بعد ثمانين يومًا من الاعتقال، سُمح لوالدتي وشقيقتي بزيارتي في سجن الدامون بحيفا التي لنا، لا أُخفيكم سرًا لم أكن أعرف حينها كيف سأستقبلهم، جهزت أجمل الثياب التي استعرتها من أسيرة سابقة (كونه لم يُسمح لي بإدخال ملابس إلّا قبل الإفراج عني بشهر).
سألت شروق الكثير من الأسئلة وكانت تجيبني عليها بحُب كونها سبقتني بكثير من الزيارات حتى يومنا هذا، لم أنم ليلتها، انتظرت وانتظرت، تحاورت مع الجدران وتقلبت في الفراش، ودارت أسئلة كثيرة في مخيلتي، فمتى يحل الصباح؟ ومتى يروى ظمأ عيني برؤية الحبيبة أمي التي تركتها تصارع الليل وحدها في غرفتنا؟ وأفكر، كيف سأسأل عن حالها، وعن صحتها، وعن إخوتي وأخواتي، وصديقاتي، والأقربون لي؟
حل الصباح، جهزت الفطور فالفطور في غرفتي كان من أعمالي، وبدأتُ كعادتي برحلة الإزعاج للبنات حينها: (يلا على الفطور، اللي ما بتيجي تفطر هسّا ما بتفطر بعدين، بديش أعد ها صرلي ساعة بعمل فيه…) الحقيقة كنت أستغرق نصف ساعة في تحضيره، كانت شروق تقول عني: (سلبودة). أي بطيئة.
أفطرنا، وارتديت ثيابي، ورحت أتجول في كل ممرات السجن لتراني الأسيرات، وأسأل ذات السؤال: هل سترى أمي القميص جميلًا؟ وعندما وصل السؤال إلى مسمع إسراء، قالت: أنتِ جميلة، حتمًا ستراه جميلًا.
الجدير بالذكر أن الجميع كان يسأل ذات السؤال عندما يحين دوره في الزيارة.
حان دوري، وسمعت اسمي، فبدأ قلبي يخفق، عرفت حينها أنني سأكون مقيدة بيد أسيرة أخرى، فكانت ياسمين برفقتي، وضحكنا لأننا معًا، رأيت السماء لأول مرة طبيعية دون شِباك، الغيم، والشمس، وشجرة زيتون صغيرة تحمل حبات زيتون! أصررت على النظر إلى السماء حينها، واقتنعت بأننا في الخارج بنعم لا تحصى ومع ذلك نتذمر! فما عدت أتذمر.
كنت أول من يدخل غرفة الزيارة، دخلت بابتسامة عريضة ورأس مرفوع، ابتسمت في وجه عائلة ياسمين وأم المنتصر واقتربت من أمي، جلست على شبه مقعد من الإسمنت البارد يرتدي اللون الأحمر القاتم، وأخذت أناظر عينيها والضحكة على وجهي، قالت شقيقتي وهي تلوح بيدها: لست جدارًا هنا.
واللهِ حينها لم أرَ غير محبوبتي، لا قضبان، لا زجاج يفصل بيننا، لا هاتف ولا سجان، فقط وردة أيامي وحبيبة الليالي.
كنت أجتهد في إضحاكهن بين السؤال والآخر، أسألها عن وديع، وإذا ما بدأ يحبو، أم أنه ينتظرني لأرى حبوه لأول مرة، عن شجرة العنب ومن سبقني بأكل قطوفها، أُخبرها عن الفطور الذي أستغرق نصف ساعة في تحضيره، وعن (المجدرة ببرغل) التي طبختها، عن رسائل إيمان الصوتية التي تهددني فيها أكثر من قول اشتقت لكِ، وعن الإفراج الذي اقترب.
ودعتها بعد خمس وأربعين دقيقة (إيه الزيارة ٤٥ دقيقة في الشهر فقط)، وبعثت معها التحيات والسلام لكل من يسأل عني، قبلتها من بعيد (قبلات الأطفال في الهواء)، وترجلت حتى آخر الممر في الغرفة لأراها تغادر، وقبلتني.
عُدت للقسم، وبدأت الأسيرات يسألنني عن زيارتي وعن شعوري فقد كانت أول مرة، لم أصفه، ضحكت، فقط ضحكت.
سجن الدامون، دالية الكرمل، حيفا/ ٢٦.١٠.٢٠٢٢
الأسيرة المحررة الإعلامية دينا جرادات