عندما وقع الهجوم المقاوم الكبير على المعسكرات والمستوطنات في غلاف غزة في السابع من أكتوبر الماضي، اصاب هذا الهجوم رأس القيادية الصهيونية بالدوَّار والترنح وعدم الاتزان، بل أخرج منها نوبات من الجنون والهستيريا، مما دفع برؤساء الولايات المتحدة الحليف الاكبر لهذا الكيان بايدن ووزير خارجيته بلينكن ووزير دفاعه اوستن، ورؤساء عدد من الدول الاوروبية مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا ورومانيا للحضور الى هذا الكيان من اجل اسنادة ودعمه، وعدم وقوعه أرضا بفعل هذه العملية، وبالرغم من حُقَنْ اعادة التوازن التي قدمتها هذه الدول وغيرها للكيان، إلا أن قيادة هذا الكيان لا زالت تعاني من وقع الصدمة وآثارها في كل القرارات والتوجهات التي تسير بها، لدرجة أن هذه الحالة قد اصابت القيادة السياسية والعسكرية بحالة الانفصام السياسي والعسكري، وضغطت على كل قراراته المتناقضة والمحيّرة، فمثلا رفعت “اسرائيل” ثلاث أهداف لهذه الحرب المجنونة، أو حرب الابادة التي يجري تنفيذها في قطاع غزة منذ شهرين ونصف، وهذه الشعارات كانت ولا زالت تتردد بالعبارات التالية :القضاء التام على حماس والمقاومة، والقضاء على إدارة حماس لغزة، واستعادة الاسرى والمحتجزين الصهاينة والأجانب بفعل الضغط العسكري، والأمر الثالث هو وضع القطاع ما بعد الحرب بإيجاد نظام حكم يتبع الاحتلال ويجعل الامن في يديه.
هذه الشروط الثلاث، وعلى وقع حالة الجنون الهستيرية في قصف القطاع المدمر والغير مسبوق في العالم والتاريخ الحديث، قدمت قرارات “اسرائيل” عبر المؤتمرات الصحفية التي خرج ويخرج بها قادة ما يسمى بمجلس الحرب “نتنياهو ووزير حربه غالانت وعضو المجلس غانتس” أنها دولة القرارات الحاسمة التي تتجه نحو الاهداف المطلقة بالنصر الساحق الماحق المبين الغير قابل للتأويل،لكن تطور الواقع على امتداد أيام وأسابيع الحرب،والذي وصل الشهرين والنصف أبرز حالة الانفصام هذه،والتي تجلت بأكثر من موقف يتناقض مع اهداف الحرب،والتصميم على الانتصار بها،ومن هذه المواقف ما يلي:-
أولا: عملية التفاوض الغير مباشر التي جرت في الايام الحرب الاربعينية بين الكيان وحماس عبر الوسطاء المصريين والقطرين وبضغط من البيت الابيض، والتي اسفرت عن هدنة لمدة اسبوع تم خلالها الافراج عن حوالي 102 من الاسرى والمحتجزين لدى المقاومة، مقابل الافراج عن مئات الاسرى الفلسطينيين الاشبال والأسيرات الماجدات من سجون الاحتلال،فكان رضوخا لشروط المقاومة، وبالتالي تحقيق نصر جزئي لها، بالإضافة لإجبار القيادة الاسرائيلية على إدخال اكثر من الف ومئتي شاحنة غذاء ودواء ووقود الى القطاع بعد ان كان ذلك درب من المستحيل قبل ذلك الاتفاق.
ثانيا : استئناف القتال بعد سحب طاقم التفاوض بخصوص الاسرى من قطر،كان من اهدافه هو الرد على شروط المقاومة في مرحلة الصفقة التالية المنتظرة، فالمقاومة تريد تغيير معايير التبادل في كل الفئات، فإطلاق سراح محتجز لديها مقابل ثلاثة أسى فلسطينيين غير مقبولة تماما، الاحتلال رفض وراهن على الميدان الذي اعتقد انه سيحقق له ما يريد بأقل الاثمان، فجاءت النتائج عكسية وفي غضون نحو عشرين يوما يوما من استئناف القتال، وعلى وقع الخسائر البشرية والآلية المتزايدة، والاخطاء القاتلة التي ارتكبتها في محاولات فاشلة لتخليص عدد من الاسرى، سارعت ” اسرائيل” لطلب النجدة من الوسطاء القطريين والمصريين لهدف تحقيق صفقة تبادل جديدة للإفراج عن اسرى ومحتجزين في غزة، وبحثت أمر الافراج عن اسرى سمتهم “نوعيين”، أي من اصحاب الاحكام العالية والمؤبدة ،وقالت المشكلة ليس بالثمن،لكن المشكلة بالتوصل لاتفاق. وهذا بحد ذاته تنازل يتناقض مع الملعن والمرفوع من شعارات.
ثالثا : في بداية الحرب ” إسرائيل ” اتخذت قرارا بإقتطاع حصة موظفي غزة في السلطة من المقاصة، السلطة رفضت استلام المقاصة مجتزأة، جاء “جيك سوليفان” مستشار الامن القومي الامريكي وأجبر “اسرائيل” على تحويل هذه المبالغ كاملة لكن بشروط، وهذا يعتبر كسر لقرار عقابي اقتصادي يضاف الى القرارات العقابية القاسية التي اتخذتها اسرائيل بحق قطاع غزة بشكل عام من قطع المياه والكهرباء ومنع دخول الطعام والغذاء.
رابعا : التعامل مع قطر الدولة التي تعمل كوسيط منذ بداية الحرب، والكثير ما قامت به يصب في مصلحة الكيان، وارضاء للولايات المتحدة تحت شعار انهاء الحرب ومنع توسعها، قطر هذه نالها من النقد المبطن من “اسرائيل” بالقول على لسان نتنياهو ان لدينا عليها نقد شديد، ومع ذلك يتعامل معها عبر رئيس جهاز الموساد ومسؤولين آخرين كبار بخطى حثيثة.
هذه المواقف وغيرها تظهر التباين والازدواجية بين القرارات ” الاسرائيلية ” التي تبدو حاسمة وجازمة وقطعية في الظاهر، وبين ما يمارس على الارض وفي الغرف المغلقة، والتي تحمل التناقض الكبير والتشتيت الذي انعكس بشكل كبير مع ممارسات الاحتلال الاجرامية في القطاع على حائط التأييد والمساندة التي حظيت به ” اسرائيل ” بداية الحرب، والذي بدأ يتصدع عالميا وأوروبيا وحتى داخليا والذي يؤذن بالانهيار مع مرور الوقت، فحسب استطلاعات الرأي معظم هذا الجمهور” الاسرائيلي” لم يعد يثق بقيادته ولا بآدائها في هذه الحرب، وهذا بحد ذاته نتيجة عوامل كثيرة من ابرزها حالة الانفصام التي تتعامل بها القيادة ” الاسرائيلية ” السياسية والعسكرية .
الكاتب والباحث عصري فياض