قصة ( أبو بسّام )



………………….. …
كان رجلا طويلا كنخلة علّقت عليها الأيام أحلامها،عريض المنكبيبن حاد النظرتين يحمل بيده عصا رفيعة يحركها يمينا وشمالا أثناء سيره في الطريق وكانت عيناه تبرقان بالشــــجاعة والعنفوان كعـــيني نسر شامخ . كنت ألتقي به ويحدّثني عن طبريا وعن غزة وعن القدس وأحـــــلام الطفولـــة فيــها ويستغرق بحديثه يحرك عصاه وهو يقول:
تلك هي منازلنا……..!! طبريا والقدس وغزة ونابلس وجنين…………كم هي جميلــــة !وكم هـي رائعة !……..عشرون عاما لم تر عيــناي بيــــادر صــفد . كأننــــي لاأصدق نفسي ! ……بهذه السهولة يطردنا جنود الاحتلال ؟؟؟؟!!
وكنت أقول له :إلى هذه الدرجة تحبها ؟؟فيلتفت إليّ وعيناه تقدحان شررا وهو يقول :وهل هناك أغلى من الوطن ومراتع الصــبا ؟! إذا فقد الإنسان وطنه يا أخي فقد شخصيته وكيانه لابدّ أن أرجـــع إليها ولو ميتا أنت لا تعرف مقدار حرارة النار التي تشتعل في جســــمي كأنني موقد من نار حين أتذكر تلك الديار سيما و أنني قضيت خمس عشرة سنة أتنقل فيها بين السهول و البيادر لم أكـــن أدري أن الأمر سيؤول إلى هذه النتيجة .
قلت له وما عساك أن تصنع و الأمور كانت تجــــري على غـــــير ما نريده جميعاً …….. كنت أتصوره عندما أكون خاليا مع نفـــــسي و هو مسج أمامي كعملاق و أردد بيني و بين نفسي لعله سيفعل شيئا فهو قد التحق بصفوف الفدائيين الذين تحولوا إلى قنابــــل موقوتــــه تتفجر تحت أقدام المحتلين .
جاءني مرة كعادته مساء و جلس إلى جانب الموقد و قال لي و هـــو يحرك عصاه أظنني غداً مسافرٌ لدورة تدريبية…… .الأولاد وصيتي عندك قلت له و هل ستغيب أكثر من شــــــهر أجابنــــي و هو ينكث بعصاه الأرض و يرسم خطوطاً متعامدة من يدري لعل الدورة تمتد أكثر من ثلاثة أشهر على كل حال لا وصية لي عندك إلا الأولاد . و نهض ممسكاً قفل الباب بيده قلت له اجلس يا رجل حتى نشــــرب كأساً من الشاي أجابني مودعاً لا نفس لي بالشاي تصبح على خـــير و اتكأت على فراشي و أنا أحمل بين يدي كتاباً صـــــغيراً أقلــــب صفحاته و أقرأ العناوين الرئيسة فيه .
الفتح العربي الإسلامي للأندلس
معركة اليرموك
معركة القادسية
غزوات العرب المسلمين على القسطنطينية
معركة عين جالوت
و شدت انتباهي أسطر قليلة تتحدث عن فلســـــطين و عن طـــموح الغزاة فيها و طويت الكتاب ثم أغرقت في تفكير عنيف لن تطـــــول أيام الاحتلال فالصهاينة كغيرهم سيهزمون و ترتفع الأعلام العربية فوق القدس و صفد و الجليل و عكا و اللطرون وغزة .
في مساء اليوم التالي كنت جالساً كعادتي إلى المذياع أســــــتمع إلى أخبار السادسة و الربع من إذاعة دمشق .
الأجواء العسكرية مثخنة برائحة البارود
العدو الصهيوني يقوم بإعداد مشروع جديد لتهجير العرب من غزة
عملية فدائية جديدة في صفد
المقاتلون العرب يدمرون باص مبيت لجنود الاحتلال.
العملية قتل فيها أربعون جندياً و ضابطاً إسرائيليا ً و استشهد ثلاثــة من رجال المقاومة و جرح اثنان اشتبكوا مع مجموعات من جنــــود الاحتلال أثناء انسحابهم.
أغلقت المذياع……. تذكرت وصيته إنه معــهــم لقد خدعـــني و قال لي إنه ذاهب إلى دورة تدريبية
مرت ساعات ليست بالقليلة كنت أترقـــــب أخبــــاره فيها بصـــمت
صباح اليوم التالي انطلقت إلى مدرستي الصور معلقة على الجدران
الشهيد البطل محمود ياسين
الشهيد البطل عمر محمد
الشهيد البطل أحمد العربي ( أبو بسام )
وضعت يدي على عيني
لا أريد أن يصدق قلبي ما تراه عيناي
لقد كان يحلم بوطنه بشجاعة
أمله أن يمس جسده تراب الملاعب و البيادر التي احتظنته يوما ً.


الشاعر الناقد حسين هنداوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *