العربية القديمة، وهي –بحق-ترسم صورة للإنسان العربي في مناحي حياته، وطرق تفكيره، وثقافته، فإذا هي قوية عزيزة تحثّ على الفضائل وتحذر من الرذائل، وتعلي من الأخلاق الكريمة، وتحطّ من المعايب. صورةٌ في مجملها مشرقة تدلّ دلالة بيّنة على دور الكلمة في حياته، فهو يقولها، ويسمعها، ثم تنتشر في الأرض انتشار الهشيم، كيف لا !!؟ والعرب أمّة تميزت بالفصاحة، وما فقهت العرب ولا أبدعت إلا فنّ الكلمة، لذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال:” الشعر ديوان العرب ” والشعر كلام موزون مقفى؛ لكنه يصف الحياة العربية القديمة، ويصورها أجمل تصوير. ولعل السبب الذي دفع الجاحظ إلى تأليف كتاب البيان والتبيين هو إثبات أن العرب هم أصحاب البلاغة والخطابة والفصاحة، وهو في ذلك يردّ على الشعوبيين الذي ادّعوا أنهم أهل الفصاحة والبيان.
وحين نستعرض أمثال العرب في العصر الحديث، لا نصدق أنّ لها صلة بأولئك الذين طواهم الزمن، وخلّد مآثرهم في المكتبات، بعد أن صنعوا المعجزات بإيمانهم وحكمتهم وبأسهم.
أجل، لا نصدّقُ أنّ هذه الأمثال يقولها ويرددها امرؤ يحمل ذاك التراث الثرّ!! فهي أمثال تصور ما نعايشه من ضيق وقلق سببه أنّ الحياة أصبحت مادية محض، في مقاييسها للقوة والضعف، والنجاح والفشل، ومن خوف منشؤه انعدام الثقة بين الناس ، وشعورنا أن المصلحة هي الأساس المتين الذي يحرك علاقات الناس ، ويدفعها إلى السكوت عن الحقّ ومدارة الباطل ، والتظاهر بالمحبة، والتصنع بالكراهية ؛ وسأسرد بعض الأمثال التي تشيع في مجتمعاتنا كما يتلفظ بها الناس اليوم كقولهم : (حطّْ راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس ) ومثله ( الموت مع الناس نعاس) أو (رحمة) ويريدون بذلك ألاّ ينفرد الإنسان برأيه ، خوف أن يلحقه أذى، أو ألّا يبتعد عن الجماعة في قول أو فعلٍ وإن كانت على خطأ ، ويقولون: ( بوس الكلب من فمه حتى تؤخذ حاجتك منه ) وهو حثّ صريح على النفاق والبحث عن المصلحة وتقمص شخصية أخرى مخالفة للواقع ومصاحبة من بيده المال والجاه (صاحِبْ السيف ولو جَرَحَكْ)، ، ومثله قولهم : ( اطعمْ الفم بتستحي العين ) وذلك للوصول إلى تحقيق الغرض بصرف النظر عن المُطْعَم يستحقُ أم لا يستحق ، ومن الأمثال ما يدعو صراحة إلى الابتعاد عن مشاكل الناس وعدم الإسهام في حلّها أو التوسط بين الخصوم ، كقولهم: ( فخّار يكسر بعضه ) و (يا داخل بين البصلة وقشرتها ما بطولك غير ريحتها ) و(امشِ الحيط الحيط وقول يا رب الستر) و( ابعدْ عن الشرّ وغنيلو) و ( الهريبة ثلثين المراجل) وربما دعت بعض الأمثال إلى الصمت وعدم معالجة الأمر صراحة والرضا بالسيء والتعايش معه ، فيقولون( غُلُبْ وستيرة ولا غُلب وفضيحة) أو (خليها في القلب تجرح ولا تطلع وتفضح). ومن الأمثال ما تفتت العلاقات الاجتماعية بين الناس وتسهم في التفكك وتجعل الحياة للغالب على المغلوب ، فهي تدعو لزعزعة ثقة المصلحين في الإصلاح كقولهم: ( رعاية البقر ولا رعاية البشر) وقولهم : ( بين البايع والشاري يفتح الله ) ، ومن الأمثال التي تحمل دلالات سلبية وتعبر عن واقع سيء ما يتصل بالحياة الزوجية وهي العلاقة المقدسة التي تتشكل في كيانها الأسرة الصالحة ، فنجدهم يقولون : ( اللي بتزوج أمي هو عمي ) وقولهم : ( ريحة الزوج ولا عدمه ) ومثله (الزوج رحمة ولو كان فحمة) وذلك حين يكون الزواج غير مناسب ، وقولهم : ( امشِ في جنازة ولا تمشِ بجوازه) ومنها ما ينسب العيب في الفتاة إلى أمها ( طبْ الجرة على فمها بتطلع البنت لأمها) ،ومنها ما يثير التشاؤم بإنجاب البنات ويعدّهنّ همّاً مستفحلاً لا خلاص منه كقولهم : ( همّ البنات للممات)، ومنها ما يجعل العلاقة الزوجية قائمة على الشك وانعدام الثقة كقولهم (يا مأمنه للرجال يا مأمنه للميه بالغربال) .
ثم نجد الأخطر في هذه الأمثال وهي تخالف قواعد الإيمان في حياة الإنسان المسلم ولا تتوافق مع عقيدة التوحيد، ونجد كثير من الناس يرددها وهي تطعن في عقيدته من حيث لا يدري، وهي –للأسف-كثيرة منها قولهم : ( الله بيطعم اللحمة للي مالوش سنان) وبعضهم يقول(الفول) أو (الجوز)، وهذا ظلم وافتراء على الله عزّ وجل وشك في عدله، لكنهم حين يعجزون عن تفسير نزول النعمة على واحد أو جماعة من الناس، لا يجدون تفسيراً إلاّ الشك بالعدل الإلهي، لأنه عزّ وجل هو الذي يحدد متى يعطي ومتى يحرم! ومن يرزق ومن يمنع!! وهل هي نعمة أم ابتلاء ونقمة !! وقولهم في البنات : ( جوزت بنتي لارتاح من بلاها أجتني وأربعة من وراها ) فالقائل هنا ينسى أن الذرية من ذكور وإناث من الله عزّ وجلّ، وأن الرزق بيده ، فهو حين يردد هذا المثل يعود للجاهلية ويصدق عليه قول الحقّ جلّ وعلا:” وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم ” وقولهم حين ينتظرون شيئاً لم يأت بعد : ( تا ييجي الصبي بنصلي على النبي) فكأنّ الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم معقودة بتحقق المطلوب، وهذا فهم خاطئ يعبر عن الجهل بثمرة الصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم في كلّ حين وقولهم ( أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب) فهذا المثل لا يتصل بالإسلام في شيء، وهو يدعو إلى العصبية الجاهلية ،لأنه لا ينظر في الجرم بل ينظر في فاعله فقط، ويعبر عن مجتمع تجمعه رابطة الدم لا رابطة العقيدة، ورابطة الدم قد يداخلها الباطل والظلم وهما مرفوضان في الإسلام.
ومن الأمثال التي تتعارض مع تعاليم الإسلام وعقيدته السمحة أيضاً قولهم :(رزق الهَبَل على المجانين) ونلمس من هذا المثل أنّهم يجعلون رزق بعض الناس على بعض وليس بتقدير الله ومشيئته، وقولهم: ( عُمْر الشقي بقي ) أو (يطول) وهم يجعلون الشقاء سبباً لطول العمر ، وينسون أنّ الله قدّر أقوات العباد وآجالهم في كتاب ، وبعضهم يقول:( فلان عايش من قلّة الموت) كأن الموت يقلّ ويكثر بتقديرهم هم لا بتقدير المولى عز وجلّ . وبعض التجار حين تكون حركة البيع قليلة في يوم ما يقول من حيث لا يدري (بيعنا اليوم زي الصلاة على النبي) وكأنّ الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كاسدة فثقل عليه لفظ الكساد وخفّ عليه تشبيهه ( زي على الصلاة على النبي) متناسياً أو متجاهلاً فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم … وغير ذلك من أمثال منتشرة في مجتمعاتنا اليوم.
وخاتمة القول، إنّ الأمثال الشعبية وهي جزء رئيس من التراث الذي تعتزّ به الأمم، إنما تعكس حياة المجتمعات؛ الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والاقتصادية، وما وصلت إليه من رقي وتطور أو جهل وتخلف. وبما إننا مجتمع إسلامي عربي نعاني ما نعاني من المصائب ليل نهار، فحريّ بأمثالنا التي نرددها أن تكون موافقة لبنية المجتمع الذي ننتمي إليه، والعقيدة التي اخترناها، وللتراث الحضاري المشرق الذي ورثناه عن الأجداد ونريد أن ننقله إلى الأحفاد ..!!
أجل، حريٌّ بنا أن تكون أمثالنا مثلُنا في الانتماء والحثّ على الخير والصلاح، والإعلاء من الفضائل والحط من الرذائل، مهما كانت طريق الفضائل طويلة وصعبة؛ فإنّ ظلالها كثيرة، وثمارها وافرة، ونهايتها آمنة؛ ومهما كانت طريق الرذائل سهلة وملوّنة خادعة؛ فإن طريقها غادرة، وألوانها باهتة، وثمارها ممرضة، ونهايتها مدمّرة. ولا نريد أن يصدق فينا قول الشاعر بعد ذلك حين قال :
إذا ما الناسُ جرّبَهم لبيـــــــبٌ فإني قد أكلتُهُمُ وذاقــــــــــــــــــــا
فلم أرَ ودَّهم إلا خداعــــــــــــــــاً ولم أرَ دينَهُمْ إلاّ نفاقــــــــــــــا
*******
د. حسن أبو الرُّب